روبرت مالي ترجمة: علاء الدين أبو زينة
لم يعد الأصدقاء والأعداء، على حد سواء، يعرفون أين تقف الولايات المتحدة. وبينما تفرط واشنطن في بذل الوعود وفي النكث بها، تسعى القوى الإقليمية إلى إيجاد الحلول لمشكلاتها بمفردها –سواء كان ذلك من خلال العنف أو الدبلوماسية.
تعمل النزاعات المحلية كمرايا للاتجاهات العالمية. وهي تعكس الطرق التي تبدأ، وتتكشف، وتدوم، وتُحل بها التحولات في علاقات القوى العظمى، وشدة المنافسة فيما بينها، واتساع طموحات الجهات الفاعلة الإقليمية. وتسلط الضوء على القضايا التي يكون النظام الدولي مهوَّساً بها وتلك التي لا يلقي إليها بالاً. وتروي الحروب التي تستعر اليوم قصة نظام عالمي عالق في التباشير المبكرة لتغيير شامل –وزعماء إقليميين متشجعين -وخائفين في الوقت نفسه، من الفرص التي يتيحها مثل هذا الانتقال.
سوف يُظهر الزمن وحده كم ستدوم أحادية الولايات المتحدة في التعاملات، وازدراؤها الحلفاء التقليديين، وتسامحها مع المنافسين التقليديين –وكم من هذه الاتجاهات سيختفي مع رئاسة دونالد ترامب. ومع ذلك، سيظل من الصعب إنكار أن ثمة شيئاً يجري على قدم وساق. إن تفاهمات وتوازنات القوة التي كان عليها النظام العالمي في السابق –البعيدة عن الكمال، وغير العادلة، والإشكالية كما هو حالها- لم تعد تعمل. وفي الوقت نفسه، تبدو واشنطن حريصة على الاحتفاظ بفوائد قيادتها للنظام القائم وغير راغبة بالمشاركة في تحمل أعباء هذه القيادة. وهي، نتيجة لذلك، مذنبة بالخطيئة الأساسية لأي قوة عظمى: السماح باتساع الفجوة بين الغايات والوسائل. في هذه الأيام، لا يعرف صديق ولا عدو أين تقف الولايات المتحدة بالضبط.
كما أن أدوار القوى الكبرى الأخرى تتغير أيضاً.
تبدي الصين صبر أمة واثقة بنفوذها المتراكم، لكنها ليست في عجلة من أمرها لتحويل هذه النفوذ إلى ممارسة كاملة. إنها تختار معاركها، مع التركيز على الأولويات التي حددتها لنفسها: السيطرة المحلية وقمع المعارضة المحتملة (كما هو الحال في هونغ كونغ، أو مع الاعتقال الجماعي للمسلمين في شينجيانغ)؛ والسيطرة على بحرَي الصين الجنوبي والشرقي؛ وممارسة لعبة شد الحبل في الحرب التقنية المتصاعدة مع الولايات المتحدة، والتي أصبح فيها زميلي مايكل كوفريج -المحتجز ظلماً في الصين لأكثر من عام- أضراراً جانبية. وفي الأماكن الأخرى، تبدو لعبتها طويلة الأجل.
على النقيض من ذلك، تظهر روسيا نفاد صبر أمة ممتنة للقوة التي جلبتها لها هذه الظروف غير العادية، والتي تتوق إلى تأكيد هذه القوة الجديدة قبل نفاد الوقت. وسياسة موسكو في الخارج انتهازية -تسعى إلى توظيف الأزمات في خدمة مصالحها- وهو ما يوفر لها اليوم القدر الذي تحتاجه من الاستراتيجية. ومن خلال تسويق نفسها كشريك أكثر صدقاً واستحقاقاً للثقة من القوى الغربية، تقوم بمساندة بعض الحلفاء بدعم عسكري مباشر، فترسل مقاولين عسكريين من القطاع الخاص إلى ليبيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، للتدليل على نفوذها المتزايد.
بالنسبة لهذه القوى جميعاً، ينطوي منع نشوب الصراعات أو حلها على القليل من القيمة المتأصلة. وهي تقيّم الأزمات بمقاييس تعزيز مصالحها أو الإضرار بها، والكيفيات التي يمكن أن تعزز بها مصالح خصومها أو تقوض تلك المصالح. وفي الأساس، يمكن أن تكون أوروبا ثقلاً موازناً، ولكن تماماً في اللحظة التي تحتاج فيها للتقدم إلى الفجوة، تجد نفسها في نضال شاق مع الاضطرابات الداخلية، والشقاق بين قادتها، وانشغال مفرط بالإرهاب والهجرة بطريقة كثيراً ما تحرف السياسة عن سكتها.
ويمكن أن تكون عواقب هذه الاتجاهات الجيوسياسية قاتلة. يمكن للإيمان المبالغ فيه بالمساعدة الخارجية أن يشوه حسابات الجهات الفاعلة المحلية، ويدفعها إلى اعتناق مواقف متصلبة لا تقبل التسوية، ويشجعها على تقحُّم الأخطار التي تعتقد أنها محصنة ضدها. في ليبيا، ثمة أزمة تنطوي على خطر التحول إلى ورم خبيث خطير، بينما تتدخل روسيا نيابة عن جنرال ثائر يزحف نحو العاصمة، وترسل الولايات المتحدة رسائل مشوشة، وتهدد تركيا بالقدوم لإنقاذ الحكومة في طرابلس، وتظهِر أوروبا –القريبة على مرمى حجر- عجزاً عن فعل أي شيء وسط صدوعها الداخلية. وفي فنزويلا، يتصادم تعنُّت الحكومة، الذي يغذيه اعتقاد بأن روسيا والصين ستخففان صدمة سقوطها الاقتصادي، مع افتقار المعارضة إلى الواقعية، والذي تمكّنه الاقتراحات الأميركية بأنها ستطيح بالرئيس نيكولاس مادورو.
وكانت سورية –وهي صراع غير مدرج في هذه القائمة- نموذجًا مصغرًا لكل هذه الاتجاهات: هناك، قامت الولايات المتحدة بدمج قصف المهيمِن بموقف المتفرج الجانبي. وتشجعت الجهات الفاعلة المحلية (مثل الأكراد) بالوعود المفرطة التي بذلتها الولايات المتحدة، ثم خاب أملها من النكث الأميركي بالوعود. وفي الوقت نفسه، وقفت روسيا بحزم وراء حليفها القاسي، في حين سعى آخرون في الحي (تركيا على وجه الخصوص) إلى الاستفادة من الفوضى.
لكن الأخبار السيئة قد تنطوي على شذرة من الخير. فبينما يفهم القادة محدودية دعم الحلفاء، يتدخل الواقع. المملكة العربية السعودية تشجعت في البداية مما بدا شيكاً على بياض منحته لها إدارة ترامب، ومددت عضلاتها الإقليمية -حتى دفعتها سلسلة من الهجمات الإيرانية الوقحة والإحجام الأميركي الواضح عن الرد، والتي أظهرت للمملكة مدى انكشافها، إلى البحث عن تسوية في اليمن، وربما عن تهدئة للتصعيد مع إيران.
بالنسبة للعديد من الأميركيين، تصنع أوكرانيا قصة دنيئة ومثيرة للجدل عن سياسة المقايضة والإقالة. لكن الأولوية بالنسبة لرئيس أوكرانيا الجديد العالق في قلب تلك العاصفة، فولوديمير زيلينسكي، هي إنهاء الصراع في شرق البلد -وهو هدف يبدو أنه يدرك تماماً حاجة كييف إلى التسوية لتحقيقه.
وربما يكون آخرون بصدد تعديل وجهات نظرهم أيضاً: ثمة الحكومة الأفغانية وسماسرة القوة الآخرين المناهضون لطالبان، الذين أصبحوا يقبلون حقيقة بأن القوات الأميركية لن تظل موجودة إلى الأبد؛ وثمة إيران والنظام السوري، الذين يرون أن اختيال روسيا الممكّنة حديثاً في الشرق الأوسط لا يكاد يحميهما من الضربات الإسرائيلية. وقد لا تكون هذه الجهات الفاعلة وحيدة تماماً، لكن ذهاب دعم حلفائها إلى هذا الحد فقط ربما يعيدها من عليائها إلى الأرض والواقع. ثمة فضيلة في الواقعية.
ولدينا اتجاه آخر يستدعي الانتباه أيضاً: ظاهرة الاحتجاجات الجماهيرية التي تشهدها جميع أنحاء العالم. إنها تعبير عن استياء من عدم تكافؤ الفرص، والذي يهزّ بلداناً يحكمها اليسار واليمين؛ ديمقراطيات وأوتوقراطيات؛ ودولاً غنية وأخرى فقيرة، من أميركا اللاتينية إلى آسيا وأفريقيا. ولعل اللافت من بينها بشكل خاص تلك الاحتجاجات الجارية في الشرق الأوسط -لأن العديد من المراقبين اعتقدوا أن خيبات الأمل وفقدان الأوهام وسفك الدماء المروع الذي حدث في أعقاب ثورات 2011، سوف تثني المواطنين عن محاولة جولة أخرى.
لقد تعلم المتظاهرون الدروس، واعتادوا على الاحتجاج الصبور الطويل، وتجنبوا في معظم الأحيان العنف الذي يصب في صالح خصومهم.
كما تعلمت النخب السياسية والعسكرية أيضاً، بطبيعة الحال، اللجوء إلى وسائل مختلفة لتجاوز العاصفة. في السودان، التي يمكن القول إنها كانت واحدة من القصص الإخبارية الأفضل في العام المنقضي، أدت الاحتجاجات إلى سقوط الأوتوقراطي القابض على السلطة منذ وقت طويل، عمر البشير، وشهد البلد مرحلة انتقالية يمكن أن تسفر عن قدوم نظام أكثر ديمقراطية وسلمية. وفي الجزائر، في الوقت نفسه، لعب القادة لعبة الكراسي الموسيقية فحسب. وفي العديد من الأماكن الأخرى، شنت الأنظمة حملات قمع. ومع ذلك، ما يزال الإحساس السائد بغياب العدالة الاقتصادية الذي أوصل الناس إلى الشوارع قائماً. وإذا لم تستطع الحكومات الجديدة أو القديمة معالجة ذلك، فينبغي أن يتوقع العالم المزيد من المدن التي تشتعل في هذا العام الجديد.
أفغانستان
يُقتل عدد من الأشخاص جراء القتال في أفغانستان أكثر من أي صراع آخر في العالم اليوم. ومع ذلك، قد تنفتح نافذة في العام الجديد لبدء عملية سلام تهدف إلى إنهاء الحرب المستمرة منذ عقد.
لقد ارتفع سفك الدماء إلى مستويات محلقة خلال العامين الماضيين. وهزت هجمات منفصلة شنها مقاتلون من طالبان و”داعش” المدن والبلدات في جميع أنحاء البلاد. وكان سفك الدماء في الريف أقل ظهوراً. وصعدت واشنطن وكابول من الهجمات الجوية والغارات التي تشنها القوات الخاصة، حيث غالباً ما يتحمل المدنيون وطأة العنف. وقد وصلت المعاناة في المناطق الريفية مستويات هائلة.
وسط تصاعد العنف، أجريت الانتخابات الرئاسية الأفغانية في أواخر أيلول (سبتمبر). وأعطت النتائج الأولية، التي تم الإعلان عنها في 22 كانون الأول (ديسمبر)، الرئيس الحالي أشرف غاني هامشاً ضئيلاً على حد شعرة فوق نسبة الـ50 في المائة اللازمة لتجنب جولة إعادة. ومن غير المتوقع إقرار النتائج النهائية، بعد الفصل في الشكاوى، قبل نهاية شهر كانون الثاني (يناير). وفي الأثناء، يعرب منافس غاني الرئيسي، عبد الله عبد الله، الذي أدى تحديه للنتائج على بدعوى وجود احتيال واسع في انتخابات 2014، إلى أزمة طويلة الأمد ثم إلى اتفاق لتقاسم السلطة في نهاية المطاف، يعرب عن الاحتجاج الشديد هذه المرة أيضاً. أما إذا كان الخلاف سيؤدي إلى جولة ثانية من الاقتراع فغير واضح، لكن من المرجح في كلتا الحالتين أنه سيستهلك القادة الأفغان بحلول العام 2020. لكن العام الماضي شهد، مع ذلك، بعض الضوء في دبلوماسية الولايات المتحدة وطالبان. لأول مرة منذ بدء الحرب، أعطت واشنطن الأولوية للتوصل إلى اتفاق مع المتمردين.
وبعد أشهر من المحادثات الهادئة، وافق المبعوث الأميركي إلى أفغانستان، زلماي خليل زاد، وقادة طالبان على مسودة اتفاق بالأحرف الأولى. وبموجب الاتفاق، تعهدت الولايات المتحدة بسحب قواتها من أفغانستان –وهو مطلب طالبان الأساسي- في مقابل وعد من المتمردين بالتخلي عن تنظيم القاعدة، ومنع استخدام أفغانستان للتخطيط لشن هجمات في الخارج، والدخول في مفاوضات مع الحكومة الأفغانية ومع وسطاء القوة الرئيسيين الآخرين في البلد.
لكن الآمال تحطمت عندما أعلن ترامب فجأة إنهاء المحادثات في أوائل أيلول (سبتمبر). وكان قد دعا قادة طالبان للقدوم إلى كامب ديفيد، إلى جانب غاني. وعندما رفض المتمردون القدوم ما لم يتم التوقيع على الاتفاق أولاً، استند ترامب إلى هجوم شنته طالبان وأسفر عن مقتل جندي أميركي لإلغاء الاتفاق الذي كان مبعوثه قد وقعه.
ثم، بعد أن تغلبت عملية لتبادل الأسرى في تشرين الثاني (نوفمبر) على مقاومة ترامب كما يبدو، بدأ الدبلوماسيون الأميركيون وممثلو طالبان يتحدثون مرة أخرى، على الرغم من أنه ما يزال من غير الواضح ما إذا كانوا سيعودون إلى نفس تفاهمهم السابق أم لا. وفي واقع الأمر، ليس لدى الولايات المتحدة خيار أفضل من متابعة السعي إلى عقد صفقة مع طالبان. فاستمرار الوضع الراهن لا يعرض سوى احتمال حرب بلا نهاية، في حين أن الانسحاب السريع للقوات الأميركية من دون اتفاق يمكن أن يؤذن بالعودة إلى الحرب الأهلية متعددة الجبهات التي استعرت في التسعينيات –بل وحتى بقدوم عنف أسوأ.
يجب أن يمهد أي اتفاق الطريق لمحادثات تجرى بين الأفغان، وهو ما يعني ربط وتيرة انسحاب القوات الأميركية بكل من هدفي مكافحة الإرهاب ومشاركة طالبان بحسن نية في محادثات مع الحكومة الأفغانية وغيرها من القادة الأفغان الأقوياء. وسيشكل اتفاق الولايات المتحدة وحركة طالبان بداية طريق طويل للتوصل إلى تسوية بين الأفغان، وهي شرط أساسي للسلام. لكنّ من المؤكد أن هذا الاتفاق يوفر الأمل الوحيد لتهدئة الحرب الأكثر دموية وقتلاً في عالم اليوم.
المصدر: (فورين بوليسي) الغد الأردنية