عبد الباسط سيدا
الثأر، الانتقام، الكراهية، الحقد مصطلحات توصيفية، تدل على مشاعر سلبية قوية تُفسد العلاقة بين الأفراد والجماعات والمجتمعات والدول؛ بل تلتهم في تصاعدها، وعبر اختلاطاتها مع التحوّلات المجتمعية والاقتصادية والسياسية، ونتائج التقدم العلمي التقني غير المحصنة بالعلوم الإنسانية، وتقضي على إمكانيات البناء والتفاعل الإيجابي مع الإنجازات العلمية في مختلف الميادين، وعلى جميع المستويات.
وقد أسهمت جوانب في النظام العولمي الجديد في تأجيج هذه المشاعر، وترسيخها. من بين هذه الجوانب التقدم الهائل في ميدان الاتصال والتواصل، سواء عبر السفر أم الهجرة، أم الاتصالات الهاتفية، أم تلك التي تتم عبر مختلف وسائط التواصل الاجتماعي. ولهذه الظاهرة جوانبها الإيجابية الكثيرة، ولكن هناك الكثير من الجوانب السلبية التي تتجلى مثلاً عبر امكانية نشر الأخبار الزائفة التحريضية، والدعاية الموجهة ضد الأشخاص والجماعات والمجتمعات بناء على الاعتبارات الشخصية أو الدينية أو القومية أو العرقية وغيرها، ونشر ثقافة العنف والكراهية.
ومع تراجع الاهتمام بالتيارات الفلسفية والفكرية الإنسانية، وهيمنة ثقافة المصالح على مستوى الدول، وتوحش النزعة الاستهلاكية على مستوى المجتمعات والأفراد، وتراجع دور الأسرة لحساب الحريات الفردية، يتسع نطاق ظاهرة الشعبوية السياسية في مختلف المجتمعات، لا سيما في تلك التي تُعتبر متقدمة؛ وذلك بفعل اللعب على وتيرة مشكلات المهاجرين، وتسويق التنوع الثقافي والحضاري بوصفه صراعاً لا بد أن يحسم لصالح طرف على حساب طرف آخر. هذا بالإضافة إلى استخدام فزّاعة الإرهاب للتغطية على مختلف التجاوزات التي تقوم بها السلطات المستبدة الفاسدة المفسدة في مجتمعات الأطراف/ المجتمعات النامية، أو تلك التي هي في طريقها نحو النمو.
وبتفاعل هذه العوامل وغيرها مع جملة المشكلات التي تعاني منها مختلف المجتمعات، يتشكل مناخ قاتم مشحون حتى الذروة بالتوتر والتشنج، مما يهدد بإمكانية الانفجار في أية لحظة.
وما يلاحظ في هذا السياق، هو أن الثأر والانتقام يستمدان نسغهما من الماضي، سواء البعيد أم القريب. وغالباً ما يتم استخدامهما ليكونا محور حملات تعبوية موجهة نحو مجموعة أو مجموعات بعينها، تصبح موضوعاً للثأر أو الانتقام. أما الحجة، أو الحجج، فهي أنها قد أساءت من موقع انتمائها الطائفي أو القومي أو العرقي، وحتى المناطقي المختلف، إلى المجموعة الحاملة للمشروع التدميري الثأري الانتقامي. أو بكلام أدق للمجموعة التي تحولت بدورها إلى موضوع للمشروع الانتقامي بناء على رغبات وحسابات الزمرة المهيمنة ضمن هذه المجموعة. والأمثلة حول هذا الموضوع في منطقتنا كثيرة، صارخة صادمة بكل أسف. يتمثّل أبرزها في النزعة الانتقامية الثأرية التي أجّجها النظام الإيراني عبر استغلال المظلومية الشيعية التي اتخذ منها أيديولوجية ليتمدد في دول المنطقة عن طريق القوة الناعمة أولاً (مراكز ثقافية، جهود دعوية، كتب ومنشورات مجانية أو شبه مجانية، مشاريع خدمية…الخ)، ومن ثم عبر تشكيل المجموعات والميليشيات المذهبية، لتكون جزءاً من مشروعه القومي التوسعي تحت يافطة الانتقام من أحفاد أولئك الذين ظلموا الأئمة، وتسبّبوا في سلب الحق من أصحابه، ووقفوا إلى جانب الظالم المعتدي.
وقبل ذلك، كان النظام الأسدي في سوريا قد استغل المظلومية العلوية، ليتخذ من الطائفة أداة قمعية لحكمه المستبد.
وفي مواجهة هذه المظلومية، والنزعات الانتقامية المتمحورة حولها، برزت المظلومية السنية التي أراد القائمون على إثارتها استعادة المكانة والامتيازات التي كان يتمتع بها السنة، سواء في سوريا أم في العراق، وحتى في لبنان. ودخلت مجتمعاتنا دوامة عنف فظيعة، تسبّبت في تفجير النسيج المجتمعي من الداخل. إذ لم يعد الصراع المسلح بين الجيوش كما كان الحال أثناء الحرب العراقية – الإيرانية، أو مقتصراً على عمليات محددة تستهدف مفاصل الدولة أو مجموعات مسلحة هنا أو هناك، بل أصبحت العمليات الإرهابية تستهدف المدنيين العزل من الأطفال والنساء والشيوخ، وفي مختلف الأماكن، لا لشيء سوى لانتمائهم إلى هذا المذهب أو ذاك، وذلك بهدف تفتيت المجتمع من خلال تأليب مكوناته بعضها ضد بعضها الآخر.
إلى جانب النزعة الانتقامية المذهبية الكبرى هذه، هناك نزعات انتقامية فرعية كامنة أقل انتشاراً، وأخف حدة، منها النزعات التي تبرز هنا وهناك بين المتطرفين العرب والكرد، وبين سكان الريف والمدينة، وإلى حدٍ ما بين المسلمين والمسيحيين… ولكنها نزعات لم تتحول بعد لحسن الحظ إلى صراع مفتوح، بل ما زالت في طور التململ والتوتر والتشنج، يمكن معالجتها عبر معالجة أسبابها وفق أسس عادلة قوامها رفع الظلم، والإقرار بالحقوق، وإفساح المجال أمام الجميع للمشاركة والاستفادة من الموارد، وكل ذلك سيساهم في الحد من مشاعر الحقد والكراهية التي تعمي بصيرة ضحاياها، وتقودهم نحو المسارات المؤذية، خاصة في ظل غياب أنظمة الحكم الغيورة على مواطنيها وأوطانها، والحريصة على مستقبل أجيالها المقبلة من دون أي تمييز.
أما على المستوى الدولي، فيلاحظ أن التوجهات القومية، والنزعات العنصرية، قد بدأت تهيمن في العديد من المجتمعات، بما فيها تلك الديمقراطية في الغرب نتيجة معاناتها من الكثير من الثغرات وحالات الفساد التي لم تصبح بعد خارج السيطرة، ولكن الخشية هي من أن تصبح كذلك مستقبلاً، ما لم تعالج الأمور معالجة تشمل الأسباب البنيوية للأزمة التي تعاني منها أنظمة الحكم في المجتمعات المعنية. وهي أزمة تتمثل في جملة من المشكلات التي ترهق المواطن الغربي في مختلف الميادين، مثل التعليم والعمل والصحة والسكن وخدمات رعاية المسنين وانتشار المخدرات وجرائم القتل وغيرها، وهي مشكلات غالباً ما تستغلها القوى السياسية الشعبوية في سعيها من أجل كسب المزيد من الأصوات.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن العديد من العمليات الإرهابية التي شهدتها بعض الدول الأوروبية (فرنسا، ألمانيا، بلجيكا، السويد وغيرها) قد عزّزت ذرائع هذه القوى اليمينية العنصرية، ومكّنت وسائل الإعلام التي تبث البروباغندا الخاصة بها من التأثير على قطاعات واسعة من الرأي العام الغربي، وخاصة في أجواء التكامل بين ظاهرتي الإسلاموفوبيا من جهة والتطرف الإسلاموي العدمي من جهة ثانية.
ورغم الجهود الإيجابية الواعية التي تبذلها العديد من الحكومات والأحزاب الغربية والجمعيات والشخصيات الفكرية والفنية من أجل إدانة العمليات التي تندرج ضمن خانة الإرهاب الأبيض أو العنصرية البيضاء، فإن المؤشرات لا توحي بالخير إذا ما استمرت الأوضاع الراهنة على حالها، ولم تُبذل جهود جادة حازمة، تستهدف معالجة الأسباب بصورة جذرية.
ظاهرة تصاعد اليمين المتطرف في الغرب تنذر بالكثير من المخاطر الفعلية، وبدورة عنف دموية، ما لم تتفاهم الأحزاب الأوروبية والغربية عموماً بعيداً عن الاستقطابات والمحاور الكلاسيكية، وتعزيز ذلك بخطوات وبرامج واقعية، تضع حلولاً ممكنة، مقرونة بجداول زمنية مقبولة لجملة المشكلات التي يعاني منها الناس.
ولكن كل ذلك لن يكون كافياً ما لم تبذل جهود حثيثة لدعم النزوع الديمقراطي في مجتمعات الشرق الأوسط، وشمال وسط أفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وغيرها من المناطق التي تكون أنظمة الحكم فيها طاردة لمواطنيها الذين يتوجهون لاجئين نحو المجتمعات الغربية، حاملين معهم آمالهم وطموحاتهم، ومثقلين في الوقت ذاته بجملة من المشكلات التي تحول دون اندماجهم في المجتمعات الجديدة، فيتحولون إلى كتلة أو مادة تتولّد في داخلها، وفي مواجهتها، مشاعر مختلطة من الحقد والكراهية، وعدم الانسجام. وكل ذلك لا يخدم مجتمعاتهم الأولى، كما لا يفيد مجتمعاتهم الجديدة في المحصلة العامة. وحدها الشعبوية السياسية هي التي تستفيد من هذا الواقع، فهي تحول مآسي الناس ومعاناتهم إلى وسيلة لتعزيز المواقع، والعمل من أجل الهيمنة عبر إخراج الخصوم من دائرة التأثير.
والسؤال هو: هل ستستمر الشعبوية بأشكالها المختلفة في التصاعد لتصبح عنوان الحقبة الكونية القادمة؟ أم أن ما نشاهده مجرد فقاعات ستتلاشى مع ارتطامها مع الوقائع، سواء الإيجابية منها أم السلبية؟
المصدر: القدس العربي