أيمن أبو هاشم
أما وقد اتسعت خرائط الموت على امتداد الحواضر والبوادي السورية، تنكأ مع كل مجزرةٍ وفاجعةٍ لهيب جراحنا، ولا تترك متسعاً من السكينة للملمة أشلاء مآسينا، فقد أضحى البحث عن الخلاص في هذا اليباب القاتل، مردوداً عليه بإحكام دائرة القهر حتى النهاية. إدلب وما حولها تحترق اليوم، وتنضم إلى قائمة الخراب المعمّم، في حمص وحلب والرقة وريف دمشق ودرعا ودير الزور، وما بدَّل عالم الصمت اللعين سرديته الجوفاء، ولا انزاح عن انحطاطه الأخلاقي قيد أنملة. شلالات الدم، والوجوه المغطاة بالغبار، وغصّات الوجع والدموع الحارقة، هي المشهد اليومي الصارخ بلا هوادة، فيما منطق الإجرام والتوحش يوحّد زمن الطغاة والغزاة، بكل أسلحة الدمار والبطش. يتسابقون على حصد أحلام الفقراء والبسطاء، ولا يتركون شيئاً للمصادفة، ويتحاصصون أدوارهم المكشوفة من إدلب إلى غزة، إذ يكفي أن يَصموا كل مكان بأنه “معقل للمجاهدين” حتى تنهال حمم صواريخهم العابرة للضمير الدولي، وتتفجر براكينها على أجساد الأطفال الغضة.
لا فارق لديهم بين ضحايا أسدهم الحاقد، وضحايا صهيونيتهم البشعة، فكل اللاءات الثائرة حيثما ترتفع هنا وهناك، مشاريع استباحة تستهدف هوية المتمردين على الواقع الشائن. ينسجون من اتفاقيات الضامنين، لما تبقّى من ساحات البقاء في الشمال السوري شروط الهزيمة والاستسلام، ومن اتفاقيات التهدئة في غزة، يُمهّدون مسرح العمليات لاختزال ملامح القضية، في صفقة سياسية مُهينة. لسنا بشراً في حساباتهم الدنيئة، بل مجرد كائنات لا تستحق الحياة الكريمة، ولا يريدون من يذكّرهم بحقوق الشعب وكرامته الوطنية، يكفيهم الخونة والمرتزقة والفاسدين، كأدوات يوظفونها في تشويه الثورات، والنيل من قضايانا العادلة. يتوغلون في دماء أهلنا بلا رادعٍ أو شفقة، فكل أجنداتهم بربرية الهوى والمحتوى، وكل مساراتهم التفاوضية ومنصاتهم السياسية، تغطية لا تعوزها الوقاحة على استبدال الحقائق الدمويّة بالأوهام العارية.
في نفس الوقت الذي تقصف فيه طائرات النظام وروسيا، بيوت الآمنين في إدلب، وتدك المشافي والمدارس ولا تستثني حتى خيام النازحين، توثّق التقارير الدولية الكارثة السورية في نسختها غير المكتملة، وتؤكد أن 65% من الشعب السوري بين مقتول ولاجئ ونازح، فيما تترك لصمت المقابر بقية الحكاية الصادمة، عن بقاء الرئيس المجرم، قابعاً في قصره بعد كل هذه الفظاعات التي قام بها، دون أن يرف له جفن، طالما أنه محميٌّ دولياً من المساءلة والملاحقة والعقاب.
جفّت أقلام المناشدات، وتلاشت أصداء النداءات، وغامت صرخات القهر في مسلسل القتل الجماعي، ومن نجا بأعجوبة ضاقت عليه الحياة، وهو يرى الموت يحصد الأحبة من كل اتجاه. إدلب الخضراء نكبتنا المتواصلة من الوريد إلى الوريد، يبكي زيتونها في غزة، فيعانق الوجع الفلسطيني، آخر جيوب سورية الذبيحة. لأن نكباتنا المتشابكة لا تطويها نكبات، وأنين ضحاياها يمتزج حتى آخر رمق، يكبر جيل القهر على مذبح الخذلان، فلا يسمع طفلٌ في كفرنبل دمرت الصواريخ بيته وقتلت أشقاءه، تصريحٍ تافه يطالب المعتدي بضبط النفس، ولا تبالي طفلة في بيت حانون لمبعوثٍ متبلد، يطالب الضحية بالكف عن إزعاج جلادها.
حصاد جرائم القتلة أكبر مما يتخيلون، إذ يرونه في تجريب أسلحتهم الحديثة على رؤوس الأبرياء، أو في نشوة انتصارهم على (الإرهاب) الذي صنعوه بسياساتهم الظالمة، أو بضمان مخططات نهب وسرقة الأوطان، فهو من حيث لا يحتسبون، يتسع لكل خوابي الوجع والقهر والأحزان، تحصده أجيال فتحت أعينها على أقسى الفظاعات، وعايشت من الهموم والمآسي ما لا تحتمله الجبال، واختبرت صنوف الألم والعذاب واليُتم، وسقط على أقدامها النفاق العالمي بكل أباطيله وأكاذيبه. أجيال يختزن شريط ذاكرتها حروب الإبادة، من كفر قاسم إلى كرم الزيتون، ومن الجامع العمري إلى ساحة الساعة، ومن دير ياسين إلى (الباغوز)، ومن سراقب إلى رفح، ومن مخيم اليرموك إلى الرقة. أجيال عاركت قساوة الحياة، ولم تعرف في طفولتها ويفاعتها، ليس أقل مما يفعله الكبار في أزمنة المحن الكبرى.
ربما يعتقد دهاقنة الشر العالمي أن قدراتهم على توظيف غضب الجيل الجديد، في نسخ معدلة من التطرف المذهبي والطائفي، سيُلبي أغراضهم وأهدافهم الخبيثة في المنطقة، كما نجحوا فيه خلال الموجة الأولى من ثورات العرب. بيد أنّ ما يفوت الطغاة والغزاة على مرِّ التاريخ، أن الشعوب تورِّث حكمة جراحها ومعاناتها إلى أجيالها الصاعدة، لاسيما حين تستلهم تلك الأجيال من تجاربها المريرة، وعياً يمتح من القهر دروس الصلابة والتحدي، ومن استيعاب حقائق الصراع، معرفةً تراكمية بكيفية استنهاض الذات الوطنية، واستكمال مهام التحرر والخلاص الحقيقي، برؤية ثورية مُنظّمة وفاعلة، وتلك هي قنابل الشعوب الموقوتة في وجه أعداء حريتها.