كريس هيدجز
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
تتمتع الدول الاستعمارية الاستيطانية بفترة صلاحية وتاريخ انتهاء لهذه الصلاحية. وإسرائيل ليست استثناء. وهي دولة منبوذة.
وقد ظهر هذا على الملأ في 12 كانون الأول (ديسمبر) عندما صوتت 153 دولة عضوا في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح وقف إطلاق النار، مع معارضة 10 دول فقط -بما فيها الولايات المتحدة وإسرائيل- وامتناع 23 دولة عن التصويت.
* * *
سوف تبدو إسرائيل منتصرة بعد أن تنهي حملة الإبادة الجماعية التي تنفذها في غزة والضفة الغربية.
سوف تحقق، بدعم من الولايات المتحدة، هدفها المجنون. سوف تبيد نوبات هيجانها القاتلة وعنفها الإبادي الفلسطينيين في فلسطين أو تطهرهم عرقيا.
سوف يتحقق حلمها بإقامة دولة لليهود حصرًا، بينما يكون أي فلسطيني يتبقى مجردًا من حقوقه الأساسية. سوف تستمتع بانتصارها الملطخ بالدماء. وسوف تحتفل بمجرمي حربها.
سوف يتم محو الإبادة الجماعية التي تمارسها من الوعي العام ورميها في الثقب الأسود الضخم لفقدان الذاكرة التاريخي في إسرائيل. وأما أولئك الذين لديهم ضمير في إسرائيل، فسيتم إسكاتهم واضطهادهم.
ولكن، بحلول الوقت الذي تحقق فيه إسرائيل تدميرها لغزة -تتحدث إسرائيل عن أشهر من الحرب- ستكون قد وقَّعت على حكم إعدامها هي.
سوف تكون واجهة التحضر التي تغلف بها نفسها، واحترامها المفترض لسيادة القانون والديمقراطية، وقصتها الأسطورية عن الجيش الإسرائيلي الشجاع الذي لا يُقهر، والولادة المعجزة للأمة اليهودية، قد أصبحت كلها جميعًا أكوامًا من الرماد.
سيكون رأس المال الاجتماعي لإسرائيل قد أُهدِر. وسيكون جوهرها الحقيقي قد افتُضح كنظام فصل عنصري قبيح، قمعي، مليء بالكراهية ومنفِّرٍ بالنسبة للأجيال الشابة من اليهود الأميركيين.
ومع وصول الأجيال الأميركية الجديدة إلى السلطة، سوف تنآى راعيتها، الولايات المتحدة، بنفسها عن إسرائيل بالطريقة التي تنأى بها بنفسها الآن عن أوكرانيا.
سوف يأتي دعمُها الشعبي، الذي تآكل بالفعل في الولايات المتحدة، من الفاشيين المسيحيين في أميركا الذين يرون هيمنة إسرائيل على الأراضي التوراتية القديمة مقدمة لـ”المجيء الثاني”، وفي إخضاعها للعرب تماهيًا مع العنصرية والتفوقية البيضاء.
سوف يمهد الدم والمعاناة الفلسطينيان -عدد الأطفال الذين قتلوا في غزة يعادل 10 أضعاف الذين قتلوا في عامين من الحرب في أوكرانيا- الطريق إلى ذهاب إسرائيل إلى ثقب النسيان. وسوف تحقق عشرات، وربما مئات آلاف الأشباح انتقامها الخاص.
سوف تصبح إسرائيل مرادفًا لضحاياها كما أن الأتراك مرادفون للأرمن، والألمان للناميبيين واليهود في وقت لاحق، والصرب للبوسنيين.
أُمَّة آسنة
سوف يتم القضاء على الحياة الثقافية والفنية والصحفية والفكرية في إسرائيل. وستكون إسرائيل دولة آسنة حيث سيهيمن المتعصبون الدينيون، والمتحمسون والمتطرفون اليهود الذين استولوا على السلطة، على الخطاب العام.
سوف تجد إسرائيل حلفاءها بين الأنظمة الاستبدادية الأخرى فقط. وسوف تكون التفوقية العرقية والدينية البغيضة لإسرائيل هو سمتها المميزة، وهو السبب في أن أكثر أنصار التفوق الأبيض رجعية في الولايات المتحدة وأوروبا، بمن فيهم الساميون الفلسفيون مثل جون هاغي، وبول غوسار، ومارفوري تايلور غرين، يدعمون إسرائيل بحماس. إن المعركة المتبجحة ضد معاداة السامية هي في حقيقتها احتفال مقنَّع بـ”القوة البيضاء”.
يمكن أن توجد الأنظمة الاستبدادية بعد فترة طويلة من استحقاق تاريخ انتهائها. لكنها تظل محطات نهائية.
وليس عليك أن تكون عالمًا في الكتاب المقدس لترى أن شهوة إسرائيل لأنهار الدم تتناقض مع القيم الأساسية لليهودية.
لن تكون للتسليح الانتهازي للهولوكوست، بما في ذلك وصف الفلسطينيين بالنازيين، فعالية تذكر عندما يقوم المرء بتنفيذ إبادة جماعية يتم بثها على الهواء مباشرة ضد 2.3 مليون إنسان محاصرين في معسكر اعتقال.
إن الدول تحتاج إلى أكثر من القوة للبقاء. إنها تحتاج إلى هالة من السحر. وتوفر هذه الهالة الغاية، والكياسة -وحتى النبل لإلهام المواطنين التضحية من أجل الأمة. وتقدم الهالة الأمل في المستقبل. وهي توفر المعنى. توفر الهوية الوطنية.
وعندما تنفجر الهالة؛ عندما تتكشف وتُفصِح عن حقيقتها كمجرد أكاذيب، ينهار الأساس المركزي لسلطة الدولة.
وكنتُ قد غطيت وكتبت عن موت الهالات الشيوعية في العام 1989 خلال الثورات في ألمانيا الشرقية، وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا. وعندئذٍ، قررت قوات الشرطة والجيش أنه لم يتبق شيء للدفاع عنه.
سوف يولِّدُ اضمحلال إسرائيل النوع نفسه من التراخي واللامبالاة. لن تكون قادرة على تجنيد متعاونين من السكان الأصليين، مثل جماعة “السلطة الفلسطينية” -التي يلعنها معظم الفلسطينيين- لتنفيذ أوامر المستعمرين.
يشير المؤرخ رونالد روبنسون إلى عدم قدرة الإمبراطورية البريطانية على تجنيد حلفاء من السكان الأصليين باعتبارها نقطة انعطاف تحوّلَ فيها التعاون إلى عدم تعاون، وهي لحظة حاسمة لبدء انتهاء الاستعمار. ويوضح روبنسون أنه بمجرد أن يتحول عدم تعاون النخب المحلية إلى معارضة نشطة، فإن “التراجع السريع” للإمبراطورية سيكون مضمونًا.
الآن، كل ما تبقى لدى إسرائيل هو تصعيد العنف، بما في ذلك التعذيب، مما يسرع من أفولها.
ذلك أن هذا العنف الشامل يعمل على المدى القصير، كما حدث في الحرب التي شنها الفرنسيون في الجزائر، والحرب القذرة التي شنتها الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين، وخلال الصراع البريطاني في أيرلندا الشمالية. لكنّه يكون عملاً انتحاريًا على المدى الطويل.
لاحظ المؤرخ البريطاني أليستير هورن أنه “ربما تقولُ أن معركة الجزائر كُسِبت من خلال استخدام التعذيب، لكن الحرب، الحرب الجزائرية، خُسِرت”.
حولت حملة الإبادة الجماعية في غزة مقاتلي “حماس” إلى أبطال في العالم الإسلامي والجنوب العالمي. وربما تتمكن إسرائيل من القضاء على قيادة “حماس”.
لكن الاغتيالات السابقة -والحالية- لعشرات القادة الفلسطينيين لم تفعل أيَّ شيء يُذكر لإضعاف المقاومة.
لقد أنتج الحصار والإبادة الجماعية في غزة جيلاً جديدًا من الشباب والشابات الذين أصيبوا بصدمة عميقة وغضب عارم، ممن قُتِلت أسرهم ودُمِّرت مجتمعاتهم.
وهم مستعدون تمامًا ليحلوا محل القادة الشهداء. لقد أرسلت إسرائيل مخزون خصمها إلى طبقة الستراتوسفير.
في حرب مع نفسها
كانت إسرائيل في حالة حرب مع نفسها قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر). كان الإسرائيليون يحتجون لمنع رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، من إلغاء استقلال القضاء.
وقد شن المتعصبون والمتطرفون الدينيون، الذين هم في السلطة حاليًا، هجومًا صارمًا على العلمانية الإسرائيلية.
ومنذ الهجمات أصبحت وحدة إسرائيل تحت الخطر. وهي وحدة سلبية، يتم وصل أجزائها معًا بالكراهية.
ولكن، حتى هذه الكراهية لا تكفي لمنع المتظاهرين من التنديد بتخلي الحكومة عن الرهائن الإسرائيليين في غزة.
والكراهية سلعة سياسية خطيرة. فبمجرد الانتهاء من عدو، سوف يبحث أولئك الذين يؤججون الكراهية عن عدو آخر.
وعندما يتم القضاء على “الحيوانات البشرية” الفلسطينية، أو إخضاعها، سيتم استبدالها بمرتدين وخونة من اليهود.
والمجموعة التي تجري شيطنتها لا يمكن تخليصها أو علاجها.
وسوف تشكل سياسة الكراهية عدم استقرار دائم يستغله أولئك الذين يسعون إلى تدمير المجتمع المدني.
وكانت إسرائيل قد قطعت شوطًا طويلاً على هذا الطريق في 7 تشرين الأول (أكتوبر) عندما أصدرت سلسلة من القوانين التمييزية ضد غير اليهود، تشبه قوانين نورمبرغ العنصرية التي حرمت اليهود في ألمانيا النازية من حقوقهم.
ويسمح “قانون قبول المجتمعات” للمستوطنات اليهودية حصريًا بمنع المتقدمين للحصول على الإقامة على أساس “الملاءمة للنظرة الأساسية للمجتمع”.
غادر العديد من أفضل المتعلمين والشباب في إسرائيل البلاد إلى أماكن مثل كندا وأستراليا والمملكة المتحدة، مع انتقال ما يصل إلى مليون شخص إلى الولايات المتحدة.
وحتى ألمانيا شهدت تدفقًا لحوالي 20.000 إسرائيلي في العقدين الأولين من هذا القرن.
كما غادر نحو 470.000 إسرائيلي البلاد منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر). وفي داخل إسرائيل، يتعرض نشطاء حقوق الإنسان والمثقفون والصحفيون -الإسرائيليون والفلسطينيون- للهجوم باعتبارهم خونة في حملات تشهير ترعاها الحكومة، ويوضعون تحت مراقبة الدولة ويتعرضون للاعتقالات التعسفية. والنظام التعليمي الإسرائيلي هو آلة تلقين للجيش.
حذر الباحث الإسرائيلي، يشعياهو ليبوفيتز، من أنه إذا لم تقم إسرائيل بفصل الكنيسة عن الدولة وإنهاء احتلالها للفلسطينيين، فسوف يؤدي ذلك إلى ظهور حاخامية فاسدة، يكون من شأنها أن تشوه اليهودية وتحولها إلى عقيدة فاشية.
وقال: “إن إسرائيل (عندئذٍ) لن تستحق الوجود، ولن يكون من المجدي الحفاظ عليها”.
بعد عقدين من الحروب الكارثية التي خاضتها أميركا في الشرق الأوسط والهجوم على مبنى الكابيتول في 6 كانون الثاني (يناير)، أصبحت الهالة العالمية للولايات المتحدة ملوثة مثل حليفها الإسرائيلي.
وقد تجاوزت إدارة بايدن، في حماسها لدعم إسرائيل من دون قيد أو شرط واسترضاء اللوبي الإسرائيلي القوي، عملية مراجعة الكونغرس مع وزارة الخارجية للموافقة على نقل 14.000 قذيفة من ذخيرة الدبابات إلى إسرائيل.
وجادل وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، بأن “هناك حالة طوارئ موجودة، تتطلب البيع الفوري”. وفي الوقت نفسه، دعا إسرائيل باستخفاف إلى تقليل الخسائر في صفوف المدنيين.
الخسائر في صفوف المدنيين الفلسطينيين
لا تنوي إسرائيل التقليل من الخسائر في صفوف المدنيين. وقد قتلت بالفعل 18.800 فلسطيني، أي 0.82 في المائة من سكان غزة -ما يعادل حوالي 2.7 مليون أميركي بالنسبة والتناسب. وأصيب 51.000 آخرون.
كما يتضور نصف سكان غزة جوعًا، وفقًا للأمم المتحدة. وتم تدمير جميع المؤسسات والأجهزة الفلسطينية التي تحافظ على الحياة -المستشفيات (حيث 11 فقط من أصل 36 مستشفى في غزة ما تزال “تعمل جزئيا”)، ومحطات معالجة المياه، وشبكات الطاقة، وشبكات الصرف الصحي، والإسكان، والمدارس، والمباني الحكومية، والمراكز الثقافية، وأنظمة الاتصالات، والمساجد، والكنائس، ونقاط توزيع الأغذية التابعة للأمم المتحدة.
كما اغتالت إسرائيل ما لا يقل عن 80 صحفيا فلسطينيا إلى جانب العشرات من أفراد أسرهم وأكثر من 130 من عمال الإغاثة التابعين للأمم المتحدة إلى جانب أفراد أسرهم.
والخسائر في صفوف المدنيين هي بيت القصيد. إنّ هذه ليست حربًا ضد حماس. إنها حرب ضد الفلسطينيين. والهدف هو قتل أو ترحيل 2.3 مليون فلسطيني من غزة.
إن إطلاق النار على ثلاث رهائن إسرائيليين فروا على ما يبدو من خاطفيهم واقتربوا من القوات الإسرائيلية وقد خلعوا قمصانهم، ولوحوا بعلم أبيض ونادوا طالبين المساعدة باللغة العبرية ليس مأساويا فحسب، وإنما هو لمحة عن قواعد الاشتباك الإسرائيلية في غزة. وهذه القواعد هي: اقتل أي شيء يتحرك.
وكما كتب اللواء الإسرائيلي المتقاعد، غيورا آيلاند، الذي ترأس سابقًا مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، في صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية اليومية، فإنه:
”ليس أمام دولة إسرائيل خيار سوى تحويل غزة إلى مكان يستحيل العيش فيه بشكل مؤقت ولا دائم… إن خلق أزمة إنسانية حادة في غزة هو وسيلة ضرورية لتحقيق الهدف”. وأضاف: “سوف تصبح غزة مكانًا لا يمكن أن يوجد فيه إنسان”.
وأعلن اللواء غسان عليان أنه في غزة، “لن تكون هناك كهرباء ولا ماء، بل سيكون هناك دمار فقط. لقد أردتم الجحيم؛ وسوف تحصلون على الجحيم”.
إن الدول الاستعمارية الاستيطانية التي دامت، بما في ذلك الولايات المتحدة، قامت بالإبادة الجماعية من خلال نشر الأمراض والعنف، لما يقرب من جميع سكانها الأصليين.
وقد قتلت أوبئة العالم القديم التي جلبها المستعمرون إلى الأميركتين، مثل الجدري، ما يقدر بنحو 56 مليون إنسان من السكان الأصليين على مدار حوالي 100 عام في أميركا الجنوبية والوسطى والشمالية.
وبحلول العام 1600 كان قد بقي أقل من عُشْر السكان الأصليين. ولا يمكن لإسرائيل أن تقتل على هذا النطاق، حيث يعيش ما يقرب من 5.5 مليون فلسطيني تحت الاحتلال و9 ملايين آخرين في الشتات.
وترتبط رئاسة بايدن، التي من المفارقات أنها ربما تكون قد وقَّعَت شهادة وفاتها السياسية الخاصة هي الأخرى، بالإبادة الجماعية في إسرائيل.
وسوف تحاول أن تنأى بنفسها خطابيًا، لكنها في الوقت نفسه ستحول مليارات الدولارات من الأسلحة التي تطلبها إسرائيل -بما في ذلك 14.3 مليار دولار من المساعدات العسكرية التكميلية التي تنضم إلى 3.8 مليار دولار من المساعدات السنوية- من أجل “إنجاز المهمة”. وهي شريك كامل في مشروع الإبادة الجماعية الإسرائيلي.
إن إسرائيل هي دولة منبوذة. وقد ظهر هذا الواقع على الملأ في 12 كانون الأول (ديسمبر) عندما صوتت 153 دولة عضوا في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح وقف إطلاق النار، مع معارضة 10 دول فقط -بما فيها الولايات المتحدة وإسرائيل -وامتناع 23 دولة عن التصويت.
تعني حملة الأرض المحروقة الإسرائيلية في غزة أنه لن يكون هناك سلام.
لن يكون هناك حل دولتين. سوف يُعرِّف الفصل العنصري والإبادة الجماعية إسرائيل، وهو ما ينذر بصراع طويل، طويل؛ صراعٍ لا يمكن للدولة اليهودية أن تفوز به في نهاية المطاف.
*كريس هيدجز Chris Hedges: صحفي حائز على جائزة بوليتزر. كان مراسلا أجنبيا لمدة 15 عاما لصحيفة ”نيويورك تايمز”، حيث شغل منصب مدير مكتب الشرق الأوسط ورئيس مكتب البلقان للصحيفة.
عمل سابقًا في الخارج لصالح صحف “دالاس مورنينغ نيوز” و”كريستيان ساينس مونيتور” و”الراديو الوطني”. وهو مضيف البرنامج الحواري “تقرير كريس هيدجز”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Death of Israel
المصدر: الغد الأردنية/(شير بوست)
Thank you for your sharing. I am worried that I lack creative ideas. It is your article that makes me full of hope. Thank you. But, I have a question, can you help me?