نبيل عبد الفتاح
أدت الهياكل الاجتماعية الانقسامية في المجتمعات العربية إلى عدم تشكل ، وتبلور المفاهيم “الوطنية الجامعة” في الدول العربية ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربى، ومن ثم لم يستطع أباء الاستقلال وخلفاءهم في الأنظمة السياسية الشمولية والتسلطية، التأسيس “للوطنيات” الجامعة داخل كل دولة ومجتمع ، نظرًا لطبيعة مرجعيات انتماءاتهم إلى بعض المكونات القبائلية والعشائرية والطائفية والمذهبية والعرقية، وانحيازاتهم السافرة والمضمرة لها، وتمثلها وإعادة إنتاجها في بناء هياكل القوة داخل الأنظمة السياسية، وأجهزة الدولة ما بعد الكولونيالية.
كان خطاب الاستقلال الوطنى، والتحرر من الاستعمار غالبُ في هذه المراحل، فى ظل حركات التحرر الوطنى العربية، والعالم ثالثية آنذاك ودور مصر التاريخي في هذا المضمار، وهو ما شكل غطاءات إيديولوجية، لهذه الأنظمة وقادتها تجاه شعوبها الانقسامية، وإزاء بعضها بعضًا، إلا إنهم في غالبهم لم يستطيعون أن يؤسسوا “للوطنيات” العابرة للانقسامات الداخلية ، والجامعة لمكوناتها الأساسية ، من خلال سياسات للاندماج الوطنى قادرة على بناء موحدات عابرة وموحدة لجماعاتها الداخلية، نظراً إلى هيمنة سياسة التهميش والاقصاءات لبعض هذه المكونات –الدينية والمذهبية والعرقية والقبائلية والعشائرية واللغوية والمناطقية- فى هياكل الدولة والنظام السياسى، وأيضا فى سياسات التنمية في نظم رأسمالية الدولة الوطنية، أو تلك التى أخذت بها مع دور للقطاع الخاص فى تسيير اقتصاداتها!
ثم ركزت السلطات والنخب السياسية الحاكمة على العواصم، وبعض المدن الرئيسية داخل هذه الدول، وتهميش بعض مكونات ومناطق فى الريف، والبوادى، لإظهار بعض الانجازات لحكام هذه الدول! أو الاهتمام ببعض المناطق ذات الثقل الدينى والمذهبى والقبلي، والعشائرى إزاء بقية المكونات الأخري لاعتبارات تتصل بالقاعدة الاجتماعية والدينية والمذهبية التي يتأسس عليها شرعية النظام ونخبته السياسية الحاكمة ! . أدت هذه السياسات إلي تراكم سلبي ونكوصي للمكونات المهمشة في الوعى الجمعى لها، إزاء المكون الأغلبى أو الأقلي المسيطر في السلطة وأجهزة القوة والدولة ، الذى تركز عليه النخبة السياسية الحاكمة بكل انعكاسات ذلك علي إدراك مفهوم الوطنية الجامع لمكونات الدولة . اعتمدت هذه الأنظمة السياسية فى غالبها على هياكل القوة فى فرض تصوراتها السياسية ” للوطنيات ” ما بعد الاستقلال، من خلال استراتيجيات بوقعه الصهر، دونما تمثيلات لمكوناتها الأساسية فى ” مؤسساتها السياسية” السلطوية، والشمولية بأسم تصوراتها للوطنيات!
“الوطنيات العربية” ما بعد الاستقلال –باستثناء حالة الدولة/ الأمة فى مصر، ودولة المخزن فى المغرب- كانت فى بعض أبعادها، تعبيرًا عن الخرائط الجيو سياسية ما بعد اتفاقية سايكس /بيكو والتى اتسمت بهندسات استعمارية لحدود الدول والوطنيات! . هذه الهندسات السياسية للدول والحدود رغم تداخلات بعضها اختلفت تاريخياً عن بناء القوميات والأمم الغربية !
بناء وتشكل القوميات والأمم الأوروبية اعتمد تاريخياً علي تطور الرأسماليات الأوروبية، وتوحيد الأسواق التى أدت إلى دمج مكونات ومقاطعات الدول الأوربية، فى إطار التوسع الرأسمالى والأسواق، على نحو أدى إلى تبلور القوميات الأوروبية، وتكوين الأمم، ونمط الدولة الأمة، ونماذجها السياسية التى تطورت مع تكون نماذج الليبراليات الأوروبية التمثيلية ، والتكامل القومى الداخلى بين مكوناتها المختلفة، وتمثيلاتها في المؤسسات السياسية، والأحزاب المختلفة، وأيضا تأسيس النماذج العلمانية المتعددة فى إطار العلاقة بين الوضعى والميتاوضعى، والتمايز بينهم، وفق أنظمة الجمهورية الفرنسية –من الأولى إلي الثالثة -، والبريطانية، والألمانية، والإيطالية.. إلخ! كانت تشكلات وتبلورات الحركات والقوميات الأوروبية، جزءًا من الثورات الصناعية الأولى، والثانية، وتكرست فى الثالثة، والرابعة تطرح قضايا وإشكاليات ستغدو وجوديته مع عالم الأناسة الروبوتية، والذكاء الاصطناعى، والروبوتات وعوالمها وأفاقها الغائمة في علاقة الأنسان بها وفي التنظيم الاجتماعي والإنتاجي والسياسي .. الخ.
كانت القوميات الأوروبية، وتبلورها جزءًا من الحداثة والتحديث، فى الفلسفة، والهندسات السياسية والدستورية والقانونية، والاجتماعية، والأهم فى اللغة والثقافة، والمؤسسات السياسية الليبرالية التمثيلية، وتبلور الطبقات الاجتماعية، وسياسات التعليم العام والجامعى وما بعده! فى ظل الحريات العامة والشخصية، ودولة القانون والحق واستقلال القضاء والبحث العلمي ، والموطنة والمساواة بين المواطنين وتكافؤ الفرص فيما بينهم!
لا شك أن القوميات الأوروبية، والدولة/ الأمة ارتكزت على ميلاد الفرد والفردانية، فى ظل تطور علاقاتها الرأسمالية وتشكلاتها الطبقية، فى إطار الأمة الواحدة الفرنسية والألمانية، والبريطانية، والإيطالية.. إلخ، والتمايز بين المجتمعات المدنية، والدولة، والنظام السياسى –آيا كان شكله وطبيعته فى الأطر الليبرالية التمثيلية-، ومن ثم تطورت الأمم الأوروبية، مع تقدمها التكنولوجى، والعلمى، والتعليمى والثقافى، وأيضا ليبرالية نظمها السياسية، والحزبية، والدستورية والقانونية.
من هنا كانت سياسة استعارة وطنيات ما بعد سايكس/بيكو مرتبكة، وهشة جيو – سياسيا وثقافيا ، فى ظل أنظمة سلطوية وشمولية عربية قمعية ! لم تستطع سياسات التكامل والاندماج القومى الداخلي، أن تؤسس ” لوطنياتها”، على اسس طبقية، أو ثقافية، أو مناطقية، أو تنموية تكاملية، أو ديمقراطية تمثيلية! خاصة أن سياسات التنمية تمركزت حول العواصم، أو المناطق الدينية والمذهبية، والقبائلية، والعشائرية، علي نحو أدت إلى إقصاءات وتهميشات كرست بناء هويات مختلفة، وتواريخ خاصة بهذه المكونات إزاء المكونات الأخرى الأغلبية، أو الأقلويةً الحاكمة أو تجاه بعضُ نظائرها المغايرة !
منذ فشل تجارب التنمية فى غالبُ البلدان العربية ومعها سياسات التكامل والاندماج الوطنى، تمدد القمع والعنف الدولتى، والسلطوى لقمع المكونات الأساسية فى هذه المجتمعات على نحو أدى بعد هزيمة يونيو 1967، وما بعد حرب اكتوبر على 1973 إلى انفجار الصراعات الهوياتية الداخلية، تعبيرا عن الانقسامات الداخلية، والصراع بين بعض الجماعات الإسلامية السياسية، ثم الراديكالية العنيفة، وبين النخب والأنظمة السياسية الحاكمة وتلاعب كليهما بالدين في العمليات السياسية، ومن ثم طرحت مسألة الدولة الإسلامية، في مواجهة النظم الدستورية والسياسية والقانونية –ذات الأسس الوضعية الغربية الفرنسية والانجلو ساكسونية والايطالية والبلجيكية-، ونظام الشريعة الإسلامية.
أدت هذه الصراعات مع ظهور مفهوم الهوية –مصطلح ظهر فى عقد الأربعينيات من القرن الماضى- إلي انفجار هوياتى رئيس، بين الأنظمة السياسية ونخبها الحاكمة ، وبين المعارضات الإسلامية، على أساس تحويل الصراع الهوياتى المتعدد والمتنافر إلى صراع هوياتى دينى فى مواجهة الانظمة السياسيىة الشمولية والتسلطية العربية. هذا الصراع الهوياتى ساهم فى تكريس هشاشة، وضعف وتفكك وتذري “الوطنيات” ما بعد سايكس/بيكو ، والاستقلال عن الاستعمار الغربى!
باتت مسألة الصراع الهوياتى المتعدد المصادر والمكونات والتخييلات السياسية والثقافية والعرقية ، صراعًا بديلًا أو موازياً لمفهوم “الوطنيات” الناشئة ما بعد الاستقلال، وساهمت فى المزيد من تفككها، بعد عمليات العنف الدينى الراديكالى فى بعض هذه الدول إزاء السلطة وأجهزة الدولة، وبعض الأقليات الدينية، والمذهبية! الأخطر أن هذه الصراعات الهوياتية أدت إلى انفجار واسع لهويات المكونات الأساسية للمجتمعات العربية، على نحو أدى إلى حروب أهلية فى سوريا، والعراق، والسودان، وليبيا، واليمن، وفشلت غالبُ الأنظمة ما دون الدولة/ الأمة، أن تواجه هذه الحروب وأدت إلى تمددها، واستمرارها، حتى بعد الربيع العربي المجازى، وفشل سياسات وعمليات الانتقال الديمقراطى –على نحو ما حدث فى تونس وبلدان أخرى-، ومعها عجز الإسلاميين فى السلطة فى إدارة هذه الدول ومجتمعاتها، أو فى العلاقات الدولية والإقليمية على الرغم من دعم الولايات المتحدة، وبريطانيا لبعض هذه الجماعات السياسية الإسلامية- النهضة في تونس والأخوان والسلفيين فى مصر- وذلك لغياب ثقافة الدولة وتقاليدها والرأسمال الخبراتي لدى بعض قادتهم وكوادرهم التنظيمية ، وهو ما أدي إلى الفشل السياسى، وأيضا إلى عودة ظاهرة موت السياسة عربيا مجددًا!
من هنا كان استعارة مفهوم الهوية المتخيلة إسلاميا وإضفاء البُعد الدينى والمذهبى الآحادي واللا تاريخى عليها، أدي إلي انفجارات هوياتية أخرى على أسس مذهبية ودينية وعرقية ومناطقية … إلخ، وهو ما ساهم في خلق دينامية لعمليات تفكك ، وتشظى وتذرى لمفهوم الوطنية داخل غالبُ البلدان العربية – والأسثناء في المثالُ المصرى، والمغربى- وأدى ذلك إلى تحول الصراعات الهوياتية إلى محركات لحروب أهلية فى سوريا، وقبلها العراق، واليمن، والسودان، ومن ثم إلي تحول في مفهوم “الوطنيات” تحت التشكيل، نحو انفجار التشظيات ، والصراعات الهوياتية التى كرست الانقسامات الداخلية فى العالم العربى وانعكاساتها علي مفهوم الوطنيات ، والفكرة العربية الجآمعة سياسيا وثقافياً!
المصدر: الاهرام