حسام أبو حامد
تحقّق الولايات المتّحدة في تسريب وثائقَ تفيد بأنّ إسرائيل مستمرّة في نقل أصول عسكرية من أجل شنّ هجوم عسكري ردّاً على الهجوم الصاروخي الباليستي الإيراني المكثّف مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول الحالي. ويسعى المسؤولون الأميركيون إلى تحديد كيف تسرّبت وثيقتَان سرّيتان (للغاية)، تعالجان (وتحلّلان) معلوماتٍ وصوراً جمعتها الأقمار الاصطناعية التجسّسية الأميركية، أعدّتهما (من بين وثائق أخرى) وكالتا الاستخبارات الجغرافية المكانية الوطنية والأمن القومي الأميركيتان. ويركّز التحقيق فيمن يقف وراء تسريب الوثيقتَين يوم الجمعة الماضي في “تليغرام” (واحد من بين أكثر خمسة تطبيقات تحميلاً في العالم، ويستخدمه قرابة 900 مليون مستخدم حتّى عام 2024)، بواسطة حساب يسمَّى “المتفرّج في الشرق الأوسط” (Middle East Spectator)، قال إعلام إسرائيلي إنّه مرتبط بإيران. وفي كلّ حال، يبدو التسريب محاولةً للتأثير في الردّ الإسرائيلي المُرتَقب على إيران. وبينما يختلف المسؤولون الأميركيون في حجم الضرر الناجم عن نشر مضمون الوثيقتَين، فإنّهم يتّفقون في أنّ الخطورة المطلقة تكمن في التسريب في حدّ ذاته، ما يدفعهم في محاولة الإجابة عن السؤال: من سرّب الوثيقتَين، ولمصلحة مَنْ؟
يمكن على سبيل الافتراض أن نقول إنّ الإسرائيليين تعمّدوا تسريب الوثيقتَين بهدف تحويل انتباه إيران، وحملها على توقّع هجوم في أماكن خاطئة. لكن، ليس هناك نفي أميركي صريح لصحّة المعلومات الواردة في الوثيقتَين، ولا ما يشير إلى أنّ ما فيهما من معلومات مضلِّلة، ولم تشككّ شبكة سي أن أن ولا موقع أكسيوس (أول من تطرّق إلى واقعة التسريب) في صحّة ما جاء في الوثيقتَين، بينما نقلت “أسوشيتد برس” عن مسؤول أميركي قوله إنّ الوثائق تبدو رسميةً وحقيقية. تستبعد طبيعة المعلومات الحسّاسة الواردة في الوثيقتَين فرضية كهذه، إذ إنّهما إن كانتا لا تكشفان جديدَ قدرات أميركية، فإنّهما تقدّمان معلوماتٍ تتعلّق بأسلحة إسرائيلية تستخدم للمرّة الأولى، بل تشير إلى امتلاك إسرائيل أسلحةً نوويةً لا تعترف هي بحيازتها علناً، وغيرها من معلومات عن آليات الهجوم وتدريبات على تنفيذه، وعن صواريخ إسرائيلية ستستخدم في الهجوم، لم يسبق الكشف عنها. ويبدو أنّ المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية تأخذ التسريب على محمل الجدّ، ولا توجد (حتّى لحظة كتابة هذه السطور) أمارات اختراق إسرائيلي لأجهزة أميركية مكّنها من الوصول إلى الوثيقتَين اللتَين تحملان علامة “سرّي للغاية”، من المفترض أن تنظر فيها الولايات المتّحدة، وحلفاؤها (أستراليا وكندا ونيوزيلندا والمملكة المتّحدة)، فقط، أو ما يعرف بـ”العيون الخمس” (FVEY)، وهو مصطلح يُشير إلى تحالف استخباراتي يشمل الولايات المتّحدة وحلفاءها المذكورين، بموجب معاهدة بريطانية أميركية متعدّدة الأطراف، تختصّ بالتعاون الاستخباراتي المُشترَك.
وارد أنّ الاستخبارات الإيرانية تمكَّنت من اختراق أجهزة أميركية، وسرّبت الوثيقتَين جزءاً من حربها النفسية ضدّ إسرائيل. وهي نظرية تفرض نفسها، نظراً إلى اختراقات إيرانية سابقة تؤكّد قدرة طهران في اختراق الأوساط الأميركية الرسمية، مباشرة أو عبر عملاء سيبرانيين، وقد اتهمت واشنطن طهران أخيراً باختراق حملة دونالد ترامب، وتسريب بعض وثائقها الداخلية. وبحسب تقاريرَ صحافية، فإنّ إسرائيل عانت، منذ هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في 7 أكتوبر (2023)، من فيضٍ غير مسبوقٍ من عمليات القرصنة الإلكترونية، تسرّبت معها كمّية كبيرة من المعلومات، واستهدفت وزارتي العدل والدفاع ومركز أبحاث النقب النووي وغيرها.
فرضية تسريب الإدارة الأميركية للوثائق علناً قد تتعارض وعدم رغبة الإدارة الأميركية الحالية في المخاطرة بتوتير العلاقات مع نتنياهو، وهي ليست بحاجة إلى تآكل الثقة بين الطرفَين
إن صحّت الاتهامات (وهو ما تنفيه طهران) فلن تكون تلك أولى الاختراقات الإيرانية. وأخيراً، قال تقرير استقصائي للصحافي الإسرائيلي، أومير بن يعقوب، (هآرتس، 21/ 10/ 2024)، إنّ قراصنةً يُظنّ أنّهم عملاءُ للمخابرات الإيرانية سرّبوا معلومات شخصية تتضمّن تفاصيل حسّاسة، بعد اختراق حسابات تخصّ مسؤولين دفاعيين وسياسيين إسرائيليين سابقين وحاليين، ما زال اثنان منهم يشغلان مناصب رسمية، وإنّ القراصنة نشروا المعلومات المسرّبة في موقع مخصّص أنشأوه، ووضعوا روابطه في قنوات “تليغرام” خاصّة بهم. ومن خلال تسريب الوثيقتَين تسعى إيران لإحباط الهجوم، أو تأجيله، ريثما تتوافر فرصُ معالجة الموقف المتأزّم في المنطقة، إذ حتّى مع تحذير مسبقٍ مُعلَنٍ من تلّ أبيب وواشنطن، وآخَر تضمّنته الوثائق المسرّبة، تبدو قدرة إيران في الدفاع عن أراضيها الشاسعة في وجه الهجوم الإسرائيلي المُرتَقب، المدعوم أميركياً (علناً أو سرّاً)، محدودة.
لا تزال احتمالات تطوّر الصراع صراعاً إقليمياً أوسع غير مرحّب بها بالنسبة لبايدن ونائبته كامالا هاريس، ولعلّ بنيامين نتنياهو يدرك كيف يمكن لضربة يوجّهها جيشه لإيران أن تعيد تشكيل السباق الرئاسي، ما يضيف تعقيدات للدبلوماسية النشطة بين واشنطن وتلّ أبيب. اندفاع نتنياهو تجاه ترامب رئيساً مجدّداً، واحتمالات اندلاع حرب شاملة أو ارتفاع أسعار النفط تزامناً مع سباق رئاسي في نهاياته، اضطرت بايدن وفريقه لتشجيع انتقام إسرائيلي “مدروس”، ما يطرح فرضية أن تكون إدارة بايدن نفسها قد تعمّدت تسريب الوثيقتَين حين عجز بايدن عن إقناع نتنياهو بعدم الردّ (وهو ما تظهره الوثيقتان المسرَّبتان)، فكان التسريب في الأقلّ فرصةً لتأجيل الهجوم الإسرائيلي لما بعد اليوم الانتخابي. ورغم أنّ تلك الحرب ليست قضيةً من الدرجة الأولى بالنسبة لناخبين أميركيين، إلا أنّها أدّت على سبيل المثال إلى تعقيد جهود هاريس للفوز بولاية ميشيغين التي يتركّز فيها عدد كبير من الناخبين العرب الأميركيين. لذا، حرصت الإدارة الأميركية على تأكيد قلقها “العميق بشأن الوضع الإنساني المتدهور في غزّة، والسعي إلى اتخاذ إجراءات عاجلة ومستمرّة” من حكومة نتنياهو “هذا الشهر لعكس هذا المسار”، بحسب رسالة إلى نتنياهو وقّعها وزيرا الخارجية والدفاع الأميركيان، أنتوني بلينكن ولويد أوستن (13 أكتوبر الحالي). مع ذلك، لم يصل بايدن إلى حدّ التهديد بتقييد المساعدة الأميركية لإسرائيل بجهود تحسين الظروف الإنسانية في القطاع. لكن فرضية تسريب الإدارة الأميركية للوثائق علناً قد تتعارض وعدم رغبة الإدارة الأميركية الحالية في المخاطرة بتوتير العلاقات مع نتنياهو، وهي ليست بحاجة إلى تآكل الثقة بين الطرفَين، في لحظة تحاول فيها الولايات المتّحدة تجنّب تبعات سلسلة الصراعات المترابطة التي تتورّط فيها إسرائيل، وتختلف مع نتنياهو في طريقة إدارتها.
يبدو تسريب الوثيقتَين السرّيتَين الأميركيتين، بغض النظر عن الفاعل، محاولةً للتأثير في الردّ الإسرائيلي المُرتَقب على إيران
يُحتمَل أن يكون موظف حكومي أميركي قد سرّب الوثيقتَين. لنتذكر أنّه، في سابقة من هذا النوع، قبضت أجهزة الأمن الأميركية في إبريل/ نيسان 2023 على أحد عناصر الحرس الوطني في القوات الجوّية، جاك تيكسيرا (21 عاماً) بتهمة تسريب وثائق كاملة، وُسِم بعضها بـ”سري للغاية”، ألحقت بتقديرات مسؤولين ضرراً كبير بالأمن القومي الأميركي، وشملت معلوماتٍ استخباريةٍ سرّيةٍ تتعلّق بالحرب بين أوكرانيا وروسيا، وبأعداء الولايات المتّحدة (الصين) وحلفائها (إسرائيل وكوريا الجنوبية وكندا). بكلّ حال، قد لا يمثّل تسريب موظف مغامرةً فردية معزولة على غرار ما فعل تيكسيرا، انطلاقاً من موقفٍ أخلاقيٍّ ربّما، إذ من المرجّح أنّ هناك جهةً سُرِّبت الوثيقتَين لحسابها (إيران مثلا؟)؛ ممّا لا يجعل تسريب الوثائق عبر موظّف حكومي فرضيةً قائمة بذاتها. ويبدو أن التحقيق مع الحكومة الأميركية يستبعد حتّى الآن تورّط أحد موظفيها، وبدأ يركّز في دور جهات فاعلة خارجية. وفي حال تعزّز هذا التوجّه، فإنّه بحسب محللين أميركيين، يطرح تساؤلاتٍ جدّيةً عن حليف أميركي ما، من العيون الخمس (أو من الناتو؟)، لديه إمكانية الوصول سرّب الوثيقتَين، ممّا يكشف شعورَ حلفاء الولايات المتّحدة بالإحباط من عجز بايدن عن منع نتنياهو من إشعال فتيل أكبر حرب في المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية، ما دفعهم إلى محاولة عرقلة خطّة نتنياهو.
إن أخّر تسريب الوثيقتَين هجوماً إسرائيلياً على إيران فإنّه لا يلغيه. وفيما يتعلّق بالوثيقتَين المسرَّبتَين، وإلى حين ذوبان الثلج وظهور المرج، بعد توجّه أميركي للتكتم على التحقيق، فإنّه من الواضح أنّ أطرافاً عدّة تتشارك مصلحةً في تسريب الوثيقتَين، لكنّها (لأسباب مختلفة) لا تجرؤ على أن تقول لنتنياهو وجهاً لوجه: آن للحرب أن تتوقّف. … فتحوّل أمنياتها واقعاً. أما نحن، فلسطينيين ولبنانيين (وغيرنا) فلنا الله.
المصدر: العربي الجديد