حسن النيفي
لعله ليس من قبيل الصدفة، أن ترتفع نبرة الحديث عن تشكيل اللجنة الدستورية في أعقاب كل عدوان يقوم به النظام وحلفاؤه على السوريين، إذ غالباً ما يعمد الروس إلى إثارة الحديث عن ضرورة استكمال الجهود لتشكيل اللجنة التي ستقوم بكتابة الدستور، وهم يريدون من ذلك أمرين اثنين، الأول يتمثل بالاستثمار السياسي لأي مُنجز عسكري على الأرض، وإيجاد واقع جديد يتم من خلاله انتزاع أوراق القوّة من الخصم، الواحدة تلو الأخرى، والثاني هو إيهام المجتمع الدولي بأن عدوانهم على السوريين إنما يقع في سياق السعي لتطبيق القرارات الأممية، أو لتطبيق التفاهمات الدولية بين الأطراف المعنية، كاتفاق سوتشي بين موسكو وأنقرة في إيلول 2018 .
بعيداً عن الجدل المثار حول (ضرورة أو عدم ضرورة) تشكيل لجنة دستورية، فإن جوهر المشكلة – فيما أعتقد – إنما يكمن بكيفية فهم كل طرف لمسألة اللجنة الدستورية، وكذلك بالمراد من وراء التركيز على موضوع كتابة الدستور، وبالتالي كيف استثمرت روسيا هذه المسألة في عملية الالتفاف والتنصّل من مجمل القرارات الأممية.
في اللقاء الرابع من مفاوضات جنيف بتاريخ 23 شباط 2017، طرح المبعوث الدولي السابق (ستيفان دي مستورا) فكرة السلال الأربع، المتمثلة بـ(هيئة حكم انتقالي – الدستور – الانتخابات – والسلة الرابعة “الإرهاب” بناء على رغبة حكومة الأسد)، وقد حظي هذا الطرح على موافقة هيئة التفاوض، باعتباره يجسّد جدولةً لعملية التفاوض، وكذلك باعتباره يجسد – أيضاً – مسعًى جدياً للوسيط الدولي من أجل إيجاد حالة من كسر الجمود، أو إحداث خرق ما في مسار التفاوض، وقد بررت هيئة التفاوض قبولها بهذه الجدولة – آنذاك – بأنه كان مشروطاً بتزامن العمل على كافة السلال، وليس على مسألة الدستور فحسب، إلّا أن سياق الأحداث أظهر فيما بعد، أن القبول بالجدولة التي اقترحها ديمستورا، لم يكن سوى بداية انحدارٍ لم يعد بمقدور هيئة التفاوض التحكم بإيقافه، وذلك بموازاة نجاح بوتين بإيجاد مسار – أستانا – في مطلع عام 2017، وعلى الرغم من المزاعم التي ادّعت – آنذاك – أن مفاوضات أستانا ستكون مقصورة على الشأن الميداني والإنساني، ولن تطال جوهر مفاوضات جنيف، إلّا أن جميع الإرهاصات السياسية لمخرجات أستانا الحالية، كانت واضحة المعالم منذ حينها، ولعلّ مكمن الخطورة الذي لم تكترث له هيئة التفاوض، ومعظم وفود المعارضة، هو أن ما حصده بوتين في أستانا، يتم استثماره في جنيف، ولعل أبرز معالم هذا الحصاد، مناطق خفض التصعيد الأربع التي أفرزها اللقاء الرابع لأستانا في أيار 2017، والتي انتهت ثلاثة منها إلى سيطرة نظام الأسد، فيما يتم الإجهاز على الرابعة ( إدلب)، وما ينبغي عدم نسيانه أن عدد السوريين الذين قتلتهم قوات النظام وحلفائه في مناطق خفض التصعيد (2600)، وذلك وفقاً للتقارير التي أصدرتها منظمات إنسانية عديدة، فضلاً عن أضعافهم من الذين تم تهجيرهم من بلداتهم ومدنهم.
التعاطي الروسي مع القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية، يتجدّد دوماً، بتجدّد المعطيات الميدانية على الأرض، والتي لم تكن لصالح السوريين، ولئن لم تكن لدى قوى المعارضة السورية القدرة العسكرية الكافية لخلق موازين قوى متكافئة، إلّا أنه كان بإمكانهم تعطيل الاستثمار الروسي لنتائج عدوانه وإجرامه، وذلك من خلال عدم انجرارهم وراء مجرّد وعود (معظمها شفهية) من هذا الوسيط الدولي، أو ذاك القاتل الروسي، أو هذه الجهة الراعية، وكذلك من خلال عدم امتثالهم للإرادات الإقليمية والدولية بالعمل وفقاً لأولوياتها، موازاةً مع تغييب المصلحة الوطنية.
فكرة السلال الأربع التي واكبها حديث عن مزامنة العمل عليها مجتمعةً، تحت شعار رددته هيئة التفاوض كثيراً (لا اتفاق على شيء، دون الاتفاق على كل شيء)، قد تم اختزالها في سلة واحدة، هي سلة الدستور، منذ لقاء سوتشي في 30 كانون الثاني 2018، ومنذ ذلك الحين، أخذت وفود المعارضة السورية بالتعاطي مع هذه المسألة عبرَ أقنومين اثنين:
الأول: مسار جنيف، وتقوده هيئة التفاوض التي تتخذ من الرياض مقرّاً لها، وهي تؤكد باستمرار تمسكها بالقرارات الدولية كأساس لأي حل سياسي، مبرّرةً قبولها بأولوية العمل على سلة الدستور قبل عملية الانتقال السياسي (إنشاء هيئة حكم انتقالي)، بالقول: إن فترة الحكم الانتقالي بحاجة إلى دستور ناظم للمرحلة الانتقالية، وهذا تبرير يفندّه القانونيون بالقول: إن المرحلة الانتقالية لا تحتاج إلى دستور (بالضرورة)، بل تحتاج إلى (إعلان دستوري) كناظم للعملية الانتقالية، أما الدستور فيأتي في مرحلة لاحقة، تصوغه لجنة وطنية مكلّفة، ويصوّت عليه المواطنون. وحين السؤال: من الجهة الضامنة لتحقيق هيئة حكم انتقالي؟ يجيب المفاوضون السوريون: الدستور الذي ستتم كتابته واعتماده، ويعود السؤال القديم الجديد: هل من عاقل يعتقد أن نظام الأسد سيحترم أي دستور، بما في ذلك الدستور الذي يحاول التمسّك به في الوقت الراهن، وأعني دستور عام 2012؟.
الثاني: مسار أستانا، ويمثله مزيج من شخصيات معارضة – من قادة فصائل عسكرية وشخصيات سياسية – وتشرف على سيرورته الدول الراعية الثلاث (روسيا وتركيا وإيران)، يتجاوز أصحاب هذا المسار الحديث عن عملية الانتقال السياسي، باعتبارها أضحت صعبة المنال في ضوء الممكنات الراهنة، ويدعون إلى انتهاج (سياسة واقعية) تتمثّل بتشكيل لجنة دستورية تقوم بصياغة دستور للبلاد، تعقبها عملية الدخول في انتخابات رئاسية، والشرط الضامن لنجاح عملية الانتخابات هي (البيئة الآمنة) وفقاً لأصحاب هذا المسار، والتي لن تتحقق إلا بتفكيك المنظومة الأمنية لنظام الأسد، وإعادة هيكلة الجيش، وإزالة جميع أشكال القمع والإرهاب، والقضاء على سطوة الميليشيات ذات الجنسيات المختلفة التي تقاتل إلى جانب النظام على الأرض السورية، بل طردها جميعها من سورية، وكذلك تستدعي هذه العملية توفير المراقبة الدولية لعملية الانتخابات داخل سورية وخارجها، ولعلّ المراهنة على قبول النظام بالامتثال أو الاستجابة لمتطلبات هذه البيئة الآمنة (المُفترضة)، يشبه الرهان على قبول بشار الأسد بالاعتذار من الشعب السوري في مرحلة لاحقة، عن إجرامه.
ثمة إجابة مشتركة لدى مفاوضي جنيف وأستانا معاً، وهي تكرارهم القول: إننا – مهما تشعّب مسار التفاوض – لن نوقّع على أيّ تفاهم يجافي القرارات الأممية، وواقع الحال يشير إلى أن نظام الأسد ومن خلفه الروس وإيران، لم ولن ينتظروا أي توقيع من أحد، لقد أخذوا ما يريدون أخذه، وكان يكفيهم أن تكون المعارضة السورية شاهدة محايدة على اجتياح الغوطة ودرعا وحمص، ومن ثم الإجهاز على إدلب وريف حماة الشمالي، تحت بند (خفض التصعيد)، كما كان يكفيهم استدراج المعارضة بالإقرار بمسار أستانا كـ(مطبخ روسي لصنع القرار)، وليتحوّل مسار جنيف إلى مجرّد مسرح لعرض ما تم إنضاجه في أستانا، فضلاً عن نجاح بوتين في دمج جميع المنصات (موسكو – القاهرة – الرياض) على الرغم من تباين توجهاتها، ثم كان يكفيهم أخيراً، أن تستهدف طائراتهم أرواح آلاف السوريين دون أن يلوّح مفاوضو المعارضة (مجرّد تلويح فقط) بتعليق المفاوضات، ولو لمرة واحدة.
حين يتمكن الروس من حيازة الأرض، والتحكّم في هندسة مسارات التفاوض، فإنهم بذلك، يمهّدون الطريق لتجسيد ما يريده الأسد من وراء العملية التفاوضية، وهي المسألة التي لا يعترف بسواها، وأعني مسار (المصالحات والتسويات المحلية) وفقاً لما صرّح به رأس النظام أكثر من مرة.
ما هو جدير بالتوقف – ولو باختصار شديد – هو أن الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وكما هو مفترض أن يكون، هو الجهة السياسية السيادية في اتخاذ أي قرار يمس مصير السوريين، وكما هو مفترض أيضاً، أن تكون الجهات المفاوضة (هيئة التفاوض – جماعة أستانا) هي هيئات تنفيذية وليست سيادية، ولكن ما هو حاصل بالفعل، أن الائتلاف ممثّل في هيئة التفاوض ببعض أعضائه، ولكنّ قسماً من أعضائه أيضاً يشاركون في وفود أستانا، على الرغم من تضارب المسارين في كثير من الأحيان، فلماذا لم يتخذ الائتلاف موقفاً حازماً من تعدد المسارات التفاوضية، باعتبارها أمراً يشتت موقف السوريين ويُضعف قدراتهم، ألا تستحق تضحيات السوريين موقفاً سياسياً موحداً داخل كيان واحد يدّعي قيادته للثورة؟ لا أعتقد أن السوريين بحاجة عن جواب لهكذا سؤال، ليقينهم بأن الإجابة تختزل القسم الأعظم من المشكلة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا