عادل يازجي
مع احترامنا للعمل الديبلوماسي، والجهود المضنية التي بذلها مبعوثو الأمم المتحدة إلى سورية، كوفي عنان، الأخضر الإبراهيمي، ستيفان دي ميستورا، وأخيراً غير بيدرسون، واحترامنا لمهمتهم المعقدة التي لا تنفع فيها صيغة الحوار، طالما أن أحد طرفيه، وهو النظام، مستهدَف في أوراق التفاوض، التي في سلال “مؤتمر جنيف”، لاشك عُدل عن استهدافه دولياً بتوافق القطبية الثنائية، وبقي يحاوَر لتنفيذ قرارات تستهدف قذفه خارج المشهد، عدّلت أهداف التعامل معه، ولم تعدل القرارات الدولية التي يحاوَر لتنفيذها، وهو بوضوح لا يقبل أي تغيير قد يبنى عليه لاحقاً لإخراجه من المشهد، فبقيت زيارات الموفد الدولي إلى دمشق سياحية لا سياسية، طالما أنها للبحث مع حكومتها في كل ما ترفضه، بدءاً من المرحلة الانتقالية، بحكومتها كاملة الصلاحيات، وانتهاء بالقرار 2254، المُختلَف ليس على سُلَّم اولوياته فقط، بل على بنوده جملةً وتفصيلاً، بما فيها السلة المضافة (لجنة الدستور)، التي إن رأت النور، يكون ذلك خارج التوقعات.
إن جميع أسس التفاوض خلافية بين المجتمع الدولي والنظام السوري، وعلى رأسها محاربة الإرهاب المستورد منه، والمُصنع محلياً. ويصعب أن نتخيل حلاً وسطاً لما يرفض النظام الحوار في شأنه، أياً كان المفاوض الدولي، سواء بيدرسون أم مجلس الأمن مجتمعاً، والأسباب لا تحتاج إلى شرح وتحليل.
من جهة أخرى، ما الصيغ التي يطرح فيها الموفد الدولي طلبات الهيئة التي يمثلها؟ هل يترجى؟ أم يأمر؟ أم يستجدي؟ أم يناور ديبلوماسياً بما يسميه حواراً؟ علماً أن المناورة، أو الحوار، في قراءة النظام للقرارات الدولية، وصلت إلى طريق مسدود قبل انتصاره ميدانياً، فكيف بالأمر بعد انتصاره؟ وهي أساساً قراءة سورية – روسية – إيرانية، مَسْكوت عنها تركيّاً.
أوحت تصريحات بيدرسون بأنه جاء مدججاً برغبة دولية جادة لتحقيق تسوية سياسية. وكأن هذه الرغبة ولدت من جديد، ربما. المهم أنها موجودة حالياً، سواء ولدت من جديد أم كانت ابنة ثماني سنوات، لا يهم. لكن، إن بقيت بصيغة “جنيف” القديمة، فأبشر بطول تفاوض يا نظام كما يحلو لك دائماً. فالتسوية ليست قيد التداول، ولا تخرج إلا من تحت عباءتك الروسية – الإيرانية. ولن يتمرد عليها حتى عدوك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وربما يغض الطرف عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مساوماته حول هضبة الجولان!
طبعاً، المشكلة ليست في الأمم المتحدة، ولا في أيٍّ من موفديها، ولا في النظام، ولا في المعارضات المحاورة منها، أو المهملة. المشكلة تكمن في أن التسوية السورية ليست الهدف من الحراك الديبلوماسي الدولي، وما يرافقه من استعراض للعضلات العسكرية في البحار الإقليمية، وتعزيز تأثير جهوزية القوة في الإيحاء باستخدامها. حتى التأهب الهجومي والدفاعي داخل الحدود السورية المخترقة، لا يضغط عملياً باتجاه التسوية، لا في إدلب ، ولا في “محمية” أكراد “سورية الديموقراطية” المحظية “موقتاً” بعناية أميركية فائقة، كما أن النظام لا يغرد خارج منظومة تحالفه الروسية – الإيرانية، وإن كانت بوادر الحيرة والقلق والتململ، تظهر أحياناً على مُحيّاه، وهو يحاول العدل بينهما بالمنح والعطاء فوق الأرض، وتحتها، وفي أعماق المياه الاقليمية، غير مبالٍ بوطأة العقوبات الدولية على “شعبه”، بقدر توجّسه من أمزجة حليفيه. فتململ إيران من الحصار، يواكبه قلقها على وجودها المستهدف في سورية، وعلى حصتها من المصادرات، قياساً إلى تغوّل روسيا في قضْمِ المساحات الجغرافية والاقتصادية.
لا أحد عربياً وإقليمياً ودولياً يضيق ذرعاً من تأخّر التسوية أو غيابها، نتيجة عدم الاطمئنان الى مرحلة ما بعدها. فالأجواء الإقليمية مشحونة باحتمالات قد لا تسرّ أيّ طرف من الأطراف المنغمسة فيها. وبالتالي، تستمر اللاتسوية قيد التداول، حتى في المواقع القادرة على فرضها بالقوة الميدانية، أو بالإقناع السياسي البراغماتي.
توحي لغة النظام حالياً بالاطمئنان إلى مآل الامور في إدلب، وفي الملعب الكردي، علماً أن عداواته السياسية، يمكن أن تتغيّر في أيّ لحظة، بعدما عدل معظم أشقائه العرب عن مناصبته العداء الميداني، إنّما بتحفّظ سياسي يؤخّر مدّ الجسور معه، بانتظار نتائج المعركة السياسية المدججة بالسلاح والعقوبات ضد “الفقيه الإيراني”، وهي المعركة الأساسية التي دفع ضريبتها الشعب السوري بكل أطيافه في الحرب المجنونة، وما زال يدفع في مرحلة التهدئة الهشّة.
عادت الأزمة الآن الى قواعدها الإقليمية الناظمة لشيطنة وجودها أساساً، باندفاع تكتل هجومي من المجتمع الدولي على إيران مباشرة، إنّما ليس بالقفز فوق سورية. كيفما اعتُبرَت، كحليفة لإيران وروسيا، أو محمية روسية – إيرانية، أو كدولة استراتيجية في موقعها الجغرافي والسياسي، لابد من استمالتها للإسهام بما لا يُضيرها ولا يَضرّها، وهو الضغط العالي لتحويل إيران من الثورة الى الدولة، وتشذيب عنترياتها (الردعية) بتجاوز خطوط التسلُح الدولية الحمراء. وأيّ من الهدفين لا يُطلب من الفقيه ولا يُستجدى، إنّما يُفرض باندفاع مدفوع ثمنه عسكرياً وسياسياً، وإن لم يتجاوز تأثير قوة التأهب. فاستمرار التصعيد والعقوبات، ربما يُقنع الملائكة، فقهيّاً، بمحاورة “الشيطان الأكبر” لسد الذرائع كأضعف الإيمان، فتتغيّر المعادلات الاقليمية برمتها.
الآن، تضيق دائرة الخناق على النظام الإيراني، لكنه ما زال قادراً على الامتصاص، وعلى المواجهة المحدودة لا الشاملة. وكيفما استقرّ صراع التأهب الميداني – الإقليمي – العالمي، واحتمالات مفاجآت ترامبية (صاعقة)، فإنّ التسوية السياسية الوطنية السورية، لا يُبحَثُ عنها إلاّ في المتاهات الإقليمية الشائكة، التي تستهدف “الفقيهين”: الإيراني أولاً، وبتركيز متفاقم، والتركي ثانياً، ، ثُمّ اُلحق بهما الوضع في “إدلب”، وإقليم الكرد في شمال الفرات وشرقه، فهما ركنان محليان أساسيان في تصنيع التسوية خارجياً، وفي بورصة المساومات مع النظام تحت الطاولة، بتوسط روسي وازنٍ.
إن دمشق، كما طهران، تستفزّ وتزعج عدوَّها، وتبتعد عن كل ما يجعله يقاتل. وأظن أن لا أحد يناصبها العداء كنظام، إلاّ المعارضات التي لم يتبقَ لها ما يسندها في الحوار معها، إلاّ رغبة دولية ضبابية.
المصدر: الحياة