طلال عبد اللّه جاسم
المقدمة (introduction)
لا يخفى على أحدٍ أن هناك تجاهلًا أميركيًا وأوروبيًا وعربيًا وإقليميًا للعمل على وقف إطلاق النار في سورية وتهدئة الوضع فيها، فالمحادثات في آستانة بين روسيا وإيران وتركيا متعطلة إلى حد بعيد، وكذلك مجموعة إعلان واشنطن أو المجموعة المصغّرة التي تضم أميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والسعودية والأردن ومصر تكاد تكون غير موجودة، والمحاولات العربية حتى الآن لم تسفر عن شيء مهم، وعلى الرغم من إعادة النظام إلى جامعة الدول العربية، والجهد الذي بذل لتحقيق هذه العودة، فإن النظام لم يبدِ أي مرونة لإنجاز حل في سورية، ولم يستفد النظام عمليًا من العودة إلى الجامعة العربية، حتى تاريخ كتابة هذه السطور، لأن الدول العربية في ما يبدو غير مستعدّة لدعم النظام، ما لم يُقدّم تنازلات قد تساعد في وضع سورية على طريق الحل، وقد حصلت كثير من المفاوضات والمناقشات، لكن حتى الآن لا يبدو أن هناك تقدمًا جوهريًا يمكن أن يعتدّ به. إضافة إلى توقف المناقشات بين روسيا والولايات المتحدة على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، حيث كانت هذه المداولات في أعلى المستويات، في ما يخص الوضع السوري.
وأضافت حرب إسرائيل على غزة عوامل تعقيد جديدة للوضع السوري، لكن على الرغم من كل ذلك، هناك حاجة إلى مزيد من العمل والمتابعة والاهتمام، من أجل فهم المصالح الحقيقية والأساسية لهذه القوى الفاعلة، الإقليمية منها والدولية، وتطوير أفكار عن كيفية الوصول مع هذه الدول إلى صيغة حل يمكن من خلاله إزالة التصعيد وإنهاء النزاع بأسرع وقت ممكن.
النقاش (discussion)
علينا أن نعمل على كسر الجمود الاستراتيجي القائم، وأن نأخذ التوازنات الدولية والإقليمية بالحسبان، ولا يمكن أن نعتمد على مبادرة تصدر من الأطراف المتدخلة حاليًا في الصراع على سورية وفيها، لذلك لا بد من مبادرة جديدة بأطر مبتكرة، كي يكون هناك أملٌ في تحريك الساكن المسكوت عنه، شرط أن يلقى قبولًا دوليًا أو على الأقل عدم معارضة.
متى (when)
يجب أن يكون هذا الآن، إذ لا داعي لمزيد من الانتظار، وهنا لا بدّ من ذكر المبررات لطرح كهذا، هناك سيناريوهات عدة لنهاية الصراع في سورية وعليها، وعلينا أن نترك المعقّد منها جانبًا، ونأخذ السيناريوهات البسيطة، وهي اتفاق دولي إقليمي على تقاسم النفوذ في سورية، وإنهاء القتال لمصلحة النظام أو المعارضين، أو فرض تقاسم السلطة بين قوى الأمر الواقع، عمليًا أو شكليًا، أو ترك سورية ملعبًا وساحة لتبادل الرسائل بين القوى الإقليمية والقوى الكبرى. وأيًا كان السيناريو، فلا بدّ من وجود نظام إداري لحكم الدولة، وتوزيع السلطات المحلية والثروات، وتحديد الواجبات والالتزامات، أي خلق شكل حوكمة مقبولة، ومن المنطقي أن نصل إلى نظام إداري مقبول بالحدود الدنيا لكل السوريين، وقد يُفتح المجال لبناء توافقات أخرى لاحقًا.
أين (Where)
يمكن البدء والعمل في أي مكان مع السوريين في المهاجر، حيث اختمرت تجربتهم الديمقراطية، وتعرّفوا إلى الأنظمة اللامركزية والفدرالية والعديد من التجارب المختلفة في البلدان التي يعيشون فيها، والإمكانية موجودة للبدء في دول الجوار، وفي جميع مناطق السيطرة، لكن من دون الوقوع في فخ تجنّب طرف لمصلحة أطراف أخرى، عمليًا حكّامُ الأمر الواقع متشابهون ولو نسبيًا، وتُطلق عليهم الأوصاف ذاتها من قبل من يعاديهم من السوريين وغير السوريين، ولتجنّب الفيتو يمكن العمل مع خبراء لا مشاركين في الحكم، لكن يجب أن ينقلوا وجهة نظر الطرف المسيطر، ولا بد من الأخذ بالحسبان أن الأمم المتحدة ومجموعة من مراكز الأبحاث استطلعت آراء جميع التوجهات السورية، عبر سنين عدة، حول شكل الحكم المحلي والحوكمة، ويمكننا الاستفادة من مخرجاتها، والبناء عليها.
الشرعية (legitimacy)
موضوع الشرعية مهمّ، وكون استطلاع رأي السوريين غير ممكن، فهذا يستوجب جهدًا كبيرًا من أجل البدء بعمل كهذا،وأعتقدأن الذين سيقدِمون على هذا العمل، هم من يعطونه الشرعية، وعلى ذلك فإن عملية اختيار الشخصيات المقبولة من أغلبية السوريين مسألة دقيقة وحساسة جدًا، وتتطلب منا مراعاة التكوين الاجتماعي والثقافي والعرقي والديني للمجتمع السوري، مع إيلاء المرأة السورية الدور الذي تستحقه. ولا بد من التركيز على نوعية المدعوين وقيمهم الأخلاقية، هذه المعايير ستعطي شرعية ما، وستحرك المياه الراكدة، وستسعى مجموعات عدة للبحث عن أفكار جديدة وخلاقة.
ولا بد من أن تكون الآلية التي تُختار بها الشخصيات المؤهلة للمشاركة في النقاشات والمداولات واضحةً وعلنيةً، ويجب اختيار شخصيات مجتمعية وخبراء يحظون باحترام السوريين. إن مشاركة النخب المثقفة من السوريين في حلّ الصراع في سورية هي ضرورة ماسة من أجل زيادة فرص المجتمع السوري في الدفاع عن مصالحة بفاعلية، حيث إن أغلبية المجتمع السوري تفتقر إلى من يمثلها، لأنها ليست في صف النظام ولا في صف المعارضة، وفي الوقت نفسه، ليست مع قوى الأمر الواقع وداعميهم، إن مجموعة من الحكماء والخبراء السوريين والسوريات من ذوي التفكير المبتكر، وأصحاب مواقع محترمة في مجتمعاتهم ويمثلون الجغرافيا السورية وفسيفسائها، ويتمتعون بنظرة واقعية ووسطية لا تُقصي أحدًا من السوريات والسوريين، مجموعة كهذه يمكنها العمل على وضع خطط توافقية للمصالح المشتركة بين كل دولة لها تأثير في الأزمة السورية ومصالح الشعب السوري، حيث تعمل على صوغ مقترحات لحل يكون بمنزلة “مكسب للجميع”. وهكذا ستكون هناك شرعية، ومن الممكن الذهاب بالنتائج إلى الأمم المتحدة وآستانة والمجموعة المصغرة وجامعة الدول العربية والصين، وإلى كل الدول المتدخلة والفاعلة.
الآليات (Mechanismus)
إجراء حوارات مع خبراء وخبيرات سوريين وسوريات من كل مناطق السيطرة، ومن كل دول اللجوء والمهاجر، وبناء شبكة تراكمية، ومشاركة النتائج في كل جولة حوار مع جميع المشاركين، واستطلاع آرائهم حول المستجدات أو الأفكار الجديدة، على أن يُنشر المشروع الناتج بأسماء كل من شاركوا في إنتاجه، ولكل منهم أن يكتب تحفظاته على بعض النقاط، شرط أن يكتب مقترحه البديل. ومن ثم يُطرح للنقاش العام، وعندئذ يمكن التسويق للمشروع ومعرفة مدى اهتمام السوريين به أو مواقفهم منه.
المهمات (functions)
إنجاز مشروع نظام حكم محلي، يراعي مصالح السوريين، ويمكّنهم من إدارة شؤونهم المحلية بما يتناسب مع مجتمعاتهم، ويكون هناك حرص على أن يقبل المشروع من كل الأطراف، وهذا ممكن فكل سلطات الأمر الواقع لديها مبادرات لحكم لا مركزي، فالحكومة في دمشق لديها المرسوم التشريعي 107 لعام 2011 قانون الإدارة المحلية، و(قسد) لديها طرح فدرالي ثم عدلت فيه ليكون لامركزيًا موسعًا، والمعارضة كانت مع الطرح اللامركزي، إلا أن أجزاء منها انقلبت على ذلك، من باب المناكفة مع مشروع (قسد)، هذا في مستوى اللاعبين المحليين، أما في مستوى اللاعبين الدوليين، فأرى أنه يمكن أن يُحقق اختراقًا ما من خلال نظام حكم محلي، يحظى بسلطات واسعة، تتيح للسوريين العيش بكرامة وبكفاية اقتصادية، وبذلك تُحَل مشكلات السوريين الحياتية من سكن وصحة، وبناء وتأسيس منشآت اقتصادية بعيدًا عن سلطة المركز، والوقت الآن ملائم للحصول على ذلك، وهذا الكلام يستند إلى معلومات ومعطيات ليست خافية، فالروس والأميركيون يدعمون شكل حكم لا مركزي، وليس لديهم فيتو ما أمام ذلك، والأتراك لديهم نظام لامركزي، وهو نظام جدير بالاهتمام، ويمكن أن يقبلوا بذلك، ما لم يشمل إقليمًا كرديًا كبيرًا، ويمكن من خلال وحدات إدارية صغيرة نسبيًّا تجنب الفيتو التركي، ومنح الكورد حقوقهم التي يطالبون بها من خلال هذه الوحدات الإدارية الصغيرة، وليس عبر إقليم كبير لن يجلب لهم وللسوريين عمومًا إلا مزيدًا من الدمار والحروب البينية والتدخلات الدولية. والإيرانيون أيضًا لن يكونوا حجر عثرة في هذا الطريق. في مطلب اللامركزية، سيجد السوريون دعمًا دوليًا، ولكن مسألة الديمقراطية عمومًا، وفصل السلطات خصوصًا، بضاعة كاسدة لا يمكن تسويقها، ولذلك فإن مهمة التحوّل الديمقراطي وضمان فصل السلطات تقع بالكامل على عاتق السوريين، ليقوموا بها من دون عون أحد، وأرى أن اللامركزية مدخل مهم لذلك الهدف. ويكون ذلك مدخلًا لفصل السلطات لاحقًا في المركز، من خلال إدخال صيغ حاسمة في الدستور لفصل السلطات، قد لا تطبق سريعًا، لكن لا بد أن يأتي يوم يطبّقها السوريون فيه.
الأهداف (Purpose)
إنجاز نظام حكم محلي، بغض النظر عن سيناريوهات الحل، وبغض النظر عن المنتصر أو المهزوم، وبغض النظر عمن سيكون شريكًا في التسوية أو الحكم المقبل. محاولة بدء تطبيق النظام الذي سيتم التوافق عليه في مناطق السيطرة المختلفة، من دون اشتراط وضع حل نهائي، وبغض النظر عن السلطة الحاكمة. قد يبدو هذا كلامًا نظريًا أو حلًا طوباويًا، لكن الواقع الدولي والإقليمي والمحلي يبحث عن حل جزئي يسير فيه، مع عدم الرغبة في الخوض بحل نهائي، وهنا يمكن الاختراق وإعطاء كل الأطراف فرصة لعمل ما، والمحاولة في هذا الأمر لن تكون مضرة أبدًا، حتى لو فشلت.
التحديات والصعوبات (Deviantes and difficulties)
وهنا نلقي نظرة على جزء يسير من التحديات والصعوبات المحتملة:
- صعوبة التوفيق بين المصالح الدولية والإقليمية المتناقضة، أو الوصول إلى تسويات مع هذه الدول المتدخلة.
- صعوبة تنازل حكام مناطق السيطرة المختلفة عن مكاسبهم الشخصية أو الفئوية أو المناطقية.
- صعوبة إعادة السوريين إلى مفهوم الدولة، بعد أن انحدرت بهم الحرب إلى الانقسامات القبلية والمناطقية والمذهبية والقومية والإثنية والمصلحية وغيرها.
- غياب قوى سياسية سورية ذات فاعلية وذات رؤية واضحة، تحظى بدعم شعبي من دون أن تكون مستفزة للمؤثرين الأساسيين في الملف السوري.
- صعوبة تأمين الموارد لبناء عملية السلام وإعادة الإعمار في بلدٍ نُهب حاضره وماضيه ومستقبله، وفقدان أدوات التأثير في المشهد السوري مع استمرار الحرب.
- صعوبة إيجاد مبادرة لحضور فاعل ومبادر جديد، مثلًا مبادرة خليجية صينية، يمكن أن تكسر الجمود.
المقترح العملي لفتح نقاش حول ابتكار نظام لامركزي
ثمة تيار واسع من السوريين يروون أن الحل المناسب للحالة السورية، في تحديد شكل الدولة السورية القادمة، هو الاعتماد على نظام اللامركزية الإدارية الموسعة، المضمونة بنص دستوري واضح، مع منحها صلاحيات واسعة في أغلب المجالات، قد تفوق الصلاحيات الممنوحة في الأنظمة الفدرالية، وليس عبر تفويضات السلطة في إدارة شؤون المحافظات والمدن، (كما هو الوضع الآن مع المرسوم 107 الناظم للإدارة المحلية الذي فيه إيجابيات كثيرة، ولو خففت صلاحيات المحافظ لمصلحة رئيس المجلس لكان مقبولًا، مع تعديلات في الرقابة وأسسها وبعض السلبيات الأخرى التي يمكن إيجاد مخارج لها). وبذلك يتمكن السوريون من امتلاك الصلاحيات والموارد لإدارة شؤونهم، وشؤون مناطقهم، وفقًا لمصالحهم وتطلعاتهم وحاجاتهم، وهناك أمثلة كثيرة لدول استخدمت هذا الشكل من الحكم المحلي، يمكن الاستفادة من تجاربها.
وفي أي حال، نرى بأن تطبيق مبدأ البرلمان بحجرتين ضروري، وهو يخدم فصل السلطات أيضًا، وذلك على غرار النموذج الألماني أو الأميركي، وليس شرطًا نسخ التجربة الألمانية والأميركية كون نظامها فدراليًا، وإنما يمكم اعتماد نظام مشابه وينسجم مع اللامركزية الموسعة المنشودة، أي أن يكون هنالك، إلى جانب البرلمان المركزي المعروف في كل التجارب الديمقراطية، برلمان مركزي آخر يشبه في تركيبته برلمان الولايات الألماني الذي يسمى “بوندسرات” أو مجلس الشيوخ في النظام الأميركي الذي يمكننا أن نُطلق عليه اسم “برلمان المحافظات المركزي”. ونعتقد أن نظام البرلمان من غرفتين يشكّل ضمانة لعدم تجاوز حقوق المناطق والأقاليم وامتيازاتها، ونعتقد أن نظام البرلمان بغرفتين عامل ضمان للضعفاء، حيث هناك محافظات كبيرة إذا اتفقت في ما بينها ستسحق مصالح المحافظات الصغيرة أو الضعيفة، لذلك يكون التمثيل في البرلمان، كما كل البرلمانات، بحسب عدد السكان، والغرفة الثانية تكون كل المحافظات متساوية، هناك تجربة الأميركيين والألمان وتجارب أخرى يمكن الاستئناس بها.
لا شك في أن قوة الدولة في المركز، ومأسستها هي الضامن الأكبر لكل الحقوق، وحتى التفاهمات والاتفاقات المبرمة بين كل فئات المجتمع ومكوناته، من أجل بناء دولة المواطنة والعدالة والمساواة. من خلال هذه التفاهمات التي يجب أن تتم نستطيع أن نتجاوز كثيرًا من المخاوف والنقاشات التي تدور حول شكل الحكم في سورية، وكيفية تمثيل السوريات والسوريين. ولا يمكن أن يتم ذلك إلا في إطار فصل السلطات وإيجاد السبل لقضاء مستقل يتسم بالحياد السياسي والنزاهة، وتكون الكفاءة هي أساس تعيين القضاة، وهذا لن ينجز إلا بعد جهد كبير وقد يحتاج إلى وقت طويل، ويرى عدد من الخبراء القانونيين والدستوريين والسياسيين أن توفر المناخ الديمقراطي العام هو السبيل لإقامة نظام فصل السلطات، ولإقامة حكم محلي رشيد في الأطراف، ويرون هذا الأمر شرطًا لا بد منه، وهذا منطق الأمور وهم محقون في ذلك تمامًا. لكن على الرغم من ذلك أرى أنه يمكن تحقيق اختراق ما في الوصول إلى نظام لا مركزي موسع، حتى وسط هذه المتاهات، من خلال التركيز على تحقيق مكسب ما، يمكن من خلاله تحقيق أهداف مستقبلية أخرى.
هناك لا بدّ أن نستخدم ميزان الذهب، في تحديد المجالات التي تمنح فيها السلطات للسلطة المحلية، والسلطات التي يجب أن تبقى بيد السلطة في المركز، وعلينا أن لا ننطلق من اعتبار أن ما كان قائمًا من إدارة محلية هو جزء من النظام المركزي، ولا العكس، لأنّ ثمة تشوهات عميقة تمنع من النظر إليه في هذا الاتجاه أو ذاك، هو تجربة خاصة تعتمد أنماط حكم وأشكال إدارة قد تُصنّف ضمن هذا الإطار أو ذاك، وكذلك عدم النظر إلى أشكال الحكم، إما مركزية أو لا مركزية إدارية أو لامركزية سياسية فدرالية.. إلخ، فكل دولة لها تجاربها، وهناك دول عدة أجرت تعديلات على أنظمة حوكمة، لتتناسب مع واقعها البشري أو الجغرافي أو الاقتصادي أو العرقي أو الاثني….. ولذلك علينا الانطلاق من مبدأين أساسيين: الأول توزيع الصلاحيات بين المركز والمحلي سواء كان هذا المحلي هو محافظات أم أقاليم أم مناطق أم بلديات؛ والآخر توزيع الثروات والموارد بين المركز والمحلي، وتوزيعها ضمن مستويات المحلي، أقاليم، محافظات، مناطق.
هناك من يقف ضد المركزية مستندًا إلى التجربة السابقة، وهناك من يراها ضرورة للحفاظ على دولة خارجة من الحرب وتعاني كل تداعيتها، وهناك من يدعم اللامركزية السياسية الفدرالية استنادًا إلى أن المركزية هي التي أدت إلى ما نحن فيه، وهناك من يراها تُفتت الدولة وتشجّع على الانفصال، وهناك من يشجع على لامركزية إدارية تبقي سلطة للدولة وتحافظ عليها، وتعطي صلاحيات للمحافظات تيسر وتنجز ما يحتاج إليه المواطن، ويذهب بعضهم إلى أن نظامًا إداريًا كهذا يمكن لأي سلطة قادمة أن تسحب الصلاحيات منه جزئيًا أو كليًا.
من خلال كل هذه المتناقضات، ننطلق لنرسم نظامًا لامركزيًا سوريًا بضمانات دستورية، يحقق مصالح السوريين، ويوزع الثروة بشكل عادل أو مقبول، وهنا علينا تحديد صلاحيات السلطة في المركز وتحديد صلاحيات السلطات المحلية. ويجب أن يكون النظام المنشود حازمًا في عدم منح صلاحيات للمحليات لها طابع دولي، وذلك كوننا بلدًا خارجًا من حرب، وهذا سينهي قوة الدولة في المركز، وقد يقوض الوحدة الوطنية، وبالمقابل تعطى المحليات سلطات واسعة في إدارة شؤونها الاجتماعية والثقافية والتعليمية، وشؤونها الإعلامية والسياسية والقانونية أيضًا، ضمن إطار القانون العام والدستور، ويمكننا ربط مصالح المحليات بشكل يحقق ترابطًا مصلحيًا ذا فائدة لكل الأطراف المحلية والطرف المركزي، وهنا لا بد أن نقول إننا نحتاج إلى نظام مبتكر يتواءم مع متطلبات السوريين، وأعتقد أن هذا النظام المبتكر يجب أن ينص عليه بنص دستوري واضح، غير قابل للتأويل، ولديّ أفكار حول ذلك سنطرحها لاحقًا، ويمكن العمل مع مجموعة من الخبراء السوريين، وهم كثر، لإنجاز نظام فيه سلطات للمركز تحفظ البلد من التفتت والانقسام، وفيه من اللامركزية ما يفوق حتى الأنظمة الفدرالية في الشؤون الاقتصادية والثقافية والحياتية بصفة عامة.
ولا يمكننا أن نتحدث عن توافقات عامة من دون المرور بمسألة اللغة، وأعتقد أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية الوحيدة، مع التركيز على اللغة الإنكليزية التي هي لغة العلم العالمية، ولا مانع من تعليم جميع الطلاب لغات أخرى، وإن كان ذلك إلزاميًا، ومنها الكردية والتركمانية والسريانية وغيرها أيضًا، وترك مجال التعلم في اللغات الأخرى مفتوحًا، لكي يتاح استخدام اللغات التي تخص قوميات سورية في المعاملات وفي المحاكم، ويمكن أن تكون هناك لغةٌ رسميةٌ في محافظةٍ ما، وليست رسمية لكل الدولة.
نحن ننطلق بموضوع لغة الدولة من مصالح أساسية، لا من وجهة نظر قومية أو عرقية أو تعصّب لهذه اللغة أو تلك، اللغة العربية هي اللغة الجامعة الوحيدة في سورية، وهي لغة الثقافة والتاريخ والعلم، وهي لغة معترف بها من الأمم المتحدة لغة رسمية ضمن قائمة قليلة من اللغات، ونحن نعرف أن الهاجس اللغوي عند الكورد والسريان والتركمان والأرمن وغيرهم عالٍ، ولا بدّ من وضع حل يمكنهم من استخدام لغاتهم وتطويرها، لكن فرض لغة 10 في المئة على تسعين في المئة أمرٌ لا يمكن أن يكون منطقيًا، وكذلك اللغات الكوردية والسريانية وحتى التركمانية، فإنها تحتاج إلى سنين طويلة لتكون لغة علم ومعرفه وفكر، وحرصًا على مستقبل أبناء سورية جميعًا، لا بد أن تكون العربية لغة الدولة، وهذا يحقق مصالح حتى للأكراد والسريان، فتعلم العربية يعطيهم فرص العمل في مجال عربي واسع، ويحقق لهم المساواة في الفرص في الأعمال، فحتى لو اعتمدت الكردية أو السريانية، فإن البنوك والشركات الكبرى ستبقي الأولوية للغة العربية والإنكليزية في هذه المنطقة، وهنا لا بد من البدء بالاهتمام باللغة الكوردية والسريانية والتركمانية، ووضعها على سكة التعليم والفكر والأدب والعلوم المختلفة، وهذه مسيرة طويلة، وتحتاج إلى جهد مخلص وكبير، ولا بد من البدء بها.
وأرى أن تكون السياسية التعليمية من اختصاص الحكومات المحلية، حيث يمكن أن يكون لكل محافظة لغة رسمية، أو أكثر إضافة إلى اللغة الرسمية للدولة، ويكون ذلك من صلاحيات برلمان المحافظة ومجلسها، كما يمكن للبرلمان أو المجلس المحلي أن يقرر تدريس مواد تعليمية مختصة بثقافات سكان المحافظة وبلغتهم، وذلك بشكل مخطط وتدريجي، ضمن دراسات علمية لا عاطفية ولا أيديولوجية، وبما لا يؤثر في التحصيل العلمي لأبناء سورية المستقبل الذين نتمنى لهم مستوى تعليميًا متطورًا، فهم أملنا في بناء دولة محترمة.
وكما تحدثنا في موضوع اللغة لا بدّ أن نتحدث في موضوع شائك آخر، وهو الأمن وحفظ النظام، وممّا لا شك فيه أن مهمات حماية الحدود الخارجية هي من واجبات سلطات الجيش والاستخبارات في المركز، أما في موضوع حفظ الأمن والنظام داخل البلد، فأنا مع تفويض كامل للشرطة المحلية، وأن تتبع الشرطة المحلية الإدارة المحلية، ولا أرى أن تكون تابعة للمركز، على أن تنسّق معه ومع المحافظات أو الأقاليم، ولا ضير أن تكون هناك سلطات في المركز تتابع مع القيادات المحلية، ويمكن أن تتدخل في ظروف خاصة جدًا وفي أضيق الحدود، ولا بدّ أن تحدد هذه الظروف بشكل واضح.
ولا بد أن يكون للسلطات المحلية بعض الصلاحيات التشريعية المحددة بموجب الدستور، ولمَ لا؟ وأرى أن تشمل كل مؤسسات المحافظة الثقافية والتعليمية والأمنية والاقتصادية والمالية والرقابية، بما لا يتعارض مع النصوص الدستورية للدولة أو القانون العام. ولا بد أن تكون هناك سلطات قضائية محلية إلى جانب المركزية، تنظر في قضايا محلية محددة بنص القانون، ويجب أن يحصل القضاء المحلي على كل الصلاحيات بلا حدود، أنا مع نظام قضائي يشبه النظام القضائي في البلدان الفدرالية، ويجب أن تكون كلّ مراحل التقاضي في المحافظة، إلا القضايا ذات الطابع العام، فأرى أن تكون في مستوى المركز.
لكننا في الوقت نفسه نحرص على أن تبقى أنظمة التجارة الخارجية حكرًا على السلطة في المركز، ولا أرى أن يكون للسلطات المحلية أنظمة خاصة أيضًا بالتجارة الخارجية ولا بالتعامل الخارجي، وهذا لا يمنع أن تكون المحليات موجودة في أي اتفاقيات أو تعاملات دولية تخص مناطقها أو تمر بها، على أن تبقى أنظمة التجارة الخارجية وكل المعاملات حكرًا على السلطة في المركز.
مع مراعاة الأسس العامة والقانون العام، لا مشكلة أن يكون للسلطات المحلية سياساتٌ خاصة بسوق العمل والأجور والضمان الاجتماعي والتقاعد وأشياء أخرى، وذلك بالتوافق مع النقابات والمجالس الأخرى المختصة، وأن تعتمد سياسات ضريبية ومالية خاصة بها، وسياسات اقتصادية وتنموية خاصة بها، ولها إبرام اتفاقات ذات طابع اقتصادي مع محليات أخرى.
ونشجّع أن يكون للسلطات المحلية مؤسسات إعلامية خاصة بها، ولابد أن تحصل على الدعم الذي يضمن استقلالها وحريتها، لتتمكن من لعب دور رقابي على عمل المؤسسات المحلية والمؤسسات في المركز.
هذه الصلاحيات يجب أن يقابلها ضمانات الحوكمة والشفافية والنزاهة في إدارة الأموال وتوزيعها، ومن ضمنها الأدوات الآتية: نظام محاسبة شفاف وفاعل؛ قدرة الناس والإعلام على الوصول إلى المعلومات؛ دور رقابي فاعل لمنظمات المجتمع المدني.
ونرى أن يكون الإشراف والرقابة المركزية على أعمال المجالس المحلية وقراراتها محدودًا للغاية، وأن يقتصر على مدى التزامها بالدستور، والقانون العام، وعلى مراقبة الفساد، أو في حال حدوث انسداد أفق بين القوى السياسية المحلية، أو مشكلات كبرى داخل المحليات تستوجب حلًا من السلطات العليا. ونرى أن يكون المحافظ منتخبًا من المجتمع المحلي كسائر أعضاء المجلس، ويمكن أن يعين ممثل للسلطة في المركز، كما في الحالة التركية: الوالي ورئيس البلدية مثلًا، أو ما يشابه ذلك.
أعتقد أنه يجب أن يعاد التقسيم الإداري، وأن يزاد عدد المحافظات، لأن الحرب قد سببت شروخًا عميقة وجراحًا غائرة بين جميع مكونات الشعب السوري، ولا بدّ من حفظ حق الأقليات في التمثيل العادل والمتوازن. وهذا لن يكون من دون تقسيمات إدارية جديدة، بالتأكيد لا نطالب بتقسيمات ذات بعد طائفي أو قومي، لكن على أساس المناطق المتشابهة. وبحسب رأينا، كلّما زاد عدد المحافظات كان ذلك أفضل، ثم إن العلاقة بين السلطة المركزية والسلطات المحلية يجب أن تكون محكومة بقواعد دستورية دقيقة ومفصّلة.
لعوامل عدة، منها انعدام الثقة وإمكانية تعديل القوانين أو الإشكالات في تأويلها، نعتقد أن ضمانات دستورية كافية، ونرى أنه لا موجب لوجود مواد ما فوق دستورية، إلا إذا أردنا بناء طوابق أخرى مثلًا أعلى من الفوق دستوري، هناك بلدان ليس لديها دساتير، ويجب علينا عدم المبالغه في التحفظات والمطالب التي ستبقي النار متقدة، ولا يمكن أن تقودنا إلا إلى الخراب.
بعد إقرار صيغة لامركزية إدارية موسعة، يكون فيها هامش الحرية الاقتصادية عاليًا للمحافظات، علينا -السوريين- أن نسعى ونضغط لإنتاج نظامٍ يمنع إعادة إنتاج نظام دكتاتوري، ويحفظ استقلال القضاء والقضاة، ويضمن مسألة فصل السلطات، مع وجود آليات عملية لتحقيق ذلك. وإذا حصل هذا، فسنعدّ أن نصرًا كبيرًا في زمن الهزائم قد تحقّق.
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة