عرفته بعد انتقالي من حلب إلى دمشق بداية التسعينات، حيث تزاملنا خلال مرحلة الدراسات العليا بكلية الحقوق في جامعة دمشق. كان يقدم نفسه وقتذاك، مثقفاً صاعداً مغرماً بالحرية والحداثة والأدب، تبدو عليه علامات الضيق والتأفف من السلطة الحاكمة، كلما دار نقاشٌ سياسيٌّ حول أوضاع البلد، وينبري دفاعاً عن الديمقراطية الغائبة خلف أسوار البعث، طالما أن حديثه سيبقى طيَ الكتمان بين من يثق بهم، فيما لا تعوزه الفطنة لتغيير آرائه باختلاف توجهات مجالسيه. لم تكن براعته في المجاملة وتخييط العبارات المهذبة، لتخفي التناقض في سلوكه كلما اقترب منه المرء أكثر، لاسيما في المواقف التي كانت أفعاله تُكذّبُ فيها ادعاءاته حتى في أبسط الأمور.
في نهاية التسعينات سافر إلى فرنسا لدراسة الدكتوراه على نفقة الدولة، وانقطع التواصل بيننا خلال تلك الفترة، وحتى عندما عاد إلى دمشق بعد عدة سنوات لم يبادر كلانا لتجديد الزمالة التي جمعتنا، والتي لم تبلغ مستوى الصداقة كما تطورت إلى ذلك مع زملاء آخرين. بعد خمسة أشهر من اندلاع الثورة السورية؛ التقيته مصادفةً تحت جسر البرامكة وتبادلنا التحايا بعد طول غياب، وكعادته في التقاط الإشارات، بادرني بالسؤال عن موقفي من الأحداث التي تجري حولنا؟ وقد جاءت إجابتي على غير هواه، حين بدأتها بنقد حاد ممزوج بالسخرية، حول حديثه المُشين للتلفزيون السوري، والذي حاول خلاله الترويج لأكاذيب النظام بخصوص حادثة تعذ يب أهالي البيضا في بانياس، والدوس بالأحذية على رؤوس وصدور الشبان من قبل الضابط أمجد عباس وعناصره، بعد جمع المئات منهم في ساحة القرية في شهر نيسان من عام 2011. يومها لم يتورع عصام التكروري الذي أصبح دكتور القانون في جامعة دمشق، عن الكذب السافر والعلني، حين أكد أن “حادثة البيضا وقعت في العراق وأن قوات البشمركة هي من يقف وراءها”. علماً أن ذاك التصريح الشهير لأستاذ القانون والشاعر المُرهف، ما لبث أن أصبح مادةً فاضحةً تندر السوريون على صاحبها التكروري، وهو في مستهل ترتيب أوراق اعتماده للنظام، كبوق أكاديمي طموح، يضع قدميه على طريق الصعود نحو سلالم السلطة، على حساب الحقيقة، والدوس على عذابات وصرخات ضحاياها. رغم ابتسامته الصفراء التي كشفت لي حنقه وإرباكه مما لا يرغب بسماعه، أظهر استغرابه من كلامي وهو المعروف أصلاً بالتكلف في إيماءاته وحركاته، وأردف قائلاً: كيف يا صاحبي وأنت تنتمي إلى تنظيم فلسطيني مؤيد للنظام تصدّق روايات المندسين؟ ثم يا صديقي أنت بهذه الطريقة تؤذي مستقبلك وتضع نفسك في المكان الخاطئ، وبلهجته الشامية المتغنجة نصحني بالقول: ” حبيبي دير بالك على مصلحتك وحياتك ما حدا بكرا بنفعك وبعد شوي بتخلص القصة وبتروح عليك “. خلافاً لما أراد أن يسمعه الناصح التكروري، حسمت معه النقاش بعد أن صححتُ له؛ أنني تركت التنظيم الذي كنت أنتمي إليه لأنهم شبيحة للنظام، وأنهيت حديثي معه بلا رغبة في توضيح المزيد لمن زاد من قناعتي أنه ماضٍ في غيّه بكل إدراك وخبث.
مياه كثيرة جرت خلال السنوات التي تلت لقائي الأخير، بهذا الأكاديمي المنافح عن الشيطان، والذي تخرّج من جامعة السوربون في فرنسا، كي يستخدم اختصاصه العلمي في القانون الجنائي الدولي، للتغطية على مرتكبي الجرائم الدولية الكبرى بحق أبناء بلده المنكوبين على يد أسياده القتلة. بدلاً من واجبه كمحامٍ ومدرس للقانون، في الدفاع عن حقوق المظلومين والإفصاح عن هويات القتلة والمجرمين، بقيّ دون أن يرمش له جفن منذ بداية المقتلة السورية، وبعد أن اقترفت العصابة الحاكمة، أفظع وأبشع المجازر والانتهاكات بحق ملايين السوريين، مواظباً على الخداع والتضليل والنفاق، وموغلاً في قلب الحقائق، وتدنيس المنطق القانوني بما يقذفه من ترهات وأباطيل، يستزيدُ بها كي يقبض ثمن سلوكه الانتهازي، حتى ولو باع ضميره الشخصي، وشرفه المهني مقابل استرضاء عتاة الفساد والإجرام. اعتقدتُ أن سقطة “حادثة البيضا” التي انزلق فيها هذا الأكاديمي المرتزق إلى قعر هاوية المهانة والذل، سوف تردعه أو على الأقل تدفعه إلى التوقف عن التجديف في المياه الآسنة، لكن بعد أن خيّل له أن نظامه المأجور بالوكالة قد انتصر على جماجم السوريين، انتقل وبحماسة أشد من تبرير المآسي التي ارتكبها نظامه بحق المدنيين الأبرياء، ومن تجاهل ضحايا البراميل المتفجرة، وإنكار قتلى مجازر الكيماوي، والسكوت على شهداء التعذيب والإخفاء القسري، إلى توجيه آيات المديح والعرفان إلى ” الدولة الأسديّة وجيشها الباسل الذي انتصر على المؤامرة الكونية ” والتي استلهم التكروري وأمثاله من مخيلة المتآمرين الحقيقيين على وطنهم، فنون الطعن بحقوق ومعاناة السوريين وتطلعاتهم، مستخدمين في ذلك ترسانة من الأكاذيب والتزييف والتدليس، ليست أقل ألماً وحقداً من سكاكين الشبيحة، التي جزّوا بها رقاب الأطفال الرضع في البيضا ورأس النبع والتريمسة.
أشباه التكروري المعطوبين أخلاقياً، من مثقفين وأكاديميين ذوي اختصاصات وشهادات علمية، شكلوا أدوات وأبواق مأجورة، أهدروا ما كسبوه من علم ومعرفة، وضحوا بالقيم والمعايير الأخلاقية، عندما انحازوا إلى رواية السفاحين، وأخذوا على عاتقهم نسجها وحياكتها بما يلبي مخيلة أولياء أرزاقهم ومصالحهم. ما قاموا به استجابةً للأدوار التي تصدوا لها بكل وعي وتصميم، يعتبر مشاركة واعية في جرائم النظام الدامغة بحق الشعب السوري.
في لقائه الأخير في برنامج ” إلى حد ما ” الذي يُبث على فضائية صوت الطاغية، استعار التكروري من غولدا مائير رئيسة وزراء الكيان الصهيوني الأسبق المقولة التالية “يجب محاسبة الفلسطينيين لأنهم أجبرونا على قتلهم” وذلك في معرض سخريته من الدول الغربية التي شاركت في قتل السوريين حسب زعمه. فات التكروري ومن هم على شاكلته؛ أنهم أول من يجب أن يُحاسبوا يوماً، من قبل الشعب الثائر الذي تنكروا له وخانوا حقوقه، لأنهم كانوا المنشفة التي يجفف بها النظام القاتل دماء ضحاياه، وكاتم الصوت الخانق كي لاتصل صرخات المغتصبات إلى العالم، وجبل الأكاذيب الذي ملؤه بالنفاق والقيح كي تتوارى الحقيقة المضرجة بالدماء والخذلان..
التكروري الذي لبس ثوب الشاعر كي يُجمّل روحه القبيحة، وضع لديوانه عنوان ” شهوة تجرّني إلى الموت” وحتى في هذه أخفى الحقيقة الفاضحة التي يخشاها، وهي موات ضميره منذ أن حفرت شهوة السلطة مكانه في مزابل العار..