سوسن جميل حسن
قد يكون قريبًا من الحقيقة القول إن السوريين لم يعودوا يعرفون ماذا يريدون، وإن تطلعاتهم بغد أرحم وأكثر رأفة وإنسانية وحياة تليق بمواطنين يعيشون في دولة حديثة يحمي دستورها الحقوق ويضمن بناء الدولة، صارت، على الأقل في هذه المرحلة بعد سنوات الجحيم، حلمًا من الماضي، أو إنها غادرت من جديد إلى ظلام نفوسهم كرغبات حارقة جرّت الويلات عليهم، على الرغم من شرعيتها وقدسيتها لدى الشعوب الكريمة. لذلك، فإن طرح الدستور باعتباره حاجة ملحة وأولوية بالنسبة لحل الأزمة السورية، وما انبثق عنه من تشكيل لجنة برعاية الأمم المتحدة، وافق عليها طرفا النزاع، لاقته نسبة كبيرة من الشعب بالقبول واللهفة، آملين أن يغلق بوابات الجحيم ويطفئ نار جهنم التي التهمت ماضيه وحاضره ومستقبله، وخصوصا لأن هذا الطرح نجم عن توافق واتفاق بين أطراف أساسية، استلمت تقرير مصير سورية، أطراف تفاهمات أستانة، وراحت تقرّر مستقبل السوريين بدلاً منهم، مثلما لو أنهم، السوريين، فاقدو الأهلية الحقوقية، والوصاية أكثر ما يحتاجون إليه، كالأبناء القصّر.
تعب السوريون، فلا يحق لأحد أن يلومهم، كما لا يحق لأحدٍ أن ينهال على الآخر فيقصيه ويجرّده من سوريته، إذا كان موقفه من قضية الدستور لا يعجبه، أو لا يوافق موقفه. فهل في الإمكان أفضل مما كان بعد سنوات تسع من الدمار والقتل والتشريد والتجويع والإفقار؟ أم إن المقامرة بمن بقي من الشعب وبحياته وأمنه ومستقبل أطفاله أمر مقبول وشرعي، إذا ما قيست الأمور بمقياس الحياة التي هي حق لا منة لأحد على أحدٍ به، وهي عزيزة فوق التصوّر بالنسبة للشعوب التي تنعم بالعيش في دول متحضرة مستقرّة قوية؟
باسترجاع السنوات الثماني الماضية وتقويمها، بطريقة نقدية موضوعية من دون تعصب أو مقاربة إيديولوجية أو منحازة لسياسة ما أو طرف ما، يتبدّى أن السمة الدامغة لها كانت العنف بكل أشكاله، العنف بوسائل القتل المنوعة، العنف بالتعذيب، العنف بالحصار والتجويع، العنف اللفظي، إلى ما هنالك من طرقٍ لا يجدي عدّها، وكل هذا العنف كان مقرونًا برفض الحوار، بل وانعدام الاعتراف بضرورته، والأكثر ألمًا انعدام مقوماته وحيازتها بحدها الأدنى، على الرغم من تبجح كل الأطراف بأنهم جاهزون للحوار “لكن الطرف الآخر يعرقله”، فالحوار حتى ينهض ويسود الموقف يجب أن تكون لدى كل طرف النية بقبول الطرف الآخر والإقرار بأن لديه الحق في أن يمتلك رأيًا وموقفًا تجاه القضية المطروحة للحوار، حق يساوي حقه تمامًا، وأن الحوار يفرض عليه أن يأخذ رأيه بجدّية واهتمام، وأن يحترمه ويصغي إليه. كذلك يتطلب الحوار أن يتوفر حد ما من الثقة بين المتحاورين، الثقة التي تمنح كل طرف الشجاعة بأن يطرح رأيه من دون خشيةٍ أو خوف، معتبرًا أن كلامه مهم للطرف الآخر، وأن الآخر يصغي إليه باهتمام.
لكن، وهذه حقيقة مرّة، كان الحوار أبعد شيء عن السوريين، كان في مجرّة أخرى، بل وكان مجرّد فكرة طرحه للتداول يقابل بالرفض، والجلسات التي قادها مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، غير بيدرسون، في جنيف، دليل دامغ، عندما كان يقوم بدور الوسيط بين طرفي الصراع السوري اللذين لم يمتلكا النيات على الجلوس إلى طاولة حوار واحدة، وإدارة النقاش فيما بينهم، مع أن القضية المطروحة والمتنازع عليها تخصّهم جميعًا، إنها قضية وطن اسمه سورية. ومنذ بداية الحراك في سورية، انقسم السوريون إلى فريقين أو معسكرين، باعتبار أن العسكرة صارت باكرًا هي البوصلة وهي الحكم، معسكر ما زال يرى الأجنبي المسؤول عمّا حلّ بنا، وأن المؤامرة الكبيرة على سورية ما زالت تحاك بعزم وصلابة، وأن من وقفوا بجانب الحراك وشجعوه عملاء ومرتبطون ولا ينتمون إلى الوطن. بينما رأى المعسكر الآخر باكرًا أن طموح الشعب السوري وتحقيق أحلامه وانتصار “ثورته” لا يصح من دون تدخل أجنبي، وكان الرهان على الأجنبي باكرًا أيضًا، وتوزّع هذا الطرف بين ولاءات عديدة بدّدت الزخم الشعبي وحرفته عن أهدافه. وراحت الاتهامات تتوالى، وتتصاعد نبرتها بتصاعد العنف على الأرض، وتدفق دماء السوريين بلا رحمة.
في الحالتين، يُدار الصراع حول قضية واحدة، والكل يتحدث باسم الشعب السوري. وفي الحالتين أيضًا، كانت الإرادة الذاتية تذوي وتتلاشى والثقة بالنفس والاعتماد على النيات الذاتية تنعدم، والاتكاء على الأجنبي يزداد، حتى صار الأجنبي المقرّر الوحيد لمصير السوريين، والدليل اليوم أنه من يقرّر أن حل الأزمة السورية يكون بتشكيل لجنة دستورية أعلنها أخيرا الأمين العام للأمم المتحدة، ووافق عليها النظام. هذه الحالة سبب أساسي يقف وراء موقف غالبية السوريين من تشكيل اللجنة، الموقف اليائس الذي تباين بين الرفض من دون مبرّرات أو حجج منطقية، أو التهليل المستبشر من دون حجة أيضًا، والدافع في الحالتين هو الرغبة في الخلاص من الواقع المأساوي الذي ألمّ بالبلاد، وما زال ينهش بمفاصل الحياة كلها ويقضمها.
حتى الرغبة في الخلاص لا تعني الرضا الحقيقي الصادق، فالسوري يائسٌ من إمكانية اتفاق أعضاء اللجنة، لأن تسع سنين من الحرب ترافقت مع عملية سياسية عرجاء وعاجزة لم يعرف السوريون خلالها فهم ما حدث ويحدث ومناقشته، كي يتم حفر ثغرة في الجدار الأصم الذي يفصل بين واقع السوريين ومستقبلهم، لأن كل طرفٍ كان متمسّكًا بالأفكار والأحلام والهواجس التي تستولي عليه. ويعمّق الخلاف بذلك حول النتائج المنتظرة التي يعتبرها حقيقة واقعة. عجز السوريون عن فهم واقعهم لأسباب كثيرة لا يمكن حصرها هنا، وكان عجزهم نتيجة طبيعية لانعدام الثقة فيما بينهم وانعدام النية أو القدرة على الإصغاء إلى بعضهم بعضا.
انطلاقًا من هذه الحقيقة، كيف يمكن انتظار حل يأتي من لجنة دستورية لم ينتخبها الشعب، ولا يعلم الشعب أيضًا شيئا عن كفاءتها وقدرتها على صياغة دستور يمثل إرادته؟ عندما صمتت الحرب العالمية الثانية، عمل حكام الأقاليم الغربية من دول الحلفاء على منح رؤساء الوزراء الألمان في الغرب صلاحياتٍ تتضمن مهمات محدّدة اشتهرت باسم “وثائق فرانكفورت”، من أجل الإسراع في تأسيس دولةٍ في القسم الغربي من ألمانيا، حيث كان القسم الشرقي تحت نفوذ الاتحاد السوفييتي. وقد نصت الوثيقة الأولى على تنظيم اجتماعٍ يدعو إلى وضع دستور فدرالي ديموقراطي، تلقَّى رؤساء وزراء الولايات الإحدى عشرة تكليفاً بدعوة جمعية تشريعية إلى الاجتماع. توجب على هذه الجمعية إعداد دستور ديمقراطي، يضمن الحقوق الأساسية، ويصوغ بناء الدولة الفيدرالية. ولكن رؤساء وزراء الولايات الاتحادية كانوا يخشون أن يؤدي سريان الدستور على دولة ألمانية غربية فقط إلى إِحْكام تقسيم ألمانيا. ولذلك دعا رؤساء وزراء الولايات الاتحادية إلى “مجلس برلماني” بدلاً من جمعية تشريعية، عليه صياغة دستور مؤقت سمّي “القانون الأساسي”، وهو الاسم الذي ما زال يُطلق على الدستور الألماني. ضم المجلس البرلماني 65 عضوًا، كان من بينهم 33 خبيرًا.
لا نعلم كم خبيرًا تضم اللجنة الدستورية السورية التي أعلن عنها، إنما يمكن القول إن عددهم قليل جدًا. ولكن إذا كانت هي الاتفاق الوحيد الذي أجمعت عليه كل الأطراف الضالعة في الشأن السوري، فهل ستمتلك القدرة على وضع “قانون أساسي” كما فعل الألمان، يقوم على ضمان الحقوق الأساسية يكون بمثابة القاعدة التي يُبنى عليها دستورٌ ينظّم بناء الدولة السورية من جديد؟ أسئلة قلقة ومريرة في الوقت نفسه، بالنسبة إلى السوري الذي شهد على دمار وطنه وخراب دولته ومجتمعه، وشهد أيضًا على عدم توفر القدرة أو النية بين أطراف الصراع في بلاده على الإصغاء والحوار.
المصدر: العربي الجديد