ستيفن أ. كوك*
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
لطالما كانت المنطقة تعاني مشاكل -لكنها تجاوزت الآن نقطة التعافي تقريبًا.
كان الصيف دائمًا أقسى المواسم في الشرق الأوسط. وتشمل الأمثلة حرب حزيران (يونيو) 1967، والغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982، واختطاف طائرة شركة الخطوط الجوية “ترانس وورلد إيرلاينز” رقم 847 في العام 1985، وغزو صدام حسين للكويت في العام 1990، ومغامرة تنظيم “داعش” الجامحة في العراق في العام 2014. وقد انضم صيف العام 2020 مسبقاً إلى تلك القائمة. ولكن، ينبغي أن يكون العالم مستعداً للتعايش أيضاً مع احتمال آخر. بالنظر إلى مدى انتشار إراقة الدماء واليأس والجوع والمرض والقمع، فإن فصلًا جديدًا -وأكثر قتامة- في تاريخ المنطقة على وشك أن يبدأ.
منذ أكثر من عقد بقليل، تخيل المحللون منطقة تكون فيها الأنظمة السياسية سلطوية، لكنها مستقرة بطريقة موثوقة. ومنذ اندلاع الانتفاضات العربية في العام 2011، تحول السرد إلى واحد يتحدث عن غياب الاستقرار، وإنما مع توقع موجة جديدة وشيكة من التحول الديمقراطي والمزيد من التقدم الاقتصادي والسياسي.
لكن هذه الآمال ولت الآن. لطالما واجه الشرق الأوسط تحديات -من التدخل الأجنبي والزعماء الاستبداديين، إلى التنمية الاقتصادية المشوهة وغير المتكافئة، والتطرف، والحروب، والصراعات الأهلية. لكن هذا العام أضاف إلى المزيج جائحة كونية وركوداً عالمياً معذِّباً، وهو ما أنجب نطاقاً من الأزمة يتجاوز ما كان عليه في أي وقت آخر في التاريخ.
أصبحت المنطقة ديستوبيا موسومة بالعنف، وعودة الاستبداد، والاضطراب الاقتصادي، والصراع الإقليمي، مع عدم وجود أي طريق واضح للخروج. كانت هناك أوقات في الماضي غير البعيد، والتي جعلت فيها التطورات في الشرق الأوسط حتى أكثر المتفائلين يصبح نهباً لليأس، لكن تلك كانت لحظات بدا فيها أن الأزمات تأتي فرادى، واحدة في كل مرة. وعندما تراجعت وخفت حدتها، كان هناك دائمًا احتمال بأن أياماً أفضل سوف تأتي. ولكن، ليس بعد الآن. لأول مرة، من المنطقي تمامًا أن يشعر المرء بفقدان الأمل واليأس المطلق بشأن الشرق الأوسط.
* * *
وسلسلة الأهوال طويلة. ثمة اليمن، أفقر دولة في المنطقة؛ حيث أدت حرب أهلية متعددة الأطراف بالوكالة إلى تدمير المستشفيات وقاعات الأفراح والحافلات المدرسية المليئة بالأطفال وسط تفشٍ فالت من العقال لوباء الكوليرا -وهو الأكبر المسجل في تاريخ علم الأمراض- والآن “كوفيد-19″، الذي قال رئيس الصحة في اللجنة الدولية للصليب الأحمر إنه “من المستحيل إدارته” في ذلك البلد. وعلى نحو لا يختلف كثيراً عن اليمن، فإن العراق بلد في حالة انهيار نهائي مع أمل ضئيل في تغيير وجهة حظوظه. وذلك لأن المؤسسات السياسية العراقية تتمكن من توليد الفساد بينما تستدعي الاستغلال من إيران المجاورة. وفي بعض الأحيان، يكون فشل الدولة حالة مزمنة، كما هو الحال مع مصر. فمنذ وصوله إلى السلطة في انقلاب مدعوم شعبياً في العام 2013، لم يشرف النظام المصري على هجوم متعدد الأعوام على المجتمع فحسب، وإنما بدأ أكثر الفترات دموية وقمعًا في البلاد في التاريخ المصري المعاصر. ثم هناك الفلسطينيون، الذين يبدو أن قدرهم هو العيش في وجود غريب ومروع، محاصرين في قطاع غزة أو يعيشون في الضفة الغربية مع بهارج الدولة، وواجهة معقدة وضافية من الوزارات، والبروتوكول، والبيروقراطية.
لكن اليمنيين، والعراقيين، والمصريين والفلسطينيين، ليسوا وحدهم المتضررين الذين يعانون في المنطقة، ولا هم أكثر رموزها دلالة على الانهيار. تستحق حالات لبنان وسورية وليبيا دراسة أعمق. في تلك الأماكن، يبدو المسير الطاحن والمتواصل للديستوبيا أوضح من أي مكان آخر وقد أصبحت تلك البلدان على حافة انهيار غير مسبوق.
تعرّض لبنان، الذي كثيراً ما يُشار إلى عاصمته، بيروت، باسم “باريس الشرق الأوسط”، إلى ضربة مدمرة تلو أخرى. في الخريف الماضي، حاولت الحكومة فرض ضريبة يومية بمقدار 20 سنتًا على اتصالات “واتس-أب”. وكانت تلك خطوة ناشزة غريبة حتى اتضح مدى اليأس الذي وصلت إليه الحكومة لزيادة الإيرادات في اللعبة المراوغة التي أصبحت مالية لبنان. لطالما اجتذبت البنوك الخاصة الودائع بالدولار من خلال الوعد بمنح أسعار فائدة عالية ثم استدارت وأقرضت الأموال للحكومة. وفي منتصف العام 2019، انخفضت الودائع بالدولار، لكن الجمهور اللبناني المفزوع وغير المستقر بدأ يطالب بالمزيد من الدولارات. ومن أجل الحفاظ على وهم استقرار العملة -وهو أمر مهم لجذب الدولارات- حافظ محافظو البنوك المركزية في لبنان على سعر صرف الليرة مقابل الدولار عند حوالي 1500 إلى 1. وكان ذلك عندما تولت السوق السوداء التحكم بالأمور، ما أدى إلى تحطيم وهم استقرار الليرة، والذي أدى بدوره إلى انخفاض حاد في سعر صرف العملة اللبنانية. وأنتج ذلك عالَماً هو الأسوأ من بين كل العوالم الممكنة: ثمة تضخم جامح، وحكومة غير راغبة -أو غير قادرة على إجراء إصلاحات، واندلاع احتجاجات جماهيرية واسعة ضد ضريبة “واتس-أب”، والتي سرعان ما تحولت إلى مطالب بجلب ولاية الحكومة إلى نهاية. وفي آذار (مارس)، تخلف لبنان عن سداد ديونه.
ثم أضافت جائحة فيروس كورونا فقط إلى بؤس الأزمة المالية في لبنان. وعلى الرغم من أن معدل الإصابة ومعدل الوفيات (حوالي 1 في المائة) يبقى منخفضاً مقارنة بالدول الأخرى في المنطقة، فقد فرضت السلطات إغلاقات كان لها تأثير مضاعف على الواقع الاقتصادي للبنانيين. والآن، يتعامل الأشخاص الذين طردوا من العمل بسبب الأزمة الصحية مع الآثار الموازية من الانحدار السريع في قيمة العملة. وقد أصبحت قيمة الليرة أقل بنسبة 80 في المائة مما كانت عليه في خريف العام 2019، ما جعل السلع والخدمات أكثر تكلفة. ويقدر البنك الدولي أن الفقر سيتضاعف تقريبًا في العام 2020، ليشمل ما قد يصل إلى 50 في المائة من السكان. ويعاني اللبنانيون، مثل اللاجئين السوريين والفلسطينيين في وسطهم، من انعدام الأمن الغذائي. وقد ازدادت التعاملات بالمقايضة في جميع أنحاء البلاد؛ حيث يحاول الناس يائسين تأمين ما يكفي من الإمدادات للبقاء على قيد الحياة على أساس يومي. ويقول الناس الذين عانوا من تجربة الحرب الأهلية إن الوضع الاقتصادي الآن أسوأ بكثير مما كان عليه في ذلك الوقت.
وحتى لو كان لدى صندوق النقد الدولي ما يكفي من الموارد لمساعدة لبنان، فليس من الواضح من الذي ستكون لديه السلطة للذهاب إلى الصندوق، أو ما إذا كانت لديه أي قدرة على تنفيذ إصلاحات مؤلمة. وقد انهارت الدولة، ومعها مصداقية وسلطة الجماعات والفصائل السياسية اللبنانية، بما في ذلك حزب الله. والسبب الجذري لحالة الأمور الخطيرة في البلد هو قصة قديمة ومتكررة؛ النظام السياسي الطائفي في البلد، الذي كان يهدف إلى خلق توازن تقريبي، وإنما غير متكافئ، لضمان قدر ضئيل من الاستقرار، لم يكن أكثر من نظام توزيع غنائم للقادة المارونيين والسنة والشيعة الذين نهبوا البلاد. ويريد المتظاهرون -محقّين- تمزيق هذا كله، ولكن لصالح ماذا؟
لن تصنع التعميمات الغامضة شيئاً في الفضاء المتنازع عليه الذي أصبح عليه لبنان، حيث الجماعات مسلحة، والجهات الخارجية لها مصالح قاهرة، والمنافسة على من يسيطر على ما تبقى من موارد الدولة شديدة. وقد أكد المراقبون، في كثير من الأحيان، أنه من غير المرجح أن يسقط لبنان في دوامة من ذلك النوع من العنف الذي اجتاح البلاد بين 1975 و1990. كانت الذاكرة التاريخية عظيمة جداً وتم إحراز تقدم كبير للغاية في إعادة توحيد البلاد. وأصبحت ظاهرة أمراء الحرب شيئًا من الماضي والذي تم ترويضه في اللعبة السياسية لما بعد الحرب. وهذا يبعث على الارتياح على أحد المستويات. لكن لبنان كان في ظل الظروف الحالية برميل بارود جاهز للانفجار في معظم فترات الصيف. وبعد ذلك وقع الانفجار في مرفأ بيروت، وأدخل البلد في مزيد من الاضطرابات، وأدى -برحمة من الله- إلى استقالة الحكومة.
بالطبع يمكن للمرء أن يستحضر أي عدد يريده من السيناريوهات للبنان، ولكن، سيكون من السذاجة التفكير بجدية في أي سيناريوهات إيجابية. في أعقاب انفجار المرفأ، كان الشعب اللبناني هو النقطة المضيئة الوحيدة في المشهد؛ حيث تجمعوا معاً لمساعدة بعضهم بعضا وتنظيف الشوارع من الحطام. ولكن بينما يمر الوقت، ومع ذهاب البلد إلى مزيد من المشقة، سوف يترك الناس وحدهم ليعثروا على الأمان والعون النسبيين بأنفسهم. وأين يمكن أن يفكر المرء بأنهم سيجدونهما؟ على الأرجح حيث وجدوهما من قبل: داخل أطر طوائفهم الدينية ومجتمعاتهم العرقية الخاصة. ومما يزيد من هذا البؤس سقوط لبنان في سياق إقليمي مضطرب. ثمة عدد من اللاعبين الخارجيين والداخليين الذين قد يرغبون في استغلال محن هذا البلد للضغط على أعدائهم وخصومهم، بمن فيهم حزب الله.
ربما يمارس الإسرائيليون، والسعوديون، والإيرانيون وغيرهم ضبطًا غير معتاد للنفس، لكن هذا يبدو غير مرجح بالنظر إلى الحوافز لمواصلة المعارك الإقليمية بالوكالة في تلك الأماكن تحديدًا حيث الدولة إما غير موجودة أو موجودة بالكاد. ويبقى المستقبل مجهولاً، لكن المسار العام للبنان سلبي على نحو يكاد يكون مؤكدًا إلى حد ومحزن.
* * *
لكنّ اللبنانيين لم يُجبروا على الأقل على تحمل ما اختبره جيرانهم السوريون على مدار العقد الماضي تقريبًا. أصبح نظام بشار الأسد آلة موت وتشريد. وخصومه الذين كانوا ذات مرة مسالمين وأرادوا فرصة لبناء مجتمع أفضل، أخلوا مكانهم منذ فترة طويلة لمجموعة من الميليشيات والمتطرفين والقوى الخارجية التي تشن حربًا ضد الأسد وضد بعضها بعضا لأسباب وغايات خاصة بها -ودائمًا على حساب السوريين. وجعل التجاهل شبه الكامل للحياة البشرية طوال فترة الصراع من الإحصاءات المعروفة شيئاً بلا معنى. لكنها تبقى، حتى مع ذلك، مهمة بما يكفي لتحتمل التكرار حتى لو أنها لا تُحتمل: أدى الصراع في سورية إلى مقتل ما يقدر بنحو 585.000 شخص، بما في ذلك عشرات الآلاف من الأطفال. وفر أكثر من 12 مليون سوري -نسبة مذهلة تبلغ 57 بالمائة من سكان سورية قبل الحرب- من ديارهم. ومن بين أولئك الذين فروا، يعيش 5.6 مليون إنسان الآن كلاجئين في جميع الظروف القاسية التي يمكن تخيلها مع فرصة ضئيلة للعودة إلى ديارهم أبداً.
منذ وقت ليس ببعيد، كان التفكير في العواصم الغربية والعربية هو أن الأسد انتصر -إلى حد كبير بسبب التدخل العسكري الروسي والدعم الدبلوماسي، لكن الحرب في سورية ما تزال مستمرة. وفي الأماكن التي كان يُعتقد في السابق أنها حُيِّدت، ثمة احتجاجات جديدة تظهر وعنف جديد من النظام. ومع استمرار تدهور الاقتصاد السوري مع انهيار لبنان وغياب أي إعادة إعمار محتملة، أصبح أنصار الأسد أنفسهم مشاكسين حيث لم تتحقق مكاسبهم الاقتصادية المتوقعة من النصر. ويعِدُ فرض عقوبات أميركية جديدة من خلال “قانون قيصر لحماية المدنيين في سورية” -والذي يستهدف على وجه التحديد أعضاء الدائرة المقربة من الأسد، وأنصار النظام، والكيانات التي تتعامل معهم- بتفاقم المشاكل الاقتصادية وبمزيد من العزلة الدولية للحكومة السورية.
لا شك أن هتافات ابتهاج ستُسمع في مختلف أنحاء العالم إذا سقط نظام الأسد، لكنها ستكون فرحة عابرة فحسب. من المرجح ألا يؤدي سقوط الأسد إلى نهاية الصراع على سورية، وإنما إلى مرحلة جديدة في القتال فحسب. وليست فكرة أن المتقاتلين سوف يلقون أسلحتهم ويتفاوضون للمضي قدمًا بعد الكثير من إراقة الدماء سوى فكرة غير واقعية، تماماً مثل الفكرة الأخرى -التي تم تأكيدها غالبًا في الأيام الأولى للانتفاضة السورية- بأن الأمر كان مجرد مسألة وقت قبل سقوط الأسد. ومهما يكن ما يحدث، فإن السوريين الذين يتبقون في البلاد سيظلون عالقين في وسط الصراع، وسيُجبرون على البقاء في أرض ممزقة يتقاتل عليها أناس لا تعرف قسوتهم حدودًا، مع عدم وجود نهاية للعنف في الأفق.
* * *
تلقى انهيار ليبيا قدراً من الاهتمام أقل بكثير ما تلقاه دمار سورية. في العام 2011، عندما فر معمر القذافي من طرابلس، اعتقد بعض المحللين الغربيين أن لدى الليبيين أفضل موقف في المنطقة لبناء مستقبل ديمقراطي ومزدهر لأن ليبيا، كما قالوا، هي “صفحة نظيفة”. سوى أن الأمر لم يكن كذلك وسرعان ما تشرذم البلد.
مع انقسام ليبيا على أسس جغرافية وقبلية، تدخلت مجموعة مذهلة من الميليشيات والجماعات المتطرفة عبر الخروق، وفي الوقت المناسب ادعت حكومتان مختلفتان أنهما تمتلكان التفويض لقيادة البلاد. وانزلق البلد إلى حرب أهلية شاملة وواسعة النطاق عندما سعى الجنرال خليفة حفتر إلى الإطاحة بخصومه المتمركزين في طرابلس في ربيع العام 2019. وفي هذا الجهد، حصل الموالون السابقون للقذافي على دعم كل من مصر، والإمارات العربية المتحدة، وفرنسا، وروسيا، والتي كانت لديها جميعًا مجموعة من المخاوف التي جعلتها تلتقى على دعم حفتر وجيشه الوطني الليبي.
لكنّ مسيرة حفتر نحو طرابلس رُدّت على الأعقاب مؤخرًا بمساعدة تركيا وأعضاء من الميليشيات السورية المتحالفة مع تركيا. وتتكون مصالح أنقرة في ليبيا من مزيج من السياسة الداخلية التركية، والمبدأ، وسعي إلى تولي القيادة الإسلامية، والعداء لمصر والإمارات العربية المتحدة، والحسابات الجيوستراتيجية. ومثل خصومهم، لا يهتم الأتراك كثيرًا برفاهية الليبيين أو بعيشهم، وسعوا إلى تمديد أمد الحرب على الرغم من سلسلة الهزائم التي مُني بها حفتر واستعداده المفاجئ للمفاوضات. وقد يكون التقحُّم التركي في غير محله؛ فقد تم إضعاف حفتر لكنه لم يهزم. وإذا بالغ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تقدير قوة بلاده، فقد يواجه هو وحلفاؤه في طرابلس خصومًا متحمسين ومستجمعين الزخم حديثًا في الجزء الشرقي من البلاد.
هكذا ثارت كل تلك الأسئلة في واشنطن والعواصم الأوروبية في مطلع الصيف حول احتمالات اندلاع حرب بين تركيا ومصر. وقد أظهر الأتراك قدرة عسكرية كبيرة في مساعدة الحكومة المعترف بها دوليًا في طرابلس على تحويل الهزيمة شبه المؤكدة إلى نصر محتمل. لكن هذا أثار حفيظة المصريين. منذ العام 2013، قادت تركيا الجهود المبذولة لنزع الشرعية عن نظام السيسي وتقويضه. ورحبت أنقرة بجماعة الإخوان المسلمين في تركيا بعد الانقلاب الذي أطاح بمحمد مرسي وجلب السيسي إلى سُدة السلطة. ويقف البلدان على طرفي نقيض من الصراعات الكبرى في المنطقة، بما في ذلك في سورية وغزة، وبالطبع في ليبيا. ولم يستعرض المصريون مطلقًا القوة العسكرية بنجاح خارج حدودهم، لكن ليبيا هي الفناء الخلفي لمصر. ومع تزايد النشاط البحري التركي في شرق البحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك إبرام اتفاقية حول منطقة للحظر الاقتصادي البحري مع الليبيين، فإن المخططين الأمنيين المصريين قلقون بلا شك ويستشعرون الخطر. وفي الأسبوع الثالث من حزيران (يونيو)، أعلن السيسي أن نية طرابلس استعادة مدينة سرت بمساعدة تركية هي “خط أحمر”.
ربما كان ذلك خدعة، ولكن على الرغم من كل الضعف التقني للجيش المصري مقارنة بالقوات المسلحة التركية -ثاني أكبر القوات المسلحة في بلدان حلف الناتو- فإن المصريين يستطيعون حشد الكثير من الجنود والدروع وطائرات “إف-16″ضد الأتراك، الذين يعملون بعيداً عن الوطن. ومن شأن أي صراع يشمل هذين الجيشين أن يزيد من تفتيت ليبيا، ويؤدي إلى استمرار الصراع الأهلي، ويهيئ البلد للانقسام الفعلي. وفي ظل هذه الظروف، يبدو أن سيف الإسلام، نجل القذافي، كان محقًا عندما حذر مواطنيه الليبيين في شباط (فبراير) 2011، من أنهم، على عكس التونسيين والمصريين، سيقاتلون بعضهم بعضا على مدار الأعوام الأربعين المقبلة، على الرغم من أنه من غير الواضح ما إذا كان قد فهم مقدار المساعدة التي سيحصلون عليها في قتل بعضهم بعضا من الغرباء.
جاءت بعض السلوى لليبيين في شكل اقتراح لوقف إطلاق النار صدر عن حكومة طرابلس في آب (أغسطس). وكان ذلك أخباراً سارة رحب بها المصريون والإماراتيون ورئيس مجلس النواب في الشرق عقيلة صالح عيسى. ومع ذلك، لم يتراجع حفتر ولم يوافق على الاقتراح، وتواصل قواته القتال بالقرب من سرت. وحتى لو أنه اضطر إلى إلقاء سلاحه، فإنه يبدو من غير الواقعي بعد عقد من الصراع أن نتوقع من الليبيين أن يتوصلوا إلى نوع من الاتفاق الدائم حول نوع النظام السياسي الذي يريدونه. وفي غياب مثل هذا التفاهم، سوف تستمر الضغوط التقسيمية على ليبيا في تأجيج العنف. وسوف يكون هذا سيئًا بما فيه الكفاية، لكن مصالح القوى الخارجية منخرطة الآن بشكل كامل في ليبيا؛ حيث يخوض الروس والأتراك والقطريون والمصريون والإماراتيون والفرنسيون والإيطاليون صراعات إقليمية على السلطة تمتد من الخليج الفارسي إلى شواطئ أوروبا المتوسطية. وهو خليط سام من القضايا التي لا تصلح مطلقاً لجلب السلام والأمن لليبيين. (يُتبَع)
*Steven A. Cook هو كبير زملاء إيني إنريكو ماتي لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا في مجلس العلاقات الخارجية. أحدث مؤلفاته كتاب بعنوان “الفجر الكاذب: الاحتجاج والديمقراطية والعنف في الشرق الأوسط الجديد”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The End of Hope in the Middle East
المصدر: (فورين بوليسي) / الغد الأردنية