محمود الوهب
كُتِبَ الكثير عن موجات التطبيع المتلاحقة التي بدأتها دولة الإمارات العربية المتحدة لتتلوها مملكة البحرين، وفي الطريق دول مثل عمان والسودان والمغرب. والمتأمل في تركيبة بعض تلك الدول تاريخاً ومواقف، يجد لها الأسباب الكافية.. وحتى المملكة العربية السعودية، وما تعطيه بعض مؤسساتها الخدمية، وأدواتها الإعلامية من إشارات تؤكد أنَّ خطواتها الوئيدة في الطريق نفسه، رغم أن لديها مبادرة قدمها الملك عبد الله – رحمه الله – إلى مؤتمر القمة العربي في بيروت عام 2002 وتبناها مجلس الجامعة العربية، وقبلتها الشعوب العربية بمن فيها الفلسطينيون، وقد جاءت، وفقاً للظروف السائدة، بنوع من الموضوعية، وقد تضمنت حلولاً يمكن إيجازها بـ “إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دولياً على حدود 1967 وعودة اللاجئين الفلسطينيين، والانسحاب من هضبة الجولان مقابل الاعتراف المتبادل وتطبيع العلاقات بين الدول العربية مع إسرائيل”. لكن إسرائيل التي تدرك تقهقر البلاد العربية المستمر، تريد تطبيعاً يفرضه مبدأ القوة.. ذلك ما أكده نتنياهو بالذات، خلال توقيعه اتفاقية التطبيع مع دولة الإمارات العربية.
واضح أن بعض الدول العربية التي ذهبت إلى التطبيع هدفت إلى أمر واحد هو البحث عن حماية لها من خطر عدو آخر، ولا أحد يعرف من أين أتت هذه الفكرة الجهنمية.. فكرة الاحتماء بعدو من عدو آخر.. لا بد أن يكون صاحبها بنيامين نتنياهو، ومؤيدها دونالد ترامب، وعرَّابها ذلك القادم على مهل.. لا شك في أن إيران خلال عشر السنوات الماضية قد مارست الاحتلال الفعلي لعدد من البلاد العربية، رافقه تدمير شامل أحال تلك البلاد إلى خراب شامل، كما وصل التهديد الإيراني الأماكن المقدسة، الأمر الذي دفع بلاد التطبيع إلى طلب الحماية من عدو آخر.. والسياسي الأحمق أو السفيه، من يفاضل بين عدوين لدودين يعرفان حاله وأحواله، فيستجيبان طمعاً بمصالح لهما، يفصح عنها بعد وقوع الفأس في الرأس..
كل ذلك واضح وإن يكن غير مبرر أبداً.. لكن أن تأتي دولة ما يسمى بالمقاومة أو الممانعة.. دولة عاشت عمرها على شعارات القضية الفلسطينية والوحدة العربية ومقاومة ما يسمى بالعدو الصهيو/أميركي أن تأتي هكذا، وفي وضح النهار، وتستقبل وفداً إسرائيلياً في قاعدة حميميم، وكأن هذه الأرض السورية قد غدت أرضاً محايدة، يعني روسية بامتياز، فهذا ما يلفت لأول وهلة، ولكن الأمر متوقع لمن يمعن النظر في نهاية ذلك المسار الذي بدأه بشار الأسد منذ الطلقات الأولى على السوريين المتظاهرين.. إذاً لا شيء يثير الدهشة أو الاستغراب إذ ما الذي يمكن أن يرجى ممن وضع جيشه في مواجهة شعبه، واتهم المتظاهرين بالخيانة والعمالة لإسرائيل، بعد أن دس أجهزته الأمنية لترفع علم إسرائيل تخريباً للمظاهرة! اليوم وبعد أن تدمرت سورية، فما الذي تبقى لدى بشار الأسد، وطغمته العسكرية التي تحكم سورية منذ خمسين سنة، ليتوسل به إسرائيل “عدوه اللدود” كي يبقى.. لا شيء غير سورية المدمرة بيديه ورعونة سياسته، وانصياعه للأجنبي الذي يفاوض اليوم على وجوده؟!
يقول التقرير الإخباري الذي نشره موقع مركز “جسور للدراسات” ونقلت عنه عدة صحف ومواقع منها جريدة الشرق الأوسط وموقع البوابة ومواقع أخرى متعددة:
“شهدت قاعدة حميميم في شهر كانون الأول/ديسمبر (نهاية العام الماضي 2020) لقاءً جمع بشار الأسد بمسؤول أمني إسرائيلي، وبحضور وفد عسكري واستخباراتي روسي، ووفقاً للمعلومات الموثوقة فإنّ اللقاء حضره من الجانب السوري رئيس مكتب الأمن الوطني “علي مملوك”، ومستشاره الخاص للشؤون الأمنية والاستراتيجيَّة اللواء “بسام حسن”، ومن الجانب الإسرائيلي الجنرال غادي إيزنكوت من رئاسة هيئة الأركان، والجنرال السابق في الموساد آري بن ميناشي، وبحضور أليكساندر تشايكوف قائد القوات الروسية في سورية”.
وقد عرض الأسد في هذا اللقاء عدّة مطالب، أبرزها العودة لجامعة الدول العربية، والحصول على مساعدات مالية لسداد الدين الإيراني؛ وبالتالي فتح المجال لنظامه لإخراج إيران من سورية، ودعمه لتثبيت حكمه، وإعادة العلاقات مع المحور السني العربي، ودعم سورية اقتصادياً، ووقف العمل بالعقوبات المفروضة على سورية وإيقاف قانون العقوبات سيزر”.
أما الجانب الإسرائيلي فقد طلب “تفكيك ما يسمى بـ “محور المقاومة والممانعة”، وإخراج إيران من سورية بشكل كامل، وإخراج قوات حزب الله اللبناني، وكامل المليشيات الأجنبية من سورية.. إلخ”
تلك كانت جوهر المباحثات، ولا يغير من الأمر شيئاً نفي الجانب السوري لما جرى فالطرفان الآخران لم ينفيا بل على العكس، فقد صرح سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي خلال مؤتمره الصحفي السنوي في موسكو بأن روسيا تعمل على ألا تكون سوريا ساحة تستخدم ضد الدولة العبرية، وقال: “إن بلاده اقترحت على إسرائيل إبلاغها بالتهديدات الأمنية الصادرة من أراض سورية، لتتكفل بمعالجتها، حتى لا تكون سورية ساحة للصراعات الإقليمية”. وشدد لافروف على أنَّ روسيا لا تريد “أن تُستخدم الأراضي السورية ضد إسرائيل، أو أن تُستخدم، كما يشاء كثيرون، ساحة للمواجهة الإيرانية – الإسرائيلية”. ثم إن المباحثات بين سورية وإسرائيل لم تتوقف على مدى تسعينيات القرن الماضي وصولاً إلى العام 2008 سواء كانت مباشرة أم غير مباشرة.. ثم إن النظام السوري لم يُدِنْ على نحو صريح وواضح عمليات التطبيع التي قام بها، أن يتوسل منهم اليوم بشار الأسد الأموال، فما الذي تغير؟ لا شيء غير أن سورية منهكة اليوم أكثر من أي وقت مرَّ في تاريخها الحديث.. منهكة بالقتل والسجون، منهكة بالتجاوز على أملاك المواطنين الذين هُجِّروا قسراً، منهكة بالفساد، وتوحش أثرياء الحرب، منهكة بعجز نظامها عن فعلِ أي شيء تجاه من ينتهك أرضها وشعبها، منهكة بتحصيل لقمة العيش، ورغيف الخبز.. منهكة بالرئيس الذي رغم جرائمه كلها لا يزال يتشبث بالسلطة، وهو مستعد لبيع ما تبقى، إن كان قد بقي شيء.. المهم أن يبقى مالكاً للمزرعة التي ورثها عن أبيه..
وإذا كانت الشعوب العربية لم تؤيد، ولن تؤيد التطبيع، فلأنها تدرك جيداً أن قدرات العرب كبيرة، لكن الحكام يبددونها عبثاً وعمداً.. والحديث لا يعني النواحي العسكرية التي تشكل عامل ضعف لكثرة ما تهدره من موارد الدولة وأموال الشعب، وفي النهاية لا تأتيه إلا بالهزائم المذلة.. بل يعني الحديث الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، سواء على صعيد البلد العربي الواحد أم عليها مجتمعة، والاستفادة من العلاقات الدولية ومن تناقضاتها، ويعني الحديث أيضاً إمكانيات الأفق الواسع أمام تنمية فعلية تجيء معها القوة والعزة والكرامة.. وتبدأ التنمية في عصرنا بتحرير طاقات الشعوب وقدراتها وباقتلاع كلِّ نظام يعجز عنها..
المصدر: موقع تلفزيون سوريا