بابكر فيصل
نجحت الثورة السودانية المستمرة منذ شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي تحت قيادة “تجمع المهنيين السودانيين” في استنهاض قطاعات عريضة من المجتمع السوداني للخروج إلى لشارع للمطالبة باستعادة الحكم الديمقراطي وزوال النظام العسكري الإخواني الاستبدادي الذي جثم على صدر الشعب منذ الثلاثين من حزيران/يونيو 1989.
صاحبت الأحداث الثورية تحركات عدد من الكيانات المطلبية وفي مقدمتها “لجنة الأطباء المركزية” وهي الجسم الذي تم تكوينه ليعكس الإرادة الحقيقية للأطباء في مقابل النقابة الحكومية الصورية، حيث قادت اللجنة إضرابا ناجحا منذ أربعة أسابيع أظهر عجز السلطة وعدم قدرة منظماتها المزورة على تزييف إرادة المهنيين.
عمدت فتوى علماء السلطان إلى تجاهل الوقائع الماثلة على الأرض وسعت لتصوير الأطباء وكأنهم مجرمين
وفي الوقت الذي تبدى فيه الأثر الفاعل لإضراب الأطباء على النظام المتداعي، خرجت “هيئة علماء السودان” ـ وهي كيان حكومي يسيطر عليه الإخوان المسلمين ـ الأسبوع الماضي بفتوى تنص على “تحريم الامتناع عن إسعاف من هو في حاجة للعلاج بالمستشفيات ومن وجبت عليه مواساة غيره بطعام أو شراب أو دواء أو خيط لخياطة جرح”. وأشارت الفتوى إلى أن الامتناع عن “إسعاف صاحب الحاجة تأولا حتى مات فإنه يضمن دينه على عاقلته”، في الإشارة إلى الدية، “وإن كان متعمدا قتل به”.
من الجلي أن هذه الفتوى لم يقصد بها مراعاة أحوال المرضى في المستشفيات العامة، بل هدفت إلى اتخاذ موقف مساند للطغمة الحاكمة في مأزقها الذي نتج عن الإضراب، وذلك دور ظلت تلعبه مؤسسة التقديس طوال تاريخها، حيث أنها ظلت تصدر الفتاوى وتعطي المبررات الدينية للمواقف التي توافق هوى الحكام بينما يغدق عليها هؤلاء العطايا والمكرمات.
اقرأ للكاتب أيضا: ‘تطبيق الشريعة’: شعار بلا مضمون
ما يدفعنا إلى هذا القول هو عدم اكتراث “هيئة التقديس” للأسباب التي جعلت الأطباء يتخذون قرار الإضراب، والمتمثلة في الوضع الكارثي الذي وصل إليه النظام الصحي بسبب السياسات الفاشلة، وهو الأمر الذي جعل الأطباء يجأرون بالشكوى للحكومة منذ سنوات متطاولة دون جدوى، حيث ظلت مطالبهم لإصحاح الأوضاع الصحية تواجه بالتجاهل والرفض مما أدى لاستقالة المئات منهم وهجرة الآلاف خارج البلاد.
لم يكلف أعضاء “هيئة التقديس” أنفسهم بالنظر في الكيفية التي ظلت تخصص بها ميزانية الدولة طوال الأعوام الثلاثين الماضية من حكم الإخوان المسلمين، وتكفي نظرة سريعة لميزانية العام 2018 لتعطينا فكرة واضحة عن الجهة الحقيقية التي حرمت المرضى من العلاج، حيث بلغ الإنفاق على الدفاع والأمن والشرطة وما يسمى بالنظام العام 31 بالمئة من الميزانية، بينما لم يتعدى الصرف على الصحة 2 بالمئة من الموازنة!
ليس هذا فحسب، بل إن ما يدعو للأسى والحسرة الشديدة هو تخصيص ميزانية للرئاسة (القصر الرئاسي) تبلغ نصف الميزانية التي تم تخصيصها للصحة في جميع أنحاء البلاد (أكثر من 30 مليون مواطن!).
نحن هنا بإزاء نظام يوظف الأموال للصرف على الحروب العبثية التي يقتل فيها مواطنيه (دارفور، جنوب كردفان، النيل الأزرق)، وكذلك يتم الصرف بسخاء شديد على الأجهزة الأمنية والمليشيات التي تحمي النظام وليس الدولة (الوطن) وتقوم بقمع المتظاهرين السلميين الذين خرجوا للشوارع مطالبين برغيف الخبز والدواء، كما أنه يتم إنفاق الأموال بصورة بذخية لتغطية مصروفات الجنرال عمر البشير وجهازه الرئاسي.
ومن ناحية أخرى فإن الإضراب لم يكن بسبب مطالب شخصية للأطباء، بل جاء للتعبير عن الأوضاع المزرية التي آلت إليها المستشفيات الحكومية بسبب الإهمال، حيث يفتقد المرضى لأبسط مقومات العلاج من كادر صحي مؤهل، وأجهزة تشخيصية وأدوية وبيئة صحية نظيفة مما تعذر معه تقديم أية خدمة علاجية فاعلة.
الأهم من ذلك هو أن الإضراب لم يشمل عيادات الطوارئ كما توحي بذلك اللغة التي صيغت بها الفتوى السلطانية التي تتحدث عن “إسعاف” صاحب الحاجة حتى توهم الناس بأن الأطباء امتنعوا عن علاج الحالات الطارئة، فقد أكدت لجنة الأطباء المركزية في بيانها بوضوح أن الإضراب “لا يشمل أقسام الطوارئ والإصابات والعمليات الطارئة بكل المستشفيات، وأنه سيطال فقط “العيادات المحولة والخارجية في كل مستشفيات السودان، والعمليات المجدولة مسبقا، غير الطارئة والتي لا تؤثر على الحياة”.
وهكذا يتضح أن فتوى علماء السلطان عمدت إلى تجاهل الوقائع الماثلة على الأرض وسعت لتصوير الأطباء وكأنهم مجرمين يمتنعون عن إسعاف المرضى بينما هي تعلم أن القاتل الحقيقي للمرضى هو النظام الحاكم وسياساته الفاشلة، وبالتالي كان الأجدر بـ”هيئة التقديس” أن تحمل الحكومة الفاسدة المسؤولية المباشرة عن الإضراب وما ينتج عنه.
من محاسن الثورة الجارية أن السودانيون عرفوا مخازي رجال الدين المتملقين وتمسحهم بأهداب السلطان
إن تواطؤ علماء السلطان مع النظام الحاكم اتضح بشكل جلي منذ الأيام الأولى للثورة عندما ذهب وفد منهم لمقابلة الجنرال الطاغية، عمر البشير، في قصره المنيف وتناولوا معه أطايب الطعام والشراب بينما رصاص قناصة المليشيات الحكومية يحصد أرواح شباب البلد الأبرياء في الشوارع، ولم يصدر منهم حتى الآن بيانا يدين قتل الأبرياء وانتهاك حرمات المنازل وكشف الأعراض واعتقال الآلاف من المواطنين دون مسوغات قانونية.
اقرأ للكاتب أيضا: لماذا يصمت العالم عن إراقة دماء السودانيين؟
وقبل ذلك صمتت “هيئة التقديس” عن استشراء الفساد في جهاز الدولة وعبث بطانة الحاكم بمقدرات الشعب وثرواته التي نهبت بواسطة لصوص النظام ومحاسبيه، كما أنهم لم ينبسوا ببنت شفة حول إزهاق الأرواح في الحروب العبثية، وظلوا يوالون جميع المواقف والسياسات الحكومية التي أفقرت المواطنين وأعجزتهم عن الحصول على أبسط مقومات الحياة من خبز ودواء وكساء.
ولكن من محاسن الثورة الجارية أن السودانيون عرفوا مخازي رجال الدين المتملقين وتمسحهم بأهداب السلطان، فأظهرت العديد من الوقائع ومقاطع الفيديو المبثوثة في شبكات التواصل الاجتماعي أعدادا كبيرة من المصلين داخل المساجد وهم يقومون بطرد الأئمة الذين يحاولون الدفاع عن فشل الحكومة وممارسات القتل والتعذيب، وهذا أول السيل الذي لا شك سيعقبه طوفان هادر يطيح بأركان الاستبداد الديني.
المصدر: الحرة