محمود الريماوي
يمثل الأردن أحد دول جوار سورية الأكثر أهمية، ويتأثّر بصورة مباشرة بالأوضاع في هذا البلد، وقد انعكست الأزمة السورية منذ عام 2011 بتدفق أكثر من مليون لاجئ سوري إلى الأردن، خصّصت لهم ثلاثة مخيّمات، وتناقصت أعدادهم، حتى بلغت نحو 620 ألف شخص، نتيجة الانتقال إلى بلد ثالث، أو العودة الطوعية إلى بلادهم. وبينما ينظر الأردن إلى الأحداث التي تشهدها سورية بقلق، فإنه يشاطر دولاً أخرى موقف التمسّك بوحدة الأراضي السورية وسلامتها، وأهمية إحلال الاستقرار فيها، وهي مبادئ عامّة حقّاً، لكنّها لم تمنع عمّان من اتخاذ مبادرات لكسر الجمود في الأزمة السورية، بتشجيع دمشق على الترحيب بعودة اللاجئين وضمان سلامتهم، في مقابل عودة النظام إلى جامعة الدول العربية، وهو ما تمّ، وعادت أعداد ضئيلة تقدّر ببضعة آلاف من اللاجئين، وقد شكّل البلدان لجنة ثنائية عالية المستوى، وذات طابع أمني، لمنع تدفّق المخدّرات إلى الأردن عبر حدوده الشمالية والشمالية الشرقية، لكنّ تدفّق هذه السموم إلى الأردن لم يتوقّف، بغرض تسريبها إلى البلاد أو “تصديرها” إلى دول الخليج العربية. وسبق أن استضاف الأردن في إبريل/ نيسان الماضي اجتماعاً وزارياً تشاورياً بخصوص الأزمة السورية انبثق منه بيان عمّان، الذي يثمّن السعي نحو حلّ سياسي ومعالجة مشكلة اللاجئين.
ومع انطلاق عمليات المعارضة المسلحة العسكرية في 27 من الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، فقد حرصت عمّان على التقليل من التصريحات الرسمية عن هذه التطوّرات، حال غالبية العواصم العربية، فقد فوجئت عمّان بهذه التطوّرات، كحال أطراف إقليمية ودولية. كانت أنظارها متّجهة إلى البؤر الساخنة في لبنان، وتلك الملتهبة في قطاع غزّة، إضافة إلى السودان، فإذا بالمعارك تندلع لدى الجار في الشمال، مُحدثة (حتى تاريخه) تغييراً في معادلات القوة والسيطرة في هذا البلد. وتتمحور التصريحات والمتابعات الإعلامية حول ضرورة حفظ المصالح الأردنية، وعدم تأثّرها سلباً بما يجري وراء الحدود الشمالية، وأن تشهد هذه الحدود استقراراً، فلا تقف في الجانب الآخر مليشيات إيرانية الولاء، ولا مجموعات سلفية متشدّدة.
فوجئت عمّان بالتطوّرات الأخيرة في سورية، كحال أطراف إقليمية ودولية
غير أنه تبقى هناك آمال، رغم هذه التطورات الدراماتيكية، في أن تتجه الأوضاع هناك إلى استقرار سياسي مثمر، يفتح الباب أمام عودة اللاجئين السوريين من دول المنطقة إلى بلدهم، وعودة النازحين في الداخل السوري إلى مناطق إقامتهم، في وقتٍ زادت فيه أعداد هؤلاء النازحين بفعل التطوّرات أخيراً، بما يسمح بالانتقال (إذا كان هناك استيعاب سياسي لما يحدث) إلى حالة تعافٍ بمشاركة العدد الأكبر من السوريين في جميع المناطق. وفي مناسبات عدّة، تحدّث مسؤولون أردنيون عن أهمية الحلّ السياسي ومرجعية قرار مجلس الأمن 2254، الذي من شأنه وضع الأزمة في طريق الحلّ، وإشاعة مناخ سياسي جديد يزيل الحواجز بين السوريين وانشطارهم بين موالاة ومعارضة، ويعيد إحياء مؤسّسات الدولة وتنشيطها، ويحصر السلاح بأيدي الدولة في أجواءٍ من مصالحة فعلية واسعة تستحق التطلّع إليها، مع أنها تعكس في هذه الظروف نظرة حالمة.
والانطباع حتى اللحظة هو الحذر الشديد، بغير اضمحلال الأمل بأن لا تزداد الأزمة تعقيداً بدخول عناصر إضافية عليها من خارج الحدود، وذلك مع الإدراك بأن السوريين قد تعبوا من المواجهات المسلحة، ومن الانهيار الاقتصادي والضائقة المعيشية، ومن انسداد الأجواء أمام أي حلّ شامل ومُستدام، كما أن دول الجوار، ومنها الأردن، قد ضاقت ذرعاً بالتداعيات السياسية والاقتصادية والأمنية للأزمة وانعكاسها في هذه الدول، وليس سرّاً أن شطراً من الدول الأعضاء تقف إلى جانب دمشق في مواجهة تمدّد نفوذ الفصائل، بينما تربط دول أخرى وقوفها إلى جانب دمشق بأهمية التوصّل إلى حلّ سياسي جدّي وملموس، بوصفه أفضلَ ردٍّ على الأزمة القديمة المتجدّدة، وهو ما تعكسه مواقفُ أطراف دولية مثل المجموعة الأوروبية وأميركا، وأطراف إقليمية أبرزها تركيا. وعلى الأرجح، وبما تفيد به خبرة الأداء السياسي الأردني، أن تتّخذ عمّان موقفاً وسطاً بين هذين التوجُّهَين، علماً بأن اطّراد المواجهات سوف ينعكس حُكماً في بلورة مواقف العديد من الدول والأطراف، بالرغم من أن الآمال تتمحور حالياً حول وقف المواجهات العسكرية.
تحدّث مسؤولون أردنيون في مناسبات عدّة عن أهمية الحلّ السياسي في سورية ومرجعية القرار 2254
من المعلوم أنه قد شُكّلت في بحر هذا العام (2024) لجنة وزارية عربية، عُرفت بلجنة الاتصال الخاصّة بالأزمة السورية، وتضم مصر والسعودية والأردن ولبنان والعراق وسورية وجامعة الدول العربية، في إطار تحصين عودة سورية إلى الجامعة بتحقيق تقدّم في مسار الأزمة. وقد عقدت اللجنة اجتماعَين في القاهرة وعمّان، إلا أن اجتماعا ثالثاً كان مقرّراً في بغداد في أغسطس/ آب الماضي لم يُعقد، وبدا أن هذه اللجنة تجمّدت من غير إيضاح سبب توقّف جهودها. ويثير تجدّد المواجهات المسلحة في نطاق واسع في الداخل السوري الحاجة إلى مبادرات عربية موضوعية تأخذ في الاعتبار سائر عناصر الأزمة وجوانبها، وتدفع نحو مبادرات جديدة لتطويق الأزمة، وتفادي مزيد من التعقيد عليها، بما في ذلك تفادي نشوء مزيد من التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية التي تمُسّ حياة الملايين من السوريين، علاوة على تهديد أمنهم. أجل، ثمّة حاجة ماسة لإحياء لجنة اتصال، أو إعادة تشكيلها بالتوافق بما يخدم جهود حلّ الأزمة، ويستجيب للتحدّي الراهن، مع الأخذ في الاعتبار طبيعة التطوّرات الجديدة، وبحيث يكون نقل هذا البلد إلى برّ الأمان مسؤولية عربية قبل مسؤولية أي طرف خارجي إقليمي أو دولي، ومن غير تقليل لأهمّية مواقف هذه الأطراف الخارجية، فإيران وروسيا موجودتان في عمق الأزمة السورية وجوانبها، بينما تتمتّع تركيا بنفوذ سياسي كبير على المعارضة بمختلف مكوّناتها. وليس معلوماً إذا ما كان الاتفاق (حتى لحظة كتابة هذه السطور) قد نضج لعقد لقاء رباعي في الدوحة يجمع تركيا وروسيا وقطر وإيران، وإذا ما قُيّض لهذا الاجتماع أن يعقد فسوف تنعكس مُخرجاته على أي اجتماع عربي في رحاب الجامعة. وإلى أن يُدرك السوريون في مختلف مواقعهم، وبالذات من هم في مواقع الحكم، أن إنقاذ بلدهم وشعبهم، بما في ذلك تسهيل عودة ملايين اللاجئين، هو بأيديهم.
المصدر: العربي الجديد