د. مخلص الصيادي
أصدرت القيادة المركزية الأمريكية في الثاني من مارس 2023 بيانا بشأن الحرب على داعش ذكرت فيه أنها نفذت خلال شهر فبراير 43 عملية ضد هذا التنظيم في العراق وسوريا، وان هذه العمليات اسفرت عن مقتل 22 عنصرا واعتقال 25 آخرين.
من هذه العمليات 33 عملية في العراق أسفرت عن مقتل 17 عنصرا من التنظيم واعتقال 14 آخرين، في حين تم تنفيذ 15 عملية مشتركة في سوريا منها عمليتين قامت بهما القوات الامريكية منفردة، وقتل فيها 5 عناصر من التنظيم واعتقل11 آخرين. وذكر البيان خسائر القوات الأمريكية في هذه العمليات.
البيان في هذه الحدود لا يحتاج إلى تعليق، لكن ما احتواه من تحذير أو تنويه هو ما يحتاج إلى وقفة متأنية لفهم مدلولاته، ولإدراك خطورته، فقد جاء في البيان:
“تظهر هذه العمليات التزامنا بالهزيمة الدائمة لداعش، والحاجة المستمرة لبذل جهود عسكرية محددة الهدف لمنع داعش من شن هجمات واستعادة أي موطئ قدم”.
وأضاف البيان: أنه ” من دون استمرار عمليات مكافحة الإرهاب فإن جهود داعش ستستعيد زخمها مع زيادة قدرة التنظيم على التجنيد وإعادة التشكيل، وسيعيد التنظيم تنمية قدراته على التخطيط لهجمات ضد المنطقة، وحلفائنا، والمصالح الأمريكية في الخارج، وما زلنا نركز على بناء القدرات المحلية للشركاء لمنع عودة داعش”
إن هذا النص الذي تضمنه البيان يعني بالتحديد:
1ـ أن الحرب الذي تقود الولايات المتحدة تحالفا دوليا فيها مستمرة إلى أفق غير محدد، إذ ما زال هدف هزيمة الإرهاب غير منظور.
2ـ وأن اعتماد واشنطن على القوى المحلية في هذه الحرب، ـ وهذا في سوريا على وجهة التحديد ـ يعني استمرار الاعتماد على القوات PYD الانفصالية الكردية، وأن تنمية هذه القوات هدف مازال معتمدا من الجانب الأمريكي، بل وتزداد أهميته يوما بعد يوم.
3ـ والاعتماد المستمر والمتصاعد على القوى المحلية يعني أن أي تصور تنطلق منه “المعارضة السورية”، ويقوم على إعادة دمج قوات هذه الحركة الانفصالية الكردية في الجسم الوطني السوري تصور ساذج لأنه يقوم على أمر مخالف للتصور الأمريكي الذي يفسح لهذه القوات مكانة خاصة في ” الحرب على الإرهاب”، التي لا يحدها حد، ولا يعرف لها أمد.
4 ـ ومن غريب هذا البيان استناده إلى فكرة أن داعش مستمرة في النمو واكتساب الأنصار، وأن قدرتها على التجنيد وإعادة التشكيل في ازدياد، وأن هذا التنظيم يمتلك إمكانية إعادة تنمية قدراته ومهاجمة الأهداف الأمريكية المباشرة، وكذلك مهاجمة حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية.
ووجه الغرابة هنا أن حربا دولية “ضد الإرهاب” تقودها الولايات المتحدة وتشارك فيها عشرات الدول الكبرى والإقليمية وهي مستمرة منذ الرابع من يوليو ومن ثم السابع من أغسطس العام 2014 ، لم تحقق أهدافها حتى الان، بل إنه من غير المعروف متى يمكن أن تحقق أهدافها، وقد استخدمت في هذه الحرب قوات وسجل فيها معارك طاحنة وقتل من داعش عشرات الآلاف، وخسر التنظيم جغرافيته التي أقام عليها دولته في العراق وسوريا، وتحول بعد ذلك إلى ما يمكن تسميته ب”الجغرافيا الحيوية” حيث تتحقق سيطرته في محيط الأرض التي ينتشر عليها عناصره، ويبسطون علها سيطرته، وهذه قابلة للزيادة والنقصان والتحول والتحرك من منطقة الى أخرى، وخسر التنظيم زعماءه الواحد تلو الاخر، بدءاً من “الخليفة” أبو بكر البغدادي، ومع كل لك فإن واشنطن تعترف بأن هذا التنظيم أظهر وما زال قدرة ومرونة فائقة على تجديد نفسه وتجديد قيادته، والمحافظة على قدرته في مواجه هذا الهجوم وهذه الحرب العالمية.
إن فحوى البيان الأمريكي يتضمن اعترافا بالعجز في هذه الحرب، كما يستبطن اعترافا بالتكافؤ:
اعترافا بالعجز عن تحقيق الهدف، وبالعجز عن تحديد أفق محتمل لتحقيق هذا الهدف، مما يعني أن هذه الحرب باتت مفتوحة على كل الاحتمالات.
واعترافا بالتكافؤ مع الخصم الذي يملك قدرات على تجديد نفسه، ومواجهة زخم الهجوم المستمر عليه، أي قدرته على التجدد واستعادة المبادرة.
إذا كان هذا ـ على وجه الحقيقة ـ فحوى البيان الأمريكي، فإن تصوير هذه الحرب على هذا النحو الذي يعرضه البيان يحتاج إلى تفسير مقنع، يجب أن تقدم القيادة الأمريكية التي تقود “حربا عالمية على الإرهاب” مثل هذا التفسير.
لقد لامست مدة هذه الحرب ـ حتى الآن ـ ما استغرقته الحربين العالميتين الأولى والثانية من وقت، ولا يعرف إلى أي مدى ستستمر، والطرف الذي يواجهه “العالم” في هذه الحرب مجرد “تنظيم”، لا يملك بيئة “جغرافية ـ سياسية” داعمة، وهذا شرط لأي حرب طويلة الأمد، فكل الدول من حوله دول مضادة له، تحاربه بمختلف أنواع الأسلحة من الكلمة والصورة والفكر، إلى الأسلحة المدمرة على مختلف أنواعها، إلى الحصار المالي والاقتصادي الذي يدار تحت شعار تجفيف منابع الارهاب.
كذلك هو مجرد “تنظيم”، لا يملك مددا من السلاح أو من المال يشكل قاعدة يمكن الاستناد أو الركون إليها، أو هكذا علينا أن نفترض إذا أخذنا على محمل الجدي “الحصار المالي والاقتصادي” المفروض دوليا في الحرب على الإرهاب، وتجفيف منابعه. وإذا أشار البعض إلى سيطرة التنظيم لفترة على مناطق البترول في سوريا، كمصدر من مصادر التمويل، فهذا كان لفترة لم تلبث أن انتهت قبل أربع سنوات، ثم إنه حتى في تلك الفترة كانت المتاجرة بهذه الثروات الطبيعية غير متاحة إلا عبر شركات وجهات على صلة وارتباط مباشر بحكومات الدول المحيطة ب “دولة داعش”، وبشكل ما كانت تحت عين وبصر القيادة السياسية والعسكرية الدولية التي تدير هذه الحرب.
من غير الطبيعي ولا المفهوم أن تقول الولايات المتحدة إن عدم الاستمرار في هذه الحرب سيؤدي إلى عودة “تنظيم داعش” إلى تهديد المنطقة، والمصالح الأمريكية فيها، بمعنى أن هذا التنظيم سيصبح مهددا للدول القائمة.
وإذا كان ما تقوله واشنطن صحيحا بشأن داعش فيجب إعادة النظر في استراتيجية أمريكا وحلفائها هذه الحرب، لكن الذي تطمئن إليه النفس، ويتسق مع قواعد التفكير العلمي، هو التشكيك بحقيقة أن واشنطن وحلفاؤها يريدون حقا هزيمة داعش، والتشكيك بصدق شعار” الحرب العالمية على الإرهاب”.
ولعل هذه “الحرب العالمية على الإرهاب” هي الحرب الأولى التي تدار دون اتفاق على تحديد دقيق ومفهوم ومتفق عليه لطبيعتها، فقد انطلقت هذه الحرب دون تحديد لمعنى “الإرهاب”، دون اتفاق بين الدول التي سارعت للاشتراك في هذه الحرب على مفهوم الإرهاب، بحيث يصبح هذا المفهوم مقياسا معتمدا تقاس عليه الوقائع والأحداث والمنظمات والجماعات والجمعيات والدول، ثم بناء على هذا المفهوم تدار هذه الحرب العالمية على الصعد كلها: العسكرية، والاقتصادية والإعلامية، والفكرية، وحتى الأخلاقية.
إن الهروب من “تحديد” معنى الإرهاب سمح لجرائم الاحتلال الصهيوني، وجرائم جماعات المستوطنين في فلسطين المحتلة، أن تصبح خارج مفهوم الإرهاب.
كذلك سمح الهروب من تحديد معنى الإرهاب أن تصبح جرائم التهجير والحرق والتصفية والاستيلاء على الأراضي والمناطق من قبل حزب الاتحاد الديموقراطي PYD ، في سوريا، وبمشاركة وتوجيه من التنظيم الأم حزب العمال الكردستاني التركي PKK خارج مفهوم الإرهاب.
كذلك سمح هذا الهروب للنظم السياسية المختلفة ـ وخصوصا في منطقتنا ـ أن تطلق صفة الإرهاب على القوى السياسية المعارضة التي ترى فيها خطرا على استقرارها، وأن تطبق عليها قواعد محاربة الإرهاب التي باتت في حكم المعتمدة دوليا.
ثم إن هذا الهروب من تحديد معنى الإرهاب، قصر صفة الإرهاب على التنظيمات والحركات، ولم يأت على ذكر النظم السياسية القائمة، فباتت النظم الإرهابية خارج هذا التصنيف، مهما فعلت ومهما ارتكبت من جرائم، فصار نظام الكيان الصهيوني خارج التصنيف، وصار النظام السوري خارج التصنيف، مع العلم أن الجرائم التي يرتكبها هذا وذاك هي بكل الاعتبارات من جرائم الإرهاب الشامل، الذي لا يردعه رادع، ولا يقف عند حد.
** حين يكون القتل قائما على أساس عرقي، أو ديني، أو مذهبي، أو جنسي، أو فكري وسياسي.
** حين يكون القتل ماضيا دون تفريق بين مقاتل ومدني، بين طفل ورجل وامرأة، بين شيخ وعجوز ومحارب.
** حين تستخدم في الصراعات وسائل الإبادة الجماعية التي بطبيعتها لا تفرق بين طبيعة الأهداف، وإنما تأتي على البشر والحجر والشجر. فتقتل الحياة نفسها على أي شكل ظهرت فيها هذه الحياة.
** حين تصبح السجون مراكز للتصفية والقتل، وليست مراكز للحجز والسيطرة على الحركة.
** حين يكون استخدام القتل والعنف طريقا للإبادة.
** حين يكون التغيير الديموغرافي، والتهجير المتعمد، هدفا من أهداف القتل والعنف المرتكب.
** حين يكون المرتزقة أداة من الأدوات التي تستدعيها الدول بشكل رسمي لارتكاب الجرائم في مسار الحروب والمعارك الجارية.
حين يكون هذا كله مصنف تحت عبارة الإرهاب، ويكون مستهدفا في ” الحرب على الإرهاب” سواء كان مرتكبه شخص أو جماعة أو نظام سياسي، فإن مثل هذه الحرب تصبح مفهومة وضرورية، ويصبح النصر فيها ممكنا، بل ومتحققا، لأنه حينئذ يصبح النصر هدفا متسقا مع إنسانية الانسان، ومع ضرورات وجود ونمو المجتمعات الإنسانية، وسبيلا من سبل السلام والأمن الاجتماعي، وحينها ستكون المجتمعات كلها وبطرق متعددة غنية وفعالة مشاركة في هذه الحرب.
لكن بالتأكيد حين يغطي مفهوم الإرهاب المساحة السابقة التي أشرنا إليها، فلن يتوفر مثل هذا الحشد الدولي للحرب على الإرهاب “الإرهاب الحقيقي”، لأن واشنطن وباريس، ولندن وموسكو وعواصم عديدة أخرى ستجد نفسها متورطة في رعاية الإرهاب وحماية تشكيلاته، بل وفي ممارسته بشكل مباشر.
إنهم لا يرون غير “داعش والنصرة والقاعدة، وما يتصل بهذه الحركات، لكننا نحن نرى، وشعوبنا ترى الكثير أيضا مما يصنف بالضرورة ضمن قائمة الإرهاب، ومما نراه قطعان المستوطنين الصهاينة وما فعلوه تجاه الشعب الفلسطيني وأرضه وحياته، وما فعله ويفعله العنصريون من الانفصاليين الأكراد في شمال شرق سوريا، وما فعله ويفعله مرتزقة “فاغنر” الروسية، وقبلهم مرتزقة “بلاك ووتر” الأمريكية، وما فعله ويفعله النظام السوري تجاه السوريين، وما فعله ويفعله الروس في سوريا والأمريكيون في العراق…. وذاكرة شعوبنا لا تزال غضه تستذكر ما مارسه الأمريكيون من ضغوط وإرهاب على الدول في الأمم المتحدة حتى يتم تغيير قرار الجمعية العامة للمنظمة الدولية الذي اعتبر “الحركة الصهيونية شكل من أشكال التمييز العنصري وأوجب مقاومتها والتصدي لها”….. وإذا أردنا أن نرصد كل الأعمال الإرهابية للدول ” العظمى والكبرى في وقتنا الراهن فقط فستطول القائمة كثيرا.
إن مشكلة “الحرب على الإرهاب” أن القائمين على هذه الحرب يفتقدون إلى “المصداقية”، فهم أهل الإرهاب وخاصته، وهم ينفذون حربا لا يريدون منها إلا مصالحهم، ويرفعون شعارا لا يريدون منه إلا تثبيت هيمنتهم، ويتسترون خلف “هدف انساني حقيقي” لتحقيق أغراض خبيثة لهم.
لذلك فإن باب الحرب على الإرهاب لن يغلق، ليس لأن داعش قادرة على التجدد والنمو واستعادة زمام المبادرة، وإنما لأن من يقود هذه الحرب هذه الحرب ويوجهها لم يستنفذ أغراضه منها، وحين يحققون أغراضهم سنجد أن هذه “الشماعة” وأمثالها ستذوي حتى تختفي تماما.
6 / 3 / 2023