فتحي رشيد
ثمة ظاهرة إنسانية عامة، تتمثل في أن بعض الناس يعتقدون أنهم منظرين أو فلاسفة أو حكماء. ويذهب بعضهم إلى الاعتقاد بأن الله أرسلهم لإنقاذ البشر الضالة مما هم فيه. أو بأنهم بما امتلكوه من حكمة ومعرفة يمكن لهم تخليص البشرمما هم فيه من ضيم وضلال.
وإذا نظرنا إلى هذه المسألة من الناحية الاجتماعية والأخلاقية فسنجد أنها ظاهرة طبيعية وصحية كون كل فرد من هؤلاء يسعى ـ حسب تصوره ـ لأن يقيم مجتمعا فاضلا. لكنها من جهة أخرى تصبح ظاهرة خطيرة إذا سلًمت كل مجموعة كبيرة من الناس بذلك الأمر ,وراحت تعمل وتسعى لأن تفرض تلك التصورات أو الرؤى المتباينة التي يطرحها هؤلاء الفلاسفة أو الحكماء أو الأنبياء ,للحياة والوجود على غيرهم من البشر (والتي قد تكون قاصرة )فلابد أن يحصل التصادم بينهم .كون تعاليم وتوجيهات هؤلاء الأشخاص تكون غير متطابقة أو متنافرة أو متناقضة ,فتؤدي إلى نشوب صراعات قد تجر إلى الحروب وإلى حدوث ويلات وكوارث .وهو ماشهدناه عبرتاريخنا الطويل ,من صراعات دموية بين المؤمنين بالديانات والمذاهب والفلسفات المختلفة .
وإذا حصرنا الموضوع في بلادنا نجده واضحا في الصراع الذي حصل بين من اتبعوا علياً (كرم الله وجهه ) وبين من اتبعوا معاوية ابن أبي سفيان ـ مع أنهم ينتمون لذات الديانة وكانوا من صحابة رسول الله المبشرين بالجنة ـ .ومن المؤسف أن الموالين لكل منهما قد افترقوا فيما بعد إلى سنة وشيعة,و فتكوا ومازالوا يفتكون ببعضهم حتى اليوم بسبب تباين الولاء والسعي إلى فرضه على الطرف الآخر بالقوة .لذا لابد من معالجة نظرية وفكرية وتاريخية جادة لهذه المسألة فالفهم والوعي لخطورتها قد يساعد في التخفيف من استمرار أثارها السلبية مستقبلا .
التعصب والولاء للأشخاص:
والطريف أن عدداً كبيراً من الفقهاء والفلاسفة منذ ذلك اليوم مازالوا يعملون حتى اليوم على تبرير ولاءهم لعلي أو لمعاوية مع أنهما ليسا أنبياء، ويسعون إلى إقناع أتباعهم وسواهم من البشر، أن كلا منهم يمثل الدين أو السياسة الحق أو المثلى، وبالتالي إلى تعميم رؤيتهم سلما أو بالقوة. مع أن فقهاء الطرفين يعرفون ـ خلال أكثر من أربعين سنة بعد تجلي الرسالة على سيدنا محمد(ص) لم يكن هناك لاسنة ولاشيعة ولا موالاة لأي منهما، حيث كان الكل مسلمين يتبعون ماأنزل على سيدنا محمد(ص) فقط. (وهو أمر مازال سائدا عند أغلب الناس البسطاء وغير العصابيين أو المؤدلجين والذين لا يعنيهم كثيرا ذاك الخلاف). مع معرفة هؤلاء الفقهاء أن الظروف والأسباب الاجتماعية والفكرية لذاك الخلاف اختلفت كليا، إن لم نقل أنه لم يعد لها وجود حاليا.
ومن المؤسف أن نجد بيننا في هذا العصر، عصر العلم والتكنولوجيا، (1) من يصر على أحقية علي أومعاوية بحكم سقط وانتهى ومضى عليه أكثر من 1400سنة، ويسعى لأن يفرضه علينا اليوم.
توقف وعودة وتجدد الصراع:
تذكر كتب التاريخ أن فقهاء الشيعة العرب، بعد صراعات وحروب عديدة من التنافس على السلطة، تبين لهم أن لا جدوى من التمسك بتلك المطالب المتباينة، فقرروا التوقف عن الدعوة لآل البيت لتسلم السلطتين الدينية والمدنية (منذ غيبة الإمام محمد المهدي عام329ه (941 م) والاكتفاء بالسلطة الدينية أو بالإمامة فقط. حيث توقف أتباع سيدنا علي وسيدنا الحسين عن الدعوة لتسلم آل البيت الحكم، حتى يشاء الله ويعيد المهدي من غيبته الكبرى. وإن كانت تلك طريقة منطقية لإيقاف الصراع، لكنها من ناحية أخرى لم تكن إلا وسيلة تهدئ خواطر المظلومين والمستعبدين والمكلومين بما يجعلهم ينتظرون الخلاص الذي لن يأتي، وبالتالي يتقبلون أوضاعهم البائسة بصورة دائمة أو يستسلمون.
وتظهر الوقائع التاريخية أن الصراع المباشر على السلطة المدنية قد توقف ظاهريا، لكنه ظل في الخفاء يتفاعل بأشكال وتسميات مختلفة، تحت يافطة عودة المهدي المنتظر من غيبته وتظهر الوقائع أيضا أن عددا كبيرا من الأشخاص الذين ظهروا عبر التاريخ الحديث ادعوا النبوة أو بأنهم هم المهدي المنتظر. آخرهم ظهر في السودان (محمد المهدي )وقبله شخص آخر في الباكستان(أحمد القادياني ) نشأت على ادعائاتهما حركتين سياسيتين ودينتين كبيرتين مايزال لها اتباع حتى اليوم فيما تعرف بالمهدوية والقاديانية .الدعوة ذاتها ظهرت مجددا عام 1979 في إيران من خلال شخص لايزعم أنه المهدي المنتظر بل ينوب عنه في غيبته طالما أن غيبته قد طالت كثيرا وقد تطول أكثر,وهو مالاطاقة للبشر باحتماله فكان لابد من إبداع فكرة الولي الفقيه الذي ينوب عن المهدي المنتظر .فوجدوا في شخص السيد آية الله العظمى الخميني الصفات التي تنطبق عليه المواصفات المطلوبة للنيابة . ليقود صراعا على السلطتين المدنية والدينية معا. وليتخذ بعد عام 1980 صفة الصراع الدموي على السلطة المدنية في العالم الإسلامي كله أكثر من الصراع على السلطة الدينية .ووهكذا عاد الصراع كما كان منذ حوالي 1400سنة ونيف بل وأشد وأعنف . ليس بين السنة والشيعة العرب فقط، بل بين الفرس والعرب ومن والاهم في عدة بلدان إسلامية. وهنا برزت الخطورة.
ولهذا نجد أنفسنا بعد مرور حوالي أربعين سنة ملزمين بالتوقف لنحلل ونبحث في أسباب ظهور هذا الصراع مجددا، ولماذا اتخذ تلك الطريقة المأساوية كي نعرف كيفية تحرير شعوبنا من هذه الكارثة التي لم تجر على بلداننا وشعوبنا إلا المصائب والخراب. وبما قد يجعلنا نلتفت إلى أوضاعنا الراهنة الأخرى والمعقدة، كما تفعل الشعوب الأخرى. مما يدفعنا للبحث في عدة اتجاهات.
أولا: من يقف وراء الصراعات والحروب ويغذيها؟
من يدققق في اسباب كل الحروب التي جرت عبر التاريخ يجد أنه كان للعوامل الاقتصادية الدور الحاسم. وبأن الصراع الديني أو الأيديولوجي لم يكن أكثر من غطاء أومبرر فكري لإخفاء حقيقة من يقف وراء هذه الصراعات والحروب. وتظهر لنا الوقائع المعاصرة: أن استخدام الدين الإسلامي والمسيحي، ورجالاته وتشجيع الجهاد ودعاته في العالم كله ضد الكفار العلمانيين الوطنيين والقوميين العرب والشيوعين والسوفييت، (خاصة بعد تدخلهم في أفغانستان) وضد أي مكان في العالم ظهرت أو يمكن أن تظهر فيه حركة معادية للرأسمالية والإمبريالية.
وتثبت الوقائع أن الدين لم يكن بالنسبة لمن يهيمنون على الاقتصاد والمال في أمريكا وأوروبا وأدواتهم في بلدان العالم الأخرى , سوى غطاء لتمرير سياستهم ومصالحهم الاقتصادية .بدليل أنهم كما دعموا الأخوان المسلمين سابقا وسكتوا ومازالوا يسكتون منذ أربعين عاما على التدخلات والحروب التي قامت بها كلا من إيران ومليشياتها الشيعية في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين ..إلخ إن لم نقل أنهم كانوا ومازالوا يشجعونها .ومع أنهم في الكلام يعلنون أنهم ضد الإرهاب الاسلامي إلا أنهم على أرض الواقع مازالوا يصرون ويقيمون أفضل العلاقات مع إيران ومع الأخوان المسلمين .وهم على لسان زعيمهم ترامب يقولون علنا وبالفصيح أنهم لايسعون إلى إسقاط أوتغيير النظام (نظام ولاية الفقيه ) في إيران( كما نظامي القهر والاستبداد في سوريا والعراق وغيرها ) بل إلى تعديل سلوكه فقط. في حين أننا نحن كبشر وعرب وإيرانيين ثورين نريد، بل علينا أن نسعى ونعمل على إسقاط النظام الإيراني وكل النظم المماثله له وسواء أكانت قائمة على الاستبداد الديني أم العسكري أوالأمني أو الاقتصادي ومن جذورها.
وأنا شخصيا اعتقد أن المفكر الصهيوني ” صموئيل هنتنجتون ” كان له دور حاسم في تذكية هذا الصراع , حيث اكتشف بصورة مبكرة بعد سقوط المعسكر الإشتراكي أن على أمريكا كقائدة للأمبريالية أن تبحث عن عدو جديد أو أن تختلقه إن لم يوجد ,كي تبقي شعوبها وشعوب العالم تحت السيطرة ,فوجدت في الإسلام عدوا مناسبا ,ومن ثم وجد كلا من كسينجر وولفويتز أن الصراع الديني والمذهبي بين الشعوب المتخلفة يمكن أن يكون بديلا عن الصراع ضد الأمبريالية والصراع بين السنة والشيعة .وهوفوق ذلك لا يمكن أمريكا من السيطرة على هذه البلدان وعلى شعوبها وخيراتها فقط ,بل ويدمرها لمصلحة إسرائيل ومشروع إقامة شرق أوسط جديد تهيمن عليه .من هنا كان لابد من إحياء الصراعات الدينية والمذهبية في هذه المنطقة الغنية بالثروات الباطنية وبشكل خاص الغاز والنفط .ووفي هذا السياق برز الخلاف بين السنة والشيعة ومن ثم تعمق أكثر .لذا أعتقد أننا إن لم نأخذ هذه الرؤية بعين الاعتبار سنضل الطريق .إذ لا يوجد أي مبرر منطقي لهذا الصراع في حين تسرق وتنهب خيراتنا وتحتل إسرائيل أرضنا .
ثانيا: الجذور القومية للصراع:
تشير كثير من الحقائق التاريخية إلى أن الفرس كقومية أو اثنية كانت تؤمن بالزرادشتية (النبي زرادشت) ومن ثم بالمانوية (اتباع النبي ماني) وكانوا يعتقدون، أن هؤلاء هم أنبياء أرسلهم الله لهداية البشر. وبأن تلك الديانات هي ديانات سماوية كالديانة الإسلامية. وبعد انتشار الاسلام تبنى كثير من الفرس الدين الاسلامي ( كما أسلم حينها الكثير من النصارى واليهود والصابئة والمشركين تهربا من الجزية ).في حين فضل قسم منهم أن يبقى متمسكا بديانته القديمة التي يعتقدون أنها سبب تقدمهم وتقدم حضارتهم العظيمة .فاستغل هؤلاء القوميون الفرس (المتعصبين لفارسيتهم ) المظلمة التي وقعت على من اتبعوا علي والحسين (كرم الله وجهيهما )ومن ثم على آل البيت ومن ووالاهم (من قبل الأمويين والعباسيين أولا ومن ثم من قبل المماليك والترك ) .ليزيلوا المظالم التي وقعت عليهم كفرس من قبل العرب (البدو والمتخلفين )فتوسلوا إلى البرامكة في عهد هارون الرشيد ثم وقفوا وراء المأمون .وفشلوا ، لكنهم لم يتوقفوا عن العمل لإزاحة الظلم الذي وقع عليهم ولا عن العمل لاستعادة مكانتهم التاريخية والقومية التي سحقها القوميين العرب بغطاء من الديانة الجديدة التي أنزلت على النبي محمد (نبي العرب ) فكان لابد لهم من أن يعيدوا في السر نشر المذهب الزرادشتي (المشتق من الديانة المجوسية ) الذي أفل عهده ,لكن بغطاء من الدين والمذهب الجديدين . وبما أن غالبيتهم آمنوا بالإسلام (الدين الجديد ) فكان من الصعب على غلاة الفرس أن يعلنوا ولاءهم أو عودتهم لديانتهم القديمة فوجدوا في المظلمة التي وقعت على الحسين في كربلاء ثغرة مناسبة توحد بين المظلمتين وتجمع بين الديانتين ,فتمسكوا بها ودخلوا منها , فوسعوها ,ثم جعلوها ساحة دائمة لتجميع وتحشيد كل من لحق بهم الظلم على يد الحكام العرب ,ثم فتحوا لها أبوابا كثيرة بما يتيح للمظلومين , وسواء أكانوا من الفرس أو العرب أو الأفغان أوالبلوش أو إلخ الدخول منها إلى ساحات اللطلم والبكاء، استغلها بعض المتعصبين لتنمية الأحقاد بانتظار الفرصة السانحة للانتقام من العرب ,أو لإزاحة ذلك الظلم التاريخي الذي وقع عليهم .وهنا كان المتشددين الفرس كلما وجدوا فرصة مناسبة عملوا على نشر وفرض معتقداتهم (من خلال تشغيل الكثير من الفقهاء رجال الدين لإقناع غيرهم من البشر في أحقيتهم باستعادة مجدهم الفارسي الغابر (الضائع )وكان لابد من استخدام تلك المظلمة التي وقعت على آل البيت للإنتقام من العرب بشتى السبل بما فيها التعاون مع المغول والتتر(الذين عانوا مثلهم من العرب ) وحتى مع الصليبيين ,وهكذا راح الحقد يتوسع ويتعمق بين الطرفين مع أنه ظل نائما ، لكنه أوقظ في سياق السياسة الأمبريالية الجديدة وبتشجيعها من خلال السكوت على تدخلات إيران الفظة بما فيها الحروب ,ومن ثم توسع وتعمق من خلال ارتكاب أبشع المجازر بحق العرب في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن بمن فيهم أخوانهم الشيعة العرب ,إن لم يخضعوا للفرس ولدعوى الولاء للولي الفقيه .ومن هنا نشأت الخطورة أو الأخطار الراهنة على وجودنا كعرب ( من النزعة الإنتقامية للفرس ومن والاهم من الاثنيات الأخرى وبخاصة الذين اعتقدوا أن ظلما فادحا وقع عليهم من خلال دين العرب الجديد ).وهنا اتخذت من عملية فرض فكرة الولي الفقيه وسيلة تستخدمها بما تستتبعه وتمليه من مواقف وسياسات تعمل على تركيعنا كعرب وسواء كنا سنة أوشيعة .
ثالثا: الأسباب الفكرية للصراع.
أ: نشأة وتطور فكرة المهدي المنتظر:
ثمة فرق أساسي بين المسلمين وبين غيرهم من أصحاب الديانات المختلفة يكمن في أن المسلمين يعتبرون أنه إذا كان الله قد أرسل في كل أمة رسولا، (الآية 37 من سورة النحل)”وكم أرسلنا من نبي في الأولين”.” ولقد ارسلنا في كل أمة رسولا “فإن ماأنزل في القرآن على النبي محمد (ص) كآخر الأنبيار والرسل يعد كافيا ووافيا وشافيا لايتيح لأي مسلم أو لمن آمن بالإسلام ( سواء اكان مكرها او عن قناعة )أن يعود لما كان عليه من قبل وإلا عد مرتدا وجبت مقاتلته .وهنا وجد فقهاء الشيعة من الفرس الذين دخلوا في الإسلام (في تلك الظروف القاهرة حيث كان للعرب قوة وعصبية ) أنهم لتجنب الذبح (كما حصل مع المرتدين أيام أبو بكر وخالد ابن الوليد ) كان لابد لهم من التخلي عن أحقيتهم في الخلافة (خاصة السيادة المدنية ) والتخلي عن أحقية تولي أي من أئمة آل البيت للحكم ,بانتظار اليوم الذي يقرر فيه الله ارسال المهدي المنتظر ( الأمر ذاته فعله اليهود والمسيحيين من خلال انتظار عودة المسيح من جديد تهربا من مواجهة خاسرة مع الرومان ) واكتفوا بالإمامة الروحية لآل البيت .
وبعد أن ضعفت شوكة العرب بعد دخول الأتراك للوطن العربي (عام 1516 ) انتهز اسماعيل الصفوي تلك الفرصة لنشر المذهب الشيعي ولتعميمه وليتخذ منه غطاء يتخفى خلفه الفرس لاستعادة مجدهم الضائع .فراح يفرض ويوسع ذلك المذهب في كل من إيران والعراق وأذربيجان وارمينيا وأفغانستان والباكستان .لكن بما أن الترك العثمانيين كانوا من القوة بما يحول دون تلك السيطرة الفارسية على الوطن العربي , فلقد ظل غلاة الفرس يتحينون الفرصة ,حتى جاءتهم على طبق من فضة بعد انتهاء الدولة العثمانية وتمزق البلدان العربية وتشتت العرب وضعفهم المطلق بعد إقامة دولة إسرائيل ,فوجدوا في الفكرة التي طرحها السهروردي (طالما أن الله لايمكن أن يترك عباده دون ولي أو رسول ,فإنه لا يجوز أن يخلو زمان من ولي متأله “وكيل لله على الأرض ” تناط به السلطتين الروحية والدنيوية ) وبما أن الشاه رضا بهلوي كان يتمتع ويكتفي بسلطة مدنية على بلاده فقط ويفتقر لمقومات الولاية الروحية .وبما أن الفرس المحيطين به كانوا يطمحون لأن تكون سلطتهم مدنية ودينية , وبأن تمتد لتطال جميع من آمن بالاسلام خاصة في بلاد العرب ,فكان لابد من إزاحة الشاه ,والمجيئ بشخص يمتلك و يدعو إلى السلطتين معا . وكان روح الله الموسوي المصطفوي آية الله الخميني جاهزا. فتم الترويج له باعتباره المنقذ والمحرر والوكيل الحصري والبديل عن المهدي المنتظر الذي طال انتظاره .وهكذا راح يعمل على تهيئة كل الظروف اللازمة لاستعادة مجد الفرس الضائع فبدأ بالدعوة لتغيير النظام العراقي فورا بعد تسلمه السلطة .وقبل أن نسترسل أجد أنه لابد من التمييز من الناحية التاريخية بين دور ووظيفة كلا من .
ب: الولي الفقيه وشيخ الإسلام:
اتفق فقهاء المسلمين على أنهم لمعالجة الأمور الدنيوية المستجدة، خاصة فيما لم يرد ذكره في القرآن الكريم أو في حال اختلاف الفقهاء في التفسير، أو فيما جاء من الصحيح على لسان النبي محمد (ص) على أنه يجب أن يترك لعلماء الفقه ليتوافقوا عليه بفتوى ليست ملزمة للمذاهب الأخرى (عن طريق الإجماع)، بمعنى أنه لا يوجد في الإسلام إلزام ولا كهانة أو لكاهن أو لبابا او لولي يزعم أنه وحده يمتلك الحقيقة، التي لا يجوز لمسلم أن يخالفها. ومع أن فقهاء الشيعة (أمثال شريعة مداري ومهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله) يعرفون أن الحقيقة لايمكن التوصل إليها إلا من خلال الحوار بين عدد من المتبحرين في الدين ودون إكراه من خلال “شورى الفقهاء ” التزاما بما تنص عليه الآية الكريمة (لا إكراه في الدين). وليس من خلال تسليم جميع أمورهم لشخص واحد مهما كانت صفته وميزاته. ونشير هنا إلى أن الإكراه أو تسليم أمور الدين لشخص واحد عند السنة وإن كانت قد ظهرت فإن ذلك حصل في فترات محددة من حكم المماليك والعثمانيين، لتبرير أو تسويغ حكمهم للعرب من خلال شخص أطلقوا عليه مصطلح “شيخ الإسلام ” إلا أن صلاحياته كانت محدودة جدا في إطار البحث عن تسويغ أو تبرير فقهي لما قد يتخذه السلطان من قرارات مستجدة في الأمور الدنيوية بما يجعلها تتوافق مع ماورد في القرآن والسنة أو بما لا يخالفهما صراحة. في حين ان الشيعة الذين آمنوا بالولي الفقيه والذي هو حسب اعتقادهم بمثابة وكيل المهدي المنتظر، فهو بمثابة نبي جديد أو بمثابة الرسول محمد (ص). لابل اعطوا له سلطات أوسع من السلطات التي أعطاها الله للرسول. فالرسول ترك أمور السياسة والحياة الدنيا للناس بقوله لهم “أنتم أدرى بشؤون دنياكم ” وكان يستشير الصحابة في كثير من أمور الدنيا خاصة في الحروب، وترك الخلافة والحكم وأصوله وقوانينة للحوار والنقاش “شورى بين الفقهاء والعلماء “والعقلاءوالحكماء وهو ما التزم به العرب.
لكن الولي الفقيه (وإن تم اختياره من قبل مجلس شورى الدولة أو من قبل مجمع تشخيص مصلحة النظام (الفارسي) إلا أنه بعد أن يتم الاتفاق عليه (كما يحصل مع صعود الدخان الأبيض بعد اختيار البابا “). يصبح بمثابة رسول وحاكم مطلق الصلاحية في الأمور الدنيوية مع أن الدين مرتبط بالحساب والعقاب في الآخرة أساسا وأكثر من الدنيوية.
في حين ظلت الأمور الدنيوية لدى العرب بعد زوال حكم العثمانيين متروكة لأولي الأمر كما كانت بعد وفاة الرسول (قادة الأحزاب أو القبائل). وتبين المقارنة بين السلطة المعطاة للولي الفقيه لدى الشيعة الفرس أنها تتطابق مع السلطة التي كان يعطيها الفرس للكاهن الذي كان يطلق عليه مصطلح ال “كاربان “والذي هو بمثابة الصلة بين الله وبين عباده (الناس) بعد وفاة أو غياب زرادشت (كما بعد غياب المهدي) أوهو الناطق باسم الله، أوبمثابة الفرعون كما كان في الديانة المصرية القديمة. وهو مابات اليوم في إيران أقرب إلى نائب الله على الأرض، أو الوالي الذي يرسله الله لحكم الناس. بما يعني أننا بتنا أمام دكتاتور مطلق الصلاحيات، يغطيه استبداد وقمع ديني أخطر من كل أنواع الاستبداد كما وصف الشيخ الكواكبي “الاستبداد الديني “. وهنا مكمن الخطورة الكبيرة ليس علينا كعرب فقط بل على الفرس وعلى البشرية كلها.
تلك الخطورة التي قضت البشرية آلاف السنين لتتحرر من فكرة أن شخصا واحدا يمتلك أو يحتكر السلطة أو الحقيقة ( مثلا سلطة البابا سقطت في أوروبا بعد الثورة الفرنسية عام 1789 ) .بما يعني أن الفرس عادوا بنا وبالبشرية إلى ما كانوا وكنا عليه قبل 2600عام .حيث لايوجد عاقل في هذا العالم المعاصر ,يمكن أن يصدق أن إنسانا مهما أوتي من العلم والمعرفة ,ولو أحصى بكل علوم الدنيا وهذا أمر مستحيل ـ أن يقرر بالنيابة عنا وعن جميع البشر والعلماء والمفكرين والساسة والاقتصاديين وعلماء الاجتماع ..ما هو الصح و ما هو الخطأ وبأنه هو وحده من يمتلك الحقيقة ,أو بأن الباطل لايمكن أن يأتيه ولا بأي شيئ يقرره .
أخطار أخرى على البشرية كلها:
1: لو افترضنا أن أي أنسان آمن بأن شخصا ما هو بمثابة وكيل لله على الأرض (او المنظر المطلق مثل ماركس أو لينين) فإن هذا يستدعي منه أولا وقبل أي شيئ أن يوقف عقله عن التفكير والعمل. وهذا خطر إن تعمم على جميع المؤمنين بالولي الفقيه أو بماركس أو لينين أو ستالين أو تروتسكي، فإنه يصبح كارثة على البشرية، لكنه هنا يكون أخطر كون ما يقرره وكيل الله العليم والمحيط بكل شيء هو مقدس لا يجوز مناقشته.
2: تعطيل ملكة النقد والمراجعة تلقائيا .3: الخضوع المطلق لما يقرره هذا الشخص دون نقاش أو تفكير. بمعنى التحول إلى آلة طيعة.
4: العمل على تنفيذ أوامره حرفيا حتى لو خالفت جميع القيم والأعراف والمبادئ الإنسانية، بما فيها مبادئ الدين الإسلامي، مثل قتل النفس (التي حرمها الله) لذنب لم ترتكبه ومنع الحليب عن الأطفال كما حصل في كثير من مناطق سورية التي حاصرتها المليشيات التي تأتمر بأوامر الولي الفقيه، وتجويع النساء والشيوخ في سوريا والتنكيل بهم وسرقة ونهب أموال فقراء العراق حتى لو كانوا من أخوته شيعة البصرة والناصرية وبغداد.
5: ظهور، ومن ثم تقوية الاستعداد لدى كل من يؤمن بما يصدره الولي الفقيه لإرتكاب أبشع الموبقات و الجرائم التي قد لاتخطر على بال أحد دون أي شعور بالإثم او الذنب طالما أن لها تغطية إلهية أو لأنه يعتقد أن الولي الفقيه يغطيه ويحميه من العقاب 6: وهذا مايولد لدى كل مؤمن بولاية الفقيه الحق بالتمرد على أية سطة مدنية ,باعتبارأنه يتبع لسطة إلهية ,وينفذ ماتقرره سلطة مقدسة فوق سلطة جميع البشر .7: رفض الخضوع لأي عقاب أو محاسبة حتى لو أخطأ أو انحرف ,لأنه يعتقد أن الولي الفقيه يبرر له ذلك من منطلق أنه هكذا فهم آلية تنفيذ ماطلبه منه الولي الفقيه ,حتى لو كانت طريقة تنفيذها بشعة وقذرة .8: أما الخطورة الكبرى فتتمثل في استعداد ذلك الشخص للموت والتضحية بذاته وبكل مايملك من أجل تنفيذ أوامر ولي الله على الأرض. وهذا ما يؤدي إلى موت مئات الآلاف من الإيرانيين الفقراء (كما جرى في معارك الفاو عام 1985) وقتل أمثالهم من العراقيين.9: ظهور عدد من التوجهات والقيادات المتباينة وظهور صراعات بينهم، كون كل واحد منهم يزعم أنه يفهم ويفسر وينفذ أوامر الولي بالطريقة الفضلى. (ابو الفضل، وزينبيون، وفاطميون، وحزب اللا تيون.. إلخ) .10: تهرب هؤلاء الأفراد والقيادات من المحاسبة وتحررهم من أي سلطة مدنية ومن سلطة أي دولة وبالتالي إعاقة أي استعداد للتقدم والبناء الصحيح أو للإصلاح لاحقا.
وربما لسبب من هذه الأسباب أو بسببها كلها وجد كثير من فقهاء شيعة إيران مثل الشيرازي (الداعي لشورى الفقهاء وليس فقيه واحد) وآية الله منتظري وشريعتمداري، إلخ أن معارضة مثل هذا النهج واجبة عليهم. وبناء على ماقاله السيد أبو الحسن بني الصدر أول رئيس للجمهورية الإسلامية في إيران. كي يوقفوا عمل تلك المسيرة او المدحلة الدموية الرهيبة، لذلك جرى إما استبعادهم أو تخوينهم أو تم قتلهم.
كثير منا لا يعارضون ولا يقفون ضد حق المجوس أو الزرادشتيين أو الشيعة أو اليهود أو أتباع أي مذهب أو مشيخة أو طريقة سنية أو شيعية أو بوذية أو فلسفة. أو إلخ. بأن يؤمنوا بوجود مثل هكذا أشخاص مقدسون أو أن يعطوا لقراراتهم صفة القداسة، في الأمور الدينية والأخروية والعبادات وطرقها ووإلخ، وأن يتبعونهم وأن يقدسونهم. أما فيما يتعلق بالأمور الدنيوية الشائكة والمعقدة، خاصة تلك التي تمس حياة غيرهم من البشر المحيطين بهم أو البعيدين عنهم. فأعتقد أن هذه مسألة بات من المستحيل حتى على المئات من ذوي الاختصاص في كل شأن من شؤون الحياة أن يبتوا فيها بصورة نهائية ومطلقة. حتى لو بتوا بشأن ما، ثم تبين أنهم أخطأوا فإنهم يغيرون مواقفهم وقراراتهم. بينما لا ينطبق هذا الأمر على قرارات الولي الفقيه الذي هو بمثابة روح الله بالنسبة لمن يؤمنون به، وكون الباطل لايأتيه مطلقا مهما قرر أو فعل. فإذا ما أصدر أو اتخذ قرارا فلايجوز مناقشته أو مراجعته لأنه لا يخطأ. بل يجب الالتزام به والعمل على تنفيذه حتى لوتطلب الأمر التضحية بالمال والعيال والنفس. وقتل وإبادة نصف البشر , وهذا ماحصل عندما رفض الإمام الخميني المبادرة التي تقدم بها صدام حسين لإيقاف الحرب العراقية الإيرانية عام 1982 , بل أصر على الاستمرار بالقتال لست سنوات .مما أدى إلى مقتل أكثر من مليون إيراني ونصف مليون عراقي ,إضافة لما لحق بالبلدين من دمار وخراب صب في النهاية لمصلحة إسرائيل وأمريكا . ومع أن ذلك كان خطأً فادحًا أُرغم عليه، (تجرعه كما تجرع السم كما قال) إلا أن اتباعه لم ينتقدوه ولم يخطئوه بل استمروا بتقديسه وتبجيله. لأنهم يعرفون أنهم إذا خطؤوه أفقدوه صفته كولي لله وأنزلوه منزلة البشر العاديين (الخطائين) مما قد يهدد بانهيار كل بنائهم الفكري. من هنا تنشأ خطورة أخرى مرعبة تتمثل في السكوت على أو تبرير أو تقديس أتباعه للخطأ بالرغم من ثبوته، والاصرار على الاستمرارية. مايشير إلى خطورة أخرى أبعد غورًا. تتمثل في خطورة تأصل حالة العماء الفكري والروحي وعماء البصر والبصيرة التي تجر إلى التعصب الأعمى ، والتي للأسف لحقت بجميع المؤمنين به وبمن سلم به حتى امتدت إلى من يزعمون أنهم عَلمانيون ,وطنيون أو قوميون عرب أو تقدميين أو يساريين أو شيوعيين في سوريا والعراق واليمن ولبنان ومصر..إلخ خاصة بعد أن لم يظهر في الوطن العربي مفكرا أو قائدا يجمع الناس حوله .فسلموا للخميني ولخامنئي بأرجحية العقل وصحة المواقف والقرارات .ومن ثم راحوا يعملون على تبرير سيرهم وراءه أو اتباعه او التبرير له .ومن المستغرب أن نجد بيننا الكثير من أمثال هؤلاء مع أنهم غير مقتنعين بفكرة وجود ولي فقيه أو أي شخص يمتلك وحده الحقيقة المطلقة ,إلا أنهم مع ذلك يدافعون عن سياسة إيران وحتى عن تبعية سياسة أحزابهم ,وقادتها وعن تبعية ساسة بلدانهم له ولإيران ,بحجة المقاومة والممانعة . مع أنهم يعرفون أن كثيرا من كبار زعماء وكبار فقهاء الشيعة في العراق ولبنان أمثال السادة الأفاضل ,السيستاني والحكيم والصدرومحمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله ومحمد العاملي وصبحي الطفيلي ( مؤسس حزب الله اللبناني ) والمقاومين والثوريين فعلا ,كانوا قد وقفوا ضد هذه الولاية وضد السير وراء السياسة الإيرانية ,لإدراكهم المبكر لخطورة هذه الرؤية وماينجم عنها من سياسة مدمرة لبلدانهم وشعوبهم ,كما للشيعة أينما كانوا .وهذا مايبرر لنا البحث عن تفسير: ماذا وعمن يقف وراء هذه الفكرة وماينجم عنها من سياسات ثبت أنها مدمرة لكل من إيران والبلدان العربية معا . وتصب في المحصلة والنهاية في مصلحة الغرب وأمريكا والكيان الصهيوني الغاصب.
ونحن إذ نركز على رفض ودحض فكرة ولاية الفقيه، فليس لكونها كفكرة لا تدخل في عقل فقط، بل لكونها أيضًا من الناحية العملية تبرر وتحض على الفتنة بين الناس وتشجع على الحروب الدينية. وتبرر ارتكاب الجرائم والمجازر والكوارث التي حدثت وتحدث على أرض العرب بسببها.
وهذا ما قد يجعلنا نتصور أننا إذا دحضناها نظريا وأسقطناها عمليًا نستطيع بعدها أن نوقف أونقلل من الجرائم التي حدثت وقد تحصل لاحقًا.
____________________________________
- العصر الذي تتشارك فيه عدة نخب من عدة أحزاب، يتألف كل منها من شخصيات متخصصة بعلم أو اختصاص محدد، يتشاورون في تقرير مايروه مناسبا لشعوبهم وبلدانهم، وإن ثبت خطأه بعد عدة سنوات، غيروه وغيروا تلك السياسة بطريقة فيها الكثير من الشفافية ولانقول الديمقراطية.