غازي دحمان
لمحاكمة التحرّك الروسي أخيرا في إدلب (في سورية) بمنطق الاستراتيجيا ومعاييرها، فإنه يمكن الحكم ببساطة بغباء هذا التحرّك، لأن حاصله لن يضيف شيئاً ذا قيمة يساعد روسيا على الخروج من مآزق تواجهها، فضلاً عن أن هذا التحرّك يفاقم من أزماتها، في سورية وخارجها، ولا يكسر المعادلة الجهنمية التي وضعت روسيا نفسها بها، ولا يحرّك قطع الستاتيكو المتناثرة لإنتاج وضع مريح لروسيا. ذهبت كبريات الصحف العالمية إلى تفسيرات عديدة، مؤداها أن روسيا تسعى، عبر تهديد إدلب، إلى إصابة أكثر من عصفور بحجر واحد، منها إعادة ضبط المعادلة القائمة مع أميركا؛ لدفع الأخيرة إلى التفاوض معها وإنهاء حالة الجمود التي باتت تضرب الملف السوري، وتمنع الروس تاليا من الذهاب إلى الخطوة التالية، وهي قطف ثمار ما تزعم أنه انتصار عسكري في الاقتصاد والسياسة. وتذهب تفسيرات أخرى إلى أن الغاية الروسية من التحرّك هي التلويح لأوروبا بعصا اللاجئين، كي تسارع أوروبا إلى دفع مستحقات إعادة الإعمار في سورية، وخصوصا أن استخدام ورقة الدفعات الأولى من اللاجئين قد نفد مفعولها، واستطاعت دول أوروبا تجاوز تداعياتها وانتهت من النقاش المحلي، الأوروبي ــ الأوروبي. وفي ألمانيا بالتحديد أدى صعود حزب الخضر إلى موازنة المعادلة لصالح اللاجئين، وخفت وهج الأحزاب اليمينية، وخصوصا حزب البديل. وترى تفسيرات أخرى أن غرض التحرّك الروسي تعويم الأسد عبر منطق الأمر الواقع، ذلك أن سيطرته على إدلب ستجعل أي اعتراض على شرعيته نوعاً من الفانتازيا اللامعقولة، إذ لن يكون ثمّة طرف سياسي له حيثية يشكل بديلاً محتملاً له؛ حينئذ تصبح الدعوة إلى تنحّيه عن السلطة بمثابة مطالبةٍ بحصول فراغ في السلطة في سورية، وهو ما لا يقبله المنطق السياسي، بالنظر لتداعياته الأمنية الخطيرة على مستوى سورية والمنطقة.
وتبدو هذه التفسيرات منطقية، لانسجامها مع طبيعة التفكير الروسي، والذي على الرغم من محاولة الكرملين اتباع قدر من الغموض في سياساته الخارجية، وخصوصا كليشيهات إن روسيا لا تدافع عن أشخاصٍ معينين في سورية، أو أن روسيا تحترم القانون الدولي، إلا أن هذه السياسة باتت مكشوفة، وتفكّكت، عبر ثلاث سنواتٍ ونصف السنة من تدخل روسيا المباشر في سورية، جميع طلاسمها، إلى درجة أن أحداً لم يعد يهتم بادعاء الرئيس بوتين أن قواته ستنسحب من سورية، ولا بمؤتمرات أستانة، ولا ادعاءات قرب التوصل لتشكيل لجنة دستورية.
وللتحرك الروسي أغراضٌ داخلية أيضاً، لا تقل أهمية عن الخارجية، تتعلق بسلطة بوتين التي تواجه إرباكات في الداخل الروسي؛ فقد ذكرت صحيفة موسكو تايمز أن شعبية دعم التدخل العسكري الروسي في سورية تراجعت بشكل كبير، استنادًا إلى إحصاء جديد أجراه مركز “ليفادا” المستقل، ذلك أن 55% من المستطلعة آراؤهم طالبوا بإنهاء حملتها العسكرية في سورية. والنتيجة الأخطر تراجع نسبة الروس المتابعين للأحداث في سورية، ما يعني أن التدخل هناك، وأراد بوتين منه إشغال الداخل الروسي عن قضايا الفساد والحكم المستبد، قد استنفد فعاليته، فهل التحرك في إدلب محاولة لاسترداد الروح لهذه الوظيفة؟
الجواب بالطبع لا، لأن سلطة بوتين تعاني من أزمةٍ مركبةٍ داخل روسيا، هي أزمة انكشاف القابضين على الحكم، البيروقراطية والأجهزة الأمنية ورجال أعمال الكرملين الذين لا همّ لهم سوى الاغتناء، فيما ترزح البلاد تحت فشل مريع على المستويات الاقتصادية والتعليمية والصحية والتقنية والتكنولوجية، ويزداد الروس فقراً.
أما الأزمة الأخرى، فيسميها المعارض أندريه بيوتكوفسكي، “موت أسطورة بوتين”، ويرد أسباب الأزمة التي تمر بها روسيا إلى عملية تراكمية بدأت تنكشف أخيرا، ويقول إن كل نظام تسلطي ينبغي أن يقوم على أسطورة ما تُقدّم للرعايا كي يتحملوه. ويقول إن الروس يتذكرون جيداً خريف العام 1999، حين حدثت تفجيرات المساكن واندلعت حرب الشيشان، وقامت الكلبتوقراطية (حكم اللصوص) الحاكمة، عبر جهاز التلفزة، بإيجاد أسطورة ضابط المخابرات الشاب البطل، الذي يحمي الروس من الإرهابيين، لكن هذه الأسطورة، حسب بيوتكوفسكي، انتهت، وأصبح الجميع يدرك المأزق الشامل لسلطة النهب البوتينية، وغياب أية ضمانات اجتماعية وآفاق للمستقبل.
لن يستطيع التحرّك الروسي في إدلب الانقلاب على هذه المعطيات، وتحقيق نتائج مهمة من شأنها ترميم ما عطلته الوقائع والأحداث، كما أن بوتين لن يستطيع إحياء ما هو ميت، طالما أن دبلوماسييه يحملون جثّة بشار الأسد عبر العواصم في محاولةٍ لإعادة إحيائه، وذلك يمثّل قمة الفانتازيا والعبث، فمن يشتري جثة متعفنة؟ ولن يستطيع أحد، مهما بلغت درجة وقاحته، تأهيل مجرمٍ من عينّة بشار الأسد. كما أن لعبة بوتين القائمة على “تأجيل التاريخ” في سورية، بتمديد حكم الأسد، وتنويم الثورة ضده بالقوّة وبسياسات الإبادة والأرض المحروقة، انتهت ولم تعد مجدية، فبالإضافة إلى تكاليفها الباهظة، فإنها معاكسةٌ لمنطق التاريخ والحقيقة، وسيخضع لها بوتين مكرهاً، مهما حاول التفلّت منها.
المصدر: العربي الجديد