آلان حسن
يقول الكاتب الأرجنتيني خورخي بورخيس: “الإفراط في الأمل إسراف في اليأس”. وقد يعبّر هذا القول بدقة عن حالة كُرد سورية، بعد عقود من التهميش والإقصاء، تلتها سنوات خمس أسّسوا، في مرحلتها الأولى، إدارة ذاتية في ثلاث مقاطعات، الجزيرة وكوباني (عين العرب) وعفرين. كانت وحدات حماية الشعب (الكُردية) هي التي تدير الجانب العسكري، وحركة المجتمع الديمقراطي (تجمع يضم أحزابا وتنظيمات نسوية ومؤسسات مدنية) عرّاب المشروع، وكانت قوات الأسايش (قوات الأمن الداخلي الكردية) المسؤولة عن الأمن. تعرّضت كوباني لهجوم عنيف من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أواخر العام 2014، ما استدعى تحالفاً غريباً بين “الوحدات” ذات التوجه اليساري مع مَن تعتبرها رمزاً للرأسمالية العالمية، الولايات المتحدة الأميركية. ووفّر “تحالف الضرورة” هذا أرضية قوية لبناء علاقة أقوى، تكللت بتأسيس “قوات سورية الديمقراطية”، لتكون شريكة معتمدة للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وخاضا معاً معارك تل أبيض والرّقة ودير الزور.
جرى ذلك بالتوازي مع تأسيس مجلس سوريا الديمقراطية ممثلا سياسيا لقوات سوريا الديمقراطية، لكنه لم يستطع أن يقنع أحداً بمشاريعه، وبقي ظلاً لقواته العسكرية، ولم يستطع اختراق أيٍّ من العقد الدبلوماسية التي واجهته طوال سني عمله، خصوصاً مواجهة الفيتو التركي على مشاركته في أي ملتقىً يتعلق بمستقبل سورية.
تطوّر مشروع الإدارة الذاتية إلى فيدرالية مجتمعية، كانت ربما من أكبر أخطاء قوات سوريا الديمقراطية، حيث راهنت على دعم غربي مشابهٍ لحالة كُردستان العراق، وكانت حسابات خاطئة. ومن حينه، بدأ الخط البياني للمشروع الكُردي بالتراجع. تدخلت تركيا عسكرياً لفصل “مقاطعتي كوباني وعفرين”، وسيطرت على مدن جرابلس والباب وإعزاز، أوائل 2016، وأَتبعتها بالسيطرة على عفرين، مطلع 2018، معلنةً بذلك قضم المشروع الكُردي السوري، فكانت الضربة غير القاضية لأحلام الكُرد.
لم يستطع مجلس سورية الديمقراطية أن يقنع الولايات المتحدة بإشراكه في محادثات جنيف، ولا في اللجنة الدستورية المكلفة بكتابة دستور سورية الجديد، ولم تنفع مراهنته على دورٍ فرنسيٍّ يسد الفراغ الأميركي. وتزامن ذلك مع انتهاء المعارك ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وهذا ما زاد من تخوّف الكُرد من أن تستخدم الولايات المتحدة مشروعهم كعجل للتسمين، تبيعه، في النهاية، لمن تختاره. وفي الأثناء، كانت تركيا أبرز المتحمّسين لتوجيه الضربة القاضية للمشروع الذي بات يؤرّق رئيسه المأزوم داخلياً، رجب طيب أردوغان، بفعل خسارته كبرى المدن التركية في الانتخابات البلدية، والنزيف الداخلي لحزبه، العدالة والتنمية، وكذلك الأزمات الاقتصادية التي أثقلت حكومته.
وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب يزن الملفات التي ورثها عن سلفه باراك أوباما، بميزان الاقتصاد وحسب. ولذلك اعتبر وجود قوة أميركية في سورية عبئاً على إدارته، فأعلن مطلع 2018، بعد اتصال هاتفي مع نظيره التركي أردوغان، أنه غير معني بالبقاء في سورية، وسينسحب منها خلال شهر، حيث اعتبرها “بلد الرمال والموت” وحسب. وقوبل قراره هذا بالرفض من قيادات وزارة الدفاع الأميركية، ومن دول أوروبية، خصوصاً أنه جاء قبل الانتهاء من القضاء تنظيم الدولة الإسلامية، فأقنعوا الرئيس بالعدول عن قراره، أو تأجيله على أقل تقدير. عيّن ترامب مبعوثاً سياسياً عوّل عليه الكُرد لوضع استراتيجية للبقاء في منطقة شرق الفرات، ولكن ذلك لم يحدث. واتصال آخر بين أردوغان وترامب جعل الأخير يقرّر، من دون رجعة، سحب قواته من سورية، وترك المنطقة لمصيرها وللجيش التركي وفصائل المعارضة السورية الموالية لها.
كانت الحرب أخيرا أقسى من سابقتها، باعتبارها معركة وجود، ولم يكن الكرد يملكون ترف الخيارات التي تمكّنهم من تدوير الزوايا. وجاء الانسحاب الأميركي مفاجئاً في توقيته وصرامة تنفيذه، والهجوم التركي أسرع من أن يستوعبوه، فكانت الضربة قاصمة لـ”روج آفا”، المولود الذي عايشته مكوّنات المنطقة، ورأوه يذبل أمام أعينهم. اختار قائد “سوريا الديمقراطية” الخيار الذي تحاشاه دائماً، اللجوء إلى روسيا، للتوسط بينه وبين دمشق التي لم تكن لتقبل أي طروحاتٍ لا مركزية من غير المنصوص عليها في دستور سورية عام 2012، والذي يؤكد على اللامركزية الإدارية، ولو بحدّها الأدنى.
ربما سيكون هذا الخيار، على الرغم من تأخّره، الأفضل لحاضر سورية ومستقبلها. الجانبان يشاطران “العداء” لتركيا والإسلام السياسي، ولم يشهد بينهما اقتتال بضحايا كثر يصعب إزالة آثارها، بالإضافة إلى احتفاظهما بعلاقة جيدة مع الاتحاد الروسي، ضابط إيقاع الحرب السورية. بالإضافة إلى أن مناطق شرق الفرات لم تشهد أي نزاعات دينية أو عرقية، وبالتالي، من السهولة أن يتقبّلوا فكرة عودة الاندماج مع الداخل السوري، والسعي معاً إلى تكريس علمنة المجتمع.
أنجزت قوات سوريا الديمقراطية مهمتها في حماية “مناطقها” من التيارات المتشدّدة، واختارت الخيار بالتحالف مع الحكومة السورية وروسيا في مواجهة تركيا وفصائل المعارضة السورية الموالية لها، وباتت مهمة الجميع ابتداع حل سياسي، تُنصَف فيه القوميات في سورية، وأن تحلّ القضية الكُردية في إطارها الوطني. سيكون ذلك أحد أهم مرتكزات بناء سورية قوية، غير معرّضة لهزاتٍ ما بعد ربيع العام 2011.
المصدر: العربي الجديد