فوّاز حداد
بالإشارة إلى مقال الصديق الروائي ممدوح عزام “تراث الكاتب”، في زاويته الأسبوعية على صفحات “العربي الجديد”، ثمّة توضيح، وليس ردّاً، حول حنّا مينه معلّماً في الرواية، وما المقصود من هذا التعبير. يُمكن القول بداية، إنّه على الرغم من أنّ رائِدَا الرواية السورية: شكيب الجابري وحنّا مينه أنارا الطريق للرواية السورية، وكانا علامةً في تاريخها، لكن كان من حظّها أن الروائيِّين من بعدهما، مثل هاني الراهب، وحيدر حيدر، وخيري الذهبي، ووليد إخلاصي، لم يسيروا على الدَّرب الذي اختطّاه.
فالجابري أثّر في زمنه على كُتّاب القصّة والرواية وكانوا قلّة، وكان آخر مَن تأثّر به مع الاختلاف، الروائي بديع حقّي في تلك النزعة الرُّومانسية الحزينة. أمّا حنّا مينه، فالأعداد الهائلة من القُرّاء تأثّرت برواياته، ولا مبالغة في أنّ أغلبهم لم يقتصر على سورية، بل تعدّاها إلى البُلدان العربية. أمّا إذا كان مُعَلّماً، فلمن كانوا في زمنه، وحاولوا الكتابة على هذا النمط، وأغلبهم بحُكم الانتماء إلى اليسار. ولا يجوز اعتباره المعلّم أو المبالغة به، إلّا من ناحية التأثير. في ذلك الوقت، كان التيار الغالب في سوريّة هو الواقعية الاشتراكية التي وظّفت الأدب لأيديولوجيا الدولة، وكان رائداً، والواضح أنه انطوى مع انتهاء هذا التيار. ولئلّا يُنسب التأثير إلى رواياته فقط، نقول إن ما ساعده هو ما يُدعَى بمناخ الرواية وتطلّعاتها اليسارية، وقد وجَد الروائيّون في هذا التيّار ما يَصبون إليه.
إن ما أساء إليه، بعد مجموعة رواياته الأُولى، هو استسهال الكتابة، وكان بعضه تحت إصرار “دار الآداب”، فقد كان سهيل إدريس يطلب منه رواية في كلّ عام. كما يُلاحَظ أنّ الكثيرين ممّن كانوا يقتنون رواياته فبحُكم الاعتياد والوفاء لكاتبهم المُفضَّل، عدا أنّ الخيارات كانت محدودة، إزاء هيمنته إلى جانب نجيب محفوظ، وأعتقد أنّ محفوظ أيضاً لم يحظَ بدايةً من الروائيّين المصريّين أنفسهم بمَن اعترف أنه تعلّم منه شيئاً، حتى إنه شاعت في ذلك الوقت مقولة “نحن جيل بلا أساتذة”، وإن كان أغلب النقّاد مثل محمود أمين العالِم، وعلي الراعي، وعبد القادر القطّ، ولويس عوض وغيرهم، اعترفوا بتميُّزه من باقي الروائيّين في جيله، إلى أن أُجمع عليه بعد فوزه بـ”جائزة نوبل”.
يصعب تحديد مقدار تأثير كاتب احتلّ الساحة الأدبية في الجيل الذي يُعاصره، ربّما بالأفكار، أو بالأسلوب والسرد، أو اللغة وسلاسة التعبير، أو الموضوعات التي يتطرّق إليها. وهو أمر غير مُستبعَد، وليس سيّئاً، ولا يُمكن ضبطه، إن لم يتم قصداً وعن وعي، فالتأثّر يتسلّل إلى اللّاوعي. ولم ينقطع تأثيرُه إلّا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وكان متواكباً مع وفود “الواقعية السحرية”، التي أنهت حقبة الواقعية الاشتراكية، وأعطت للخيال المساحة الأكبر، إضافة إلى الاطّلاع على النِّتاج الروائي العالمي، وكان بلا حدود.
في الحقيقة، لا أرغب في تقييم حنّا مينه، فأنا لستُ مدافعاً جيّداً عنه، فقد كنت مُعجباً بكتابات هاني الراهب وحسيب كيالي وقصص عبد السلام العُجيلي. أترُك مهمّة النقد للنقّاد، لا شكَّ أنّنا يوماً سنحظى بنُقّاد يكتبون عن هؤلاء الرُّوّاد وغيرهم، فالروائيون بحسب زعمي، لا يصلحون لتقييم روائيّين مثلهم، لا لسبب وإنما لأنهم أسرى أعمالهم، وقد يُقال إنها مسألة “قتل الأب” المشروعة في الأدب.
في الكتابة الروائية لا تقاليد ولا تقليد، الأهمّ كسْرُها، وليس باتّجاه محدّد، وإنما نحو أكثر من اتّجاه، فالمُتابعة على المنوال نفسه لا تُقدّم شيئاً، الأجدى الانغماس في العصر، ما يمنحنُا الأفكار والأساليب الفنّية. وإذا كنّا افتقدنا إلى ما يشبه “معطف غوغول”، فقد تعلّمنا أنه من الحياة تأتي الروايات.
المصدر: العربي الجديد