محمود الوهب
العلاقة السورية التركية ليست وليدة اليوم بل تعود في عمقها إلى نحو ما يزيد على خمسة قرون مضت، وإذا كان قد شابها ما شابها خلال سقوط الدولة العثمانية فهذا يعود لظروف تاريخية بعيدة وخارجة عن إرادة الشعبين السوري والتركي، وتطورات مست الأنظمة العالمية كلها، إذ جاءت الحرب العالمية الأولى لتكون حداً فاصلاً بين زمنين متناقضين هما: زمن الدولة القومية الحديثة، وزمن الإمبراطوريات القديمة التي داهمتها التطورات الاقتصادية العالمية باجتياح الرأسمالية الصاعدة العالم القديم برمته.. وإذا كان الأتراك قد تضرروا من انفصال العرب عن بلادهم، فإن العرب تضرروا أيضاً من اقتسام العالم الغربي لبلدانهم، إضافة إلى وعد بلفور الذي أعطى اليهود الصهاينة الحق في وطن قومي لهم في فلسطين وقد تحقق ذلك عندما واتته ظروف مناسبة، بُعيد الحرب العالمية الثانية!
ورغم أنَّ العلاقات ساءت بين العرب والأتراك زمناً بفعل تلك المتغيرات التي لا يد للشعبين التركي والسوري فيها إلا أن أواصر العلاقة ظلت قائمة بينهما لا بفعل رابطة الدين فحسب، بل بحكم الجوار والحدود الممتدة على طول ستمئة كيلومتر، وتمازج السكان على جانبيها، حتى عمق عشرين كيلومتراً تقريباً في كل من الدولتين، تقاسموا فيها خيرات الماء والتراب، فعلاقات الناس أقوى من أن تمزق روابطها الاجتماعية والإنسانية خلافات الساسة والحكام وأهواؤهم.. ويمكن التذكير بأن سورية قد استقبلت، من تركيا وعبرها، إبان الحرب العالمية الأولى وما بعدها، مئات الألوف من المهاجرين، إن لم أقل الملايين، ومن أقوام مختلفة، وقد أخذوا هويات سورية وهم اليوم مواطنون سوريون لهم كل ما يتمتع به المواطن السوري من حقوق، ومن هؤلاء “قدري جميل” الجد الأول لقدري صاحب منصة موسكو في هيئة التفاوض اليوم..! (كتاب الباحث جمال باروت “تشكل الجزيرة السورية”)
ونظرة عن كثب إلى ما كانت عليه العلاقات السورية التركية خلال الاثنتي عشرة سنة التي سبقت الثورة السورية، أي (بعيد اتفاقية أضنة) يجدها الناظر على أحسن صورة من التعاون السياسي والاقتصادي والتنمية الاجتماعية أيضاً، إذ إن آلاف المستثمرين الأتراك أنشؤوا شركات وشراكات، ومثلهم السوريون الذين أخذوا يستثمرون في تركيا، حتى إن الكثير من الترميمات المدنية في سورية، وبخاصة في مدينة حلب التي أعادت تأهيل بعض أسواقها وساحاتها، وقد جاءت على غرار ما هو قائم في غازي عينتاب التركية (ساحة الجامع الكبير ودوَّار القلعة، وأسواق المدينة القديمة، وأخرى سياحية، كالتلل والجديدة..) وقد رفع في المدينتين شعار: “حلب أخت عينتاب”، واستفادت بيروقراطية النظام السوري من هذا الأمر (أعاد “مصطفى ميرو” محافظ مدينة حلب تبليط أرصفة المدينة بنوع من بلاط تركي، وقد أنشأ معملاً خاصاً لهذه الغاية باسم شريك له.. كما عهَّد خلَفَه “أسامة حامد عدي” شوارع المدينة لابنه وشريك له أيضاً كمواقف للسيارات على غرار ما هو حاصل في غازي عينتاب..).
لا أريد الاستفاضة في هذا المجال لكنني أشير إلى أنَّ تركيا قد فتحت حدودها للاجئين السوريين بعد أن فشلت وساطتها لحل المشكلة السورية منذ بدئها بالطرق السلمية، وبتلبية مطالب الشباب السوري المحتج على الكثير من محتوى الحياة السياسية والاجتماعية التي لم يعد يحتملها السوريون.. واستقبلت تركيا نحو ثلاثة ملايين ونصف المليون سوري توزعوا في المدن التركية وقد نالت إسطنبول الحصة الأكبر، فهي العاصمة السياسية الثانية، والأولى اقتصادياً واجتماعياً وسياحياً لما تتمتع به من عراقة تاريخية وآثار عمرانية ودينية..!
ولاشك، وبعيداً عن هذه العلاقات الاجتماعية والإنسانية كلها، فإن فتح الحدود تحكمه قوانين دولية تلزم الدول المجاورة لدولة تهدد سكانَها الكوارث الطبيعية، والحروب وسواهما..! ورغم ذلك لم يكن السوريون النازحون إلى تركيا، بل غالبيتهم الساحقة، عالة على الشعب التركي، فالذين ذهبوا إلى المخيمات لا يتجاوزون 10% من مجمل المهاجرين أما البقية فقد ساهموا في معظم ميادين الاقتصاد التركي عمالاً وحرفيين ومستثمرين. وتجدر الإشارة إلى أنَّ المهجرين العاديين قد نقلوا مدخرات عمرهم إلى تركيا، وبعضهم باع أملاكه، وأتى بثمنها إلى حيث أقام، ولعلَّ أفقر رب أسرة سورية مهاجرة جلب معه خمسة آلاف دولار كحد أدنى.. ولا يعني هذا أن الأتراك قصَّروا في تقديم الخدمات المجانية للسوريين وخصوصاً في مجالي الصحة والتعليم..
أما لجهة الفعل الاقتصادي فقد ساهم السوريون في إنعاش الاقتصاد التركي في مجالات النسيج والمواد الغذائية صناعة وتجارة إذ يتجاوز عدد الشركات السورية في تركيا عشرة آلاف شركة مرخصة موزعة على إسطنبول ومدن الجنوب. (ترك برس) وثمة شركات غير مسجلة وأخرى مشتركة بين السوريين والأتراك، وقد تجاوزت نسبة الاستثمار السوري في الاقتصاد التركي إلى الاستثمار الأجنبي الـ: 12% وتقدر المبالغ المستثمرة بـ 2.5 مليار ليرة تركية. وقد استفاد قطاع البناء التركي كثيراً من وجود السوريين.. صحيح أن الإيجارات مساكن ومحلات تجارية قد ارتفعت، وتضرر المواطن التركي ذو الدخل المحدود جرّاء ذلك لكن في المقابل فإن كثيرا من البيوت المهجورة قد أعيدت إلى الاستثمار واستفاد أصحابها، ومثل ذلك حصل للمحلات التجارية.. وثمة زعم بازدياد نسب البطالة لدى العمالة التركية نتيجة تدني أجر العامل السوري الذي يقل، رغم كفاءته، عن العامل التركي بنسبة تصل إلى 50% وهذه مسألة لها جانبها الإيجابي على الاقتصاد التركي العام، فهي تنشطه. وإن ساهمت نسبياً بزيادة معدَّل البطالة، ولكنها قطعاً ليست السبب الرئيس في المعدل الذي وصلت إليه هذا العام 2019 إذ بلغت 14.7% فما هو مفترض أن يجد الاقتصاد النشط حلولاً لمشكلة البطالة.. وتلزم قوانين العمل التركية المستثمر السوري بتشغيل عدد من العاملين الأتراك.. وثمة أمر لابد من الإشارة إليه هو أنَّ نحو 1700 منظمة مجتمع مدني سورية ممولة أوروبياً تنفق مئات ألوف الدولارات سنوياً داخل تركيا، وتشغل هذه المنظمات موظفين أتراكاً.. ناهيكم بالتفاعل العلمي المثمر بين المثقفين المهنيين السوريين ونظرائهم الأتراك من أطباء ومهندسين وسوى ذلك..!
وفي العام فإن وجود السوريين لم يضعف الاقتصاد التركي بل دعَّمه لا بالتنوع الذي أدخله عليه ولا بالخبرة ورخص اليد العاملة بل بالمساهمة في افتتاح أسواق عربية وإفريقية عديدة أمامه، فقد حوَّل السوريون زبائنهم الدوليين إلى السوق التركية.. ومن جهة أخرى فقد ازدادت الصادرات التركية إلى الداخل السوري ما أزعج الإيرانيين أصدقاء النظام السوري فقد ذكرت صحيفة “فرهيختكان” الإيرانية: “أن تركيا توسعت بشكل كبير في نشاطها الاقتصادي في سورية على مدى العقد الماضي على حساب إيران، إذ انخفضت صادرات إيران غير النفطية إلى سورية من 377 مليون دولار سنوياً إلى 172 مليون دولار. وأوضحت الصحيفة أن تركيا زادت صادراتها إلى سورية بشكل كبير، وأصبحت أكبر مصدر إلى سوريا بصادرات تزيد قيمتها عن 1.3 مليار دولار سنوياً. وفي حين أن حصة إيران في السوق السورية تقدر بـ: 3٪ فقط، فإن حصة تركيا في السوق السورية قد ارتفعت من 9٪ في عام 2010 إلى 24٪ في عام 2017.” (موقع ترك برس).
وأخيراً يمكن القول: إن جل ما يخشاه السوريون أن يكونوا قد وضعوا في مزايدات سياسية لا تليق بهم، أو أن تكون حملة إسطنبول قد جاءت بدوافع فردية أو حزبية ما وخصوصاً أنها ترافقت مع ما يجري للسوريين في لبنان.. كما تزامنت مع تقديم الاتحاد الأوروبي 1.41 مليار يورو في 19 من تموز الجاري ليصبح المبلغ المقدم إلى تركيا 5.6 مليارات يورو من أصل 6 مليارات يورو مخصص من الاتحاد الأوروبي..! جرى ذلك (قبيل إصدار وزير الداخلية التركي إعلانه الصحفي..).
وما يستوجب القول أيضاً:
إن ما يجب النظر إليه هو مستقبل العلاقات السورية التركية، وأن ما حدث في الأسبوع الماضي في مدينة إسطنبول حصراً، وبالأسلوب الذي اتبع فهو مسيء للسوريين، مهما كانت أسبابه ومبرراته، إذ فيه مس بكراماتهم، لا بتجاوزه القوانين الدولية التي تخص اللجوء، بل بعدم نظره إلى مستقبل العلاقات السورية/التركية.. والخوف أيضاً أن يكون ثمة من تقصَّد هذه الإساءة.. وحسناً فعل السيد وزير الداخلية التركي بإعلانه الصحفي الذي وضع الأمور في نصابها الصحيح.. وأعاد الاعتبار لا إلى تلك العلاقة التاريخية الطويلة بل إلى مستقبلها الواعد..
وفي الختام، وبما أنَّ قضية السوريين قد طالت أكثر مما كان متخيل أو معتقد.. فالمطلوب منهم العمل على تنظيم أنفسهم في جاليات ضمن المدن التركية، وعلى نطاق وجودهم في تركيا كلها، ووفق القوانين التركية النافذة، لتكون الناطقة باسمهم لدى الدوائر الرسمية، وخارج إطار تنظيماتهم السياسية التي يبدو أنها منهمكة في أمور أكثر أهمية.
المصدر: تلفزيون سوريا