د. مخلص الصيادي
قبل أيام نشرت نيويورك تايمز مقابلة أجراها الصحفي الأمريكي المخضرم “روبرت فورسيث وورث”، الرئيس السابق لمكتب صحيفة التايمز في بيروت، أحد أهم الصحفيين الأمريكيين متابعة لوقائع الربيع العربي، وعنه صدر كتاب ” غضب من أجل النظام ” الذي نال عليه جائزة ليونيل جيلبر لعام 2017.
المقابلة متضمنة في تقرير مطول كتبه وورث عن اللقاء الذي نشرته المجلة، ويمكن اعتباره بمثابة استعراض لمسار الوضع في ليبيا منذ ما قبل الربيع الليبي، وحتى اللحظة الراهنة، وفي هذا المسار يمكن للمتابع ان يستجمع أطراف المسألة الليبية، ويجد بعضا من التفسير لعجز الحراك الليبي عن الخروج من وحول التقاتل، التي كان التدخل الأطلسي، وتصارع المصالح الغربية على الساحة الليبية أحد أهم مولدات هذا العجز، وحنين الليبيين الى تلك المرحلة التي كان يقودها معمر القذافي لما توفر فيها من استقرار وتقدم وكفاية، وأيضا محدودية الفساد، ومحدودية نطاقاته.
روبرت ف وورث التقى سيف الإسلام القذافي في مدينة الزنتان في مايو الماضي، وإذا كان ما قدمه من عرض عن هذا اللقاء صحيحا ـ وليس هناك ما يمنع ذلك ـ فإن تحول سيف الإسلام من أسير محكوم بالإعدام، ينتظر تنفيذ الحكم، إلى “زعيم” له وزنه، وتتطلع إليه أنظار كثير من الليبيين، وهو في المكان نفسه في الزنتان لم يغادره منذ نقل إليه عقب أسره قرب الحدود مع النيجر في مايو 2011، يلخص بكثافة شديدة حالة الردة عن “تلك الثورة”، إلى أبرز رجالات ذلك العهد ليكون لهم بمثابة منقذ مما هم فيه من فوضى وفساد وتشرذم، واستباحة للدماء والوطن والحياة.
وينقل وورث عن سيف الإسلام وصفه لهذا التحول: بأن “المقاتلين الذين اعتقلوه قبل عشر سنوات قد تحرروا من وهم الثورة وأدركوا في نهاية المطاف أنه قد يكون حليفا قويا لهم… هل لك أن تتخيل، الرجال الذين كانوا حراسي هم الآن أصدقائي”.
يروي وورث عن سيف الإسلام كيف جاء أحد حراسه إليه معتذرا بعد أن قتل ابن له نتيجة الفوضى التي تجتاح البلاد مؤكدا له أن تلك ” الثورة” التي قاموا بها لم تكن صحيحة، ويقول سيف الإسلام أن هذه الواقعة كانت بداية تحوله من أسير إلى رجل حر طليق، أو لنقل استعادته لمكانته ك “زعيم”، أو مشروع ” زعيم”.
ولا شك أن الأحداث الجزئية والذاتية لها مكانة في تغير المواقف، لكن القذافي الابن لم يكن مجرد مخطوف من قبل هذا الشخص أو ذاك، وإنما كان أسيرا عند جماعة “الزنتان”، وكتائب “الزنتان” جماعة مسلحة منتمية لقبيلة الزنتان كان لها دورها الطليعي المبكر في الحراك العروبي الإسلامي، ولاحقا في حركة المعارضة والقتال ضد نظام القذافي، وقد سيطرت لسنوات على مطار طرابلس وعلى جزء من العاصمة، وهي معارضة لما عرف ب”جماعات الإسلام السياسي”، وتحملها مسؤولية انحراف ثورة الشعب الليبي عن أهدافها. كما أنها معارضة للجنرال “خليفة حفتر” وتصفه بأنه مجرم حرب. لذلك فإن تلك الواقعة الشخصية التي يسردها وورث نقلا عن “سيف الإسلام” لا تقدم تفسيرا للتحول الذي وقع تجاهه، ولا يمكن أن يكون هذا التحول قرار نابع من حراسه، بل لعل الوصف الدقيق الذي قدمه سيف الإسلام للوضع الراهن في ليبيا ـ وهو وصف كأن الليبيين باتوا مجمعين عليه ـ يفسر لنا هذا التحول بشكل واقعي وموضوعي، اذ يجمع معا قضايا الحياة واحتياجاتها مع قضايا الكرامة والعزة الوطنية، يقول سيف الإسلام :” لقد اغتصبوا بلادنا وأذلوها، ليس لدينا مال ولا أمن، ولا حياة، إذا ذهبت الى محطة الوقود فلن تجد وقودا، نحن نصدر النفط والغاز الى إيطاليا ـ نحن نضيء نصف إيطاليا ونحن نعاني من انقطاع الكهرباء، ما يحدث تخطى حدود الفشل، إنه مهزلة”.
كذلك لعل في غياب سيف الإسلام عن التطورات الدامية التي شهدتها الساحة الليبية على مدى سنوات الصراع السابقة العشر، وما برز فيها من زعامات ومحاور ومصالح، وما ارتكب فيها من تجاوزات ومجازر وفساد، يجعل منه وقياسا لكل زعماء هذه المرحلة “رجلا” نظيفا، خصوصا وأنه قبل انفجار الوضع في ليبيا، في آخر زمن والده، كان يعتبر بالنسبة لكثيرين “فرصة” للتغيير السلمي والتطور في ليبيا، وكان يقدم نفسه، وكذلك يقدمه نظام القذافي الأب باعتباره الشاب المثقف ـ مواليد 1972، خريج “كلية لندن للاقتصاد” عام 2008، الحامل لدرجة الدكتوراة في الفلسفة PhD، الداعي لإغلاق ملف العنف والتجاوزات واعتماد الحوار طريقا لإدارة الخلافات داخل الوطن.
“سيف الإسلام ” أبدى في حواره مع وورث نوعا من التمسك بأفكار والده بخصوص الكتاب الأخضر، ومال إلى تبرير جرائم وتجاوزات تلك المرحلة وخصوصا مذبحتي سجن بو سليم في 29 يونيو 1996، والتي راح ضحيتها قرابة 1300 سجين سياسي ونظيرتها في سجن معسكر اليرموك يوم 23 أغسطس 2011، التي نفذتها كتيبة خميس القذافي، وراح ضحيتها العشرات ممن كانوا محتجزين في سجن المعسكر، ـ وقد التقى وورث شهودا عيان على تلك المذابح ـ ومع ذلك فإنه يعتقد ـ كما أخبر محاوره ـ أن الملاحقات القانونية أمام الجنائية الدولية المبنية على مواقفه أيام تفجر المعارضة المسلحة لحكم والده لا تمثل مشكلة له، إذ “من الممكن معالجتها”.
ورغم ما يضفيه تمسكه بالنظرة الإيجابية لحكم والده، من سلبيات في الحكم عليه وعلى أهليته للمرحلة القادمة، فإننا لا يمكن أن نغفل أثر تجربة أسره عند الزنتان وخصوصا بعد أن تحول من أسير إلى مقيم منذ العام 2014، وما نفترض أن يكون قد جرى من حوارات ومراجعات مع آسريه، جعلتهم أكثر اطمئنانا له، وأضافت له بعدا جديدا جعلته أكثر رصانة ووعيا، وتفهما لاحتياجات الليبيين.
بيرث يكشف لنا في تقريره بعضا من أوجه المسألة الليبية التي قد تضيع في خضم الأحداث المتلاحقة، ومن خلال تطلع الجميع إلى عبور ليبيا هذا الوضع الشاذ وصولا إلى بر السلامة والوحدة والأمن، فيتحدث في تقريره عن دور ومكانة الجنرال “خليفة حفتر” قائد ما سمي بالجيش الليبي الوطني، ويذكر بعلاقته بالمخابرات المركزية الأمريكية حينما كان يحارب تحت لواء القذافي في تشاد، قبل أن يؤسر في العام ١٩٨٧ ثم يطلق سراحه بعد ثلاثة أعوام في صفقة مع المخابرات المركزية مع حكومة تشاد المدعومة فرنسيا، وهي التي تولت نقله إلى مدينة لانغلي بولاية فيرجينيا حيث يوجد مقرها، وقد منح الجنسية الأمريكية بعد ذلك بثلاث سنوات، وفي تلك المرحلة أدين حفتر في ليبيا بالخيانة العظمى وحكم عليه بالإعدام.
ثم يعود إلى ليبيا ليقود مجموعة مسلحة ضمت العديد من أنصار القذافي ومسلحيه الذين كانوا يعملون ضمن كتائبه، والذين يمثلون الآن الغاما في بنية ” الجيش الوطني الليبي” الذي يتزعمه، الغاما يمكن أن تنفجر في أي لحظة لصالح سيف الإسلام.
ويؤكد وورث أن هؤلاء لا يحملون أي احترام حقيقي لحفتر، ويبدو أن الآخرين ـ داخل ليبيا وخارجها ـ الذين يشكلون الخارطة الليبية لا يحملون هم أيضا احتراما له، خصوصا بعد أن خاض في العام ٢٠١٤ حربا ضد المجلس الوطني الليبي، ثم قاد في العام ٢٠٢٠ محاولة للسيطرة على العاصمة الليبية وانتزاع السلطة من الحكومة التي كان المجتمع الدولي معترفا بها، وفي هذه المعارك ارتكبت قواته والميليشيات المحتمية به، جرائم حرب، وقد التقى وورث بعض الشهود على تلك الجرائم وتوقف بتفصيل على إحدى مجازر ترهونة عام 2017، التي راح ضحيتها أكثر من 120 شخصا من بينهم أطفال ونساء.
وتشير المعلومات أن أنصار نظام القذافي وكتائبه لجأوا إلى الدخول في تشكيلات حفتر العسكرية باعتبارها الممكن الوحيد المتوفر لهم آنذاك. والذي يمكن أن يؤمن لهم المال والسلاح والأمن أيضا.
كذلك يكشف مقال وورث جانبا من الدور الروسي الرسمي وغير الرسمي في دعم الجنرال حفتر، وإذا كان الدور الرسمي يتمثل في الدعم العسكري عبر الاسلحة والمستشارين لقوات حفتر ولسلطة المجلس الوطني قبل الاتفاق الأخير الذي أنهى انقسام السلطة، فإن “وورث” يشير إلى وجود ٢٠٠٠ مرتزق روسي ممن يعملون بعقود مع شركة “فاغنر” وهي منظمة لمرتزقة تنفذ الأعمال القذرة التي تريدها القيادة الروسية، ولا تريد أن تحسب على صفحتها، ـ وهي في ذلك مثل شركة بلاك ووتر الأمريكية ـ. ولها دورها في الحرب القذرة التي تشارك فيها إلى جانب قوات النظام السوري ضد المعارضة السورية، كما لها أدوار ومهام في أوكرانيا وعدد من الدول الافريقية.
ورغم هذا الدعم الروسي لحفتر فإن علاقة حفتر بالولايات المتحدة والمخابرات المركزية الأمريكية لا تخفى على موسكو، وهي تعتبر علاقتها بحفتر من قبيل علاقات الضرورة ما دام المقابل له هو جماعات الإسلام السياسي، ومع الاتفاق الليبي الوطني الأخير فإن خيارات وانحيازات روسيا مرشحة للتغيير.
وما يلفت الانتباه في تقرير “وورث” شخصية محافظ مصرف ليبيا المركزي “الصديق عمر الكبير” المؤيد من قبل حكومة طرابلس، وهو الذي تسلم منصبه في 12 أكتوبر 2011 وما زال في موقعه بعد تسلم حكومة عبد الحميد الدبيبة حكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت وأدت اليمين في 15 مارس الماضي والتي ستقود المرحلة الانتقالية التي ينتهي أجلها مع انتخابات البرلمان والرئاسة قبل نهاية هذا العام ، ودوره المستمر والمستقر في رئاسة هذا المصرف في كل هذه المراحل، وفي تقديم المال والرواتب الى كل الأطراف المتقاتلة في ليبيا.
يستعرض “وورث” في تقريره فرص “سيف الإسلام القذافي” في الصعود إلى رأس السلطة في ليبيا، لكن تقدمه لاقتناص هذه الفرص ليس حتميا وهو يحتاج إلى توفر المزيد من العوامل.
يسجل “وورث” أن أنصار “سيف الإسلام” استطاعوا في مؤتمر برلين في يونيو 2020، ومن ثم ملتقى الحوار السياسي الليبي الذي عقد في نوفمبر في تونس، أن ينحوا جانبا كل الشروط والإشارات التي يمكن أن تمنع مستقبلا من ترشح “سيف الإسلام” لخوض انتخابات الرئاسة المقررة نهاية هذا العام.
ويرجح أن تكون موسكو المتحالفة مع حفتر أكثر ميلا لصعود القذافي الى السلطة، لمعرفتها بكل المؤشرات التي باتت تتوفر في شخصه، وأنه الأجدر على تحقيق التفاف ليبي حقيقي. ويبدو أن القيادات الغربية لها الموقف نفسه، وينقل عن رئيس المجلس الأعلى الدولة في ليبيا “خالد مشري” تأكيده بأن “القادة الغربيين ليس لديهم حتى ميليمتر واحد من الثقة بحفتر”. ولعل حفتر نفسه يستشعر ما يمثله وجود “سيف الإسلام” من خطر على حظوظه هو في الترشح لمقعد الرئاسة، حتى ليقال إنه يقف وراء محاولة فاشلة لاغتيال سيف الإسلام.
وحين يستعرض “وورث” حظوظ وزير الداخلية ورجل طرابلس القوي “فتحي باشاغا”، في المنافسة للصعود إلى سدة الرئاسة، فإنه يميل إلى الاعتقاد بأن الفرص ضعيفة.
و”باشاغا” كما يصفه “وورث” رجل ذو شخصية مهنية معتبرة، وتسانده جماعات مصراتة المسلحة القوية التي تصدت لمحاولة حفتر احتلال طرابلس وهزمته على ابوابها – بعد أن وفرت لهم تركيا احتياجاتهم وآزرتهم حتى بالمقاتلين -، وقد أثبت مكانته وقوته حين عجز رئيس الحكومة السابقة فايز السراج عن إقالته، لكن رغم صفات الرجل ومزاياه فإنه ـ في نهاية المطاف ـ يمثل قوة جهوية وقبلية محددة، وهو يحمل آثار مرحلة التقاتل والانقسام، مما يمثل عائقا أمام تمثيل الليبيين جميعا، وعائقا عن التطهر من آثام الاقتتال الداخلي، وما أحاط به من تجاوزات وفساد، وكذلك من آثار الانحيازات والتحالفات مع المحاور الخارجية .
رغم كل ما توقف عنده من ثغرات ومآخذ في شخصية سيف الإسلام الراهنة، وفي تاريخه، فإن وورث يشي في عرضه العام بأن المحيط العربي والإقليمي والدولي يبدو أكثر تقبلا للقذافي من أي منافس آخر، لأنه وإن كان لن يلبي لكل منافس منهم ما يريد، فإن من المتوقع أن يلبي لكل منهم قدرا معتبرا من الأهداف وبشكل مستقر قد لا يوفرها غيره.
مصر، الجزائر، تونس، تركيا، السودان، دول إفريقية عدة، الدول الأوربية، الولايات المتحدة، روسيا وحتى الصين، جميعها كان لها انحيازات في ليبيا مباشرة وغير مباشرة خلال السنوات العشر الماضية، وكثير منها وخصوصا الدول الأطلسية كان لها دور مدمر لليبيا، لكنها باتت تدرك الآن أن عليها أن تقلع الآن عن الانحياز لطرف بعينه، وقد ثبت لها أن من انحازت إليه وانحاز إليها، بات يمثل أحد عوامل عدم الاستقرار في ليبيا، وبالتالي فهو عاجز عن تحقيق حتى مصالحها التي تتطلع إليها، أما “سيف الإسلام” فهو خارج هذه التقسيمات والانحيازات، ويمكن أن يوفر حدا مقبولا من مصالح كل هذه الأطراف، ومثل هذه الميزة قد تكون هي أهم ما يؤهل “سيف الإسلام” لدور مستقبلي حاسم في ليبيا.
تقرير وورث ومقابلته لسيف الإسلام القذافي، وما تضمنه المقابلة والتقرير، من إقرارات وإيحاءات وحتى نقد، ليس مجرد عمل صحفي متقن، يحمل معنى السبق الصحفي، ويكشف سعة معرفة ومتابعة الملف الليبي من كافة أوجهه، والحرص على توثيق ما يقدم من خلال شهادات ميدانية، وإنما هو في الوقت نفسه مؤشر على رؤية مطروحة في العقل السياسي الأمريكي بشأن مستقبل ليبيا، وفرص الاستقرار فيها، وأهمية هذه الرؤية نابعة من دور الصحافة في التمهيد أو في المساعدة على صنع القرار الأمريكي نفسه.