موفق نيربية
ذكر سليم سازاك، في مقالة في «فورين بوليسي» في 27 أغسطس الماضي، أن هنالك 4 ملايين لاجئ سوري مسجلين في تركيا، ومليوناً غيرهم من غير المسجلين، وأن كلفتهم الإجمالية حوالي 35 مليار دولار، كان مصدر معظمها محلياً.
هذا الأمر جعل تركيا بين صخرة وجدار، حسب تعبير باحث شاب في «مؤسسة القرن» ذات الميول الليبرالية في أمريكا، ما دفعها نحو نقطة الانهيار التي ابتدأت شروخها بالظهور، لأنها بالطبع لا تستطيع فتح باب المواطنة على مصراعيه، والشعب لن يقبل ذلك، وسيكون فرضه من الأعلى عملية «كاميكاز» لمن يحاول القيام بها.
ولم يتوقف المهتمون بالقضية السورية طويلاً للأسف أمام نتائج استطلاع الرأي، الذي قامت به جامعة بيلجي اسطنبول في العام الماضي، حين وجدت أن حوالي 85% من الأتراك يؤيدون ترحيل اللاجئين، حتى بين جمهور «حزب الشعوب» المعروف بمواقفه الخاصة في المسائل الإنسانية، ولأسباب متناقضة، وبشكل مفاجئ بين جمهور «حزب العدالة والتنمية»، وبنسبة كبيرة وصادمة نسبياً.
جاءت نتائج انتخابات بلديتي اسطنبول وأنقرة لتزيد الطين بلةً، وتدفع المسؤولين الأتراك لبعض الفوضى باتجاه مزايدات الموقف السلبي من اللاجئين السوريين، الذي تجاوز أيضاً بعض ثوابت ما تفرضه القوانين الدولية، خصوصاً المادة 31 من معاهدة اللاجئين، حين قامت السلطات، وربما بشكل مقصود إعلامياً، بإبعاد لاجئين سوريين مخالفين، وغير مخالفين أحياناً، الأمر الذي شكّل صدمة غير محسوبة للسوريين. وتمّ بعد ذلك تخفيف الأمر بتأجيل تنفيذ الإجراءات بشكل أوسع لمرتين، بدون تقديم أيّ حلٍّ جذري وإيجابي واضح، خصوصاً لأولئك الذين أُبعدوا بالفعل إلى داخل الحدود السورية، الأمر الذي لا يحمل تأثيراً مأساوياً على حياتهم وحياة عائلاتهم وحسب، بل يهدد تلك الحياة بالخطر مع الفوضى القائمة داخل المناطق المعنية التي يتم الترحيل إليها.
ينبغي ألا يعني ذلك عدم تفهم الأزمة، التي تجد الحكومة التركية نفسها فيها، تلك التي تؤكد أن هنالك موجة قوية من العداء الدارج عالمياً للاجئين. لأنه لا بدّ من الالتفاف حولها ببراعة وقدرة على الإقناع، قبل أن تجد «سالفيني» تركياً يقودها؛ كما قال البعض؛ ويقود تركيا إلى فضاء مجهول. من جهة أخرى، نلحظ حالة عدم ثباتٍ استطالت قليلاً في السياسة الخارجية التركية، بعد أن انتهت سياسة «صفر مشاكل» مع رحيل داود أوغلو كما يبدو، أو مع اندلاع الثورة السورية، وما حدث من تفاعلات خاصة بها، ولم يبق من تلك السياسة الصفرية إلا طبيعة العلاقة الناشئة مع روسيا الاتحادية، وبشكل أقل مع قطر، وأقل مع إيران. ابتدأ التقارب مع روسيا عام 2004، وفاق حجم التبادل التجاري معها ذاك الذي مع ألمانيا عام 2008 كما كان متوقعاً وصوله إلى 100 مليار دولار عام 2015. ومرّت مشاريع نقل الغاز من روسيا والقوقاز إلى أوروبا بعدة مراحل وتقلبات، لم تستقرّ تماماً حتى الآن. الأمر الذي يعكس أيضاً بعض القلق وعدم الثبات عميقاً، بما يكفي لتأمين تلك العلاقة، مع استمرار تعارض بعض عناصرها- مثلاً- مع انتماء تركيا لحلف الناتو، خصوصاً في حقل العلاقات ذات الطابع العسكري، سلاحاً واستراتيجية وعلاقة روسيا العضوية مع النظام السوري، وربما أيضاً مع إيران.
جاء مشروع «مؤتمر أستانة» ومساره تطبيقاً لرغبة لدى الطرفين في تنمية تلك العلاقة، ولوضع القضية السورية في قبضة مشتركة بينهما، تمنح بعض التحصين لكلٍ منهما في تعارضه مع السياسات الغربية، والأمريكية خصوصاً، مع أن ذلك المسار بدا للعالم وكأنه قد تخلّق في مواجهة المسار الدولي الرسمي، أو الشرعي الذي يتمثّل في مسار جنيف. وكذلك كان لتلك العلاقة مكان مهم في تراجع الاهتمام بالقضية السورية، أو تراجع دور الانتقال السياسي والتغيير السياسي في كتلة الاهتمام والمتابعة الإقليمية والدولية للقضية السورية. وكأنما كانت حادثة إسقاط الطائرة الروسية بعد التدخل الروسي الواسع في سوريا بأقل من شهرين، ليكون نقطة فارقة على مسار السياسة التركية في المسألة السورية، استغرق فيها رَصف طريق أستانة أكثر من عامٍ كامل، وربما سيجري التوقف أمام ذلك ودلالاته في المستقبل كثيراً.
حدث تغيّر في طبيعة سياسة تركيا السورية، داخل هذه القضية والموقف الرسمي المبدئي منها. وبالنسبة لي، كان ذلك متنافراً مع ما في ذاكرتي من منظر لمجموعة سفراء الدول الداعمة للثورة السورية، وكنت ما أزال في سوريا في عاميها الأولين، ونجمهم كان عمر أونهون، السفير التركي المتميز في دمشق آنذاك، نجمهم بالاهتمام العضوي والمتابعة والموقف الحاسم، على عكس ما كان يظهر حتى من السفير الأمريكي فورد، وأقرب ما يكون إلى متابعة شفالييه السفير الفرنسي الدائب الحركة والعالي المردود نسبياً.
دعمت تركيا الدولة، بقيادة حكومة حزب العدالة والتنمية، قضية السوريين منذ البداية. وكذلك كانت أفضل من استضاف اللاجئين السوريين في المنطقة، وبفارق ملموس. ولكن ذلك في سياسات الدول، ليس مجرد التزامٍ أخلاقيٍ وحسب، مفترقٍ عن المصلحة القومية، بل هو خاضع لهذه أولاً وأخيراً، وليس هذا عيباً. فلابدّ أن تركيا نظرت إلى الثورة كمدخل لقيام حكومة صديقة في دمشق، صديقة بشكل حاسم ولا تتعرض للهواء الفاسد بين الحين والآخر، كما كانت العلاقة مع حكومة الأسد. ولا بدّ أن مصلحة الأتراك القومية تفترض أمن حدود بلادهم من أي سيطرة لحزب العمال الكردستاني، العدو الملموس الأول على الأرض للحكومة، أو الحكومات التركية المتعاقبة. وحين يحدث أي تناقض بين هاتين المصلحتين، سيكون الحسم بينهما للثانية بالتأكيد.
في مسار الثورة اللاحق، راهنت السياسة التركية على أولوية العمل المسلح، ودعمت تنظيمه وتسليحه وتذخيره، الأمر الذي ساعد على ازدهاره وتقدمه إلى الواجهة. ولكنها مع قوى إقليمية أخرى، رأت البؤرة الأهم في الرايات الإسلامية أولاً، ثمّ في الرايات الأكثر قتامة وشراسة في الرأي والقتال، في سباق الفاعلية والنفوذ. وكان هذا مساراً خاطئاً، غرقت فيه أيضاً وبالأساس المعارضة السورية، بعضها أو معظمها. وعلى الطريق ذاته، تزايد إغراء الهيمنة على المعارضة السياسية، بوجود المجلس الوطني ثم الائتلاف في اسطنبول. وكان هذا الأمر واحداً من أسباب تراجُع قوة وتأثير تلك القوى شكلاً ومضموناً، عدداً وعدة. أصبح الاسم الكبير «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في سوريا» مجرد خيالٍ لا ينفع حتى لإبعاد الطيور المتطفلة عن البذار في الأرض. تحققت تلك الهيمنة من خلال الجزء الإسلامي في تلك المعارضة خصوصاً، الذي كان الإخوان المسلمون واجهته وشيوخه، وكان لهذا الأمر أيضاً عقابيله السلبية في تشويه صورة الثورة والمعارضة، المرتبطتين بالمدنية والحرية والديمقراطية، ليضعف ترشيحها كبديل للنظام الاستبدادي، ويتراجع دعم القضية السورية إقليمياً، وتتشوه ملامحها دولياً.
ليس من سوريٍ لم يشعر بالامتنان للحكومة والدولة والشعب في تركيا، ولكن اتساع ظلال الطائرة الروسية لتشمل المساحة السورية كلها، وما سبق ذكره من تغيّرات، وآخرها عفرين والسلوك العملي فيها؛ مع ما يجري من مراجعات لقضيتنا وقوانا؛ يقتضي مواجهة الحقائق وكشف عيوبها بصراحة ووضوح، وربما بالتداخل بين المراجعتين: الذاتية والموضوعية، الداخلية والخارجية. والحديث ذو شجون تستطيل، وله بقية!
المصدر: القدس العربي