برهان غليون
قادت الظروف التاريخية التي أعقبت انحسار موجة الحركة القومية، وعلى أنقاضها، إلى ولادة أنماط متعددة من النظم السياسية التسلطية في العالم العربي، كان الجامع الرئيسي بينها خوف أصحابها من الحركات الشعبية، ومن الجماهير عموما، وتحالفها الضمني أو المعلن ونجاحها، من خلال شبكة الأجهزة الأمنية المترابطة، في تحييد الشعوب وتهميشها واستبعادها من أي مشاركة سياسية. وكما يحصل للمياه الراكدة أو المستنقعة، أدت هذه الظروف إلى نشوء نخب حاكمة وطبقة سياسية مكرّسة ومضمونة البقاء، لا شيء يهدّدها ولا يمكن لأي ضغوطٍ أن تزحزحها أو تؤثر عليها، فتحوّلت شيئا فشيئا إلى نخب مستقلة تماما عن شعوبها، ومقيمة في أبراج عالية فوقها، وصارت ترى في السلطة التي وقعت في يدها نوعا من الغنيمة التي كافأها بها التاريخ مقابل مهارتها في انتزاع السلطة في غفلةٍ عن الزمن والشعوب، والاحتفاظ بها. وشيئا فشيئا أصبحت هذه النخب الحاكمة تنظر إلى هذا “الإنجاز” أنه برهان على عبقريتها وتفوقها الاجتماعي، وترى فيه مصدر مشروعية، ومبرّرا كافيا لاحتكارها السلطة وتخليدها بين يديها، وعدم التردّد، في سبيل الاحتفاظ بها والدفاع عنها، باستخدام أي وسيلة، من العنف الدموي إلى التلاعب بعقول الشعوب وخداعها بالشعارات الوطنية، مرورا بتسعير النزاعات والانقسامات الطائفية والقبلية والأيديولوجية، ووضع الفئات الاجتماعية واحدتها في وجه الأخرى، وإذا احتاج الأمر ليس لديها أي مانع من التفاهم والتواطؤ مع القوى الأجنبية، للحصول على دعمها في مواجهة شعوبها “المتآمرة” عليها.
وكما هو منتظر، ما كان من الممكن أن تكون النتيجة لهذا النمط من نظم الحكم سوى الفساد الشامل والانحطاط المستمر والمتسارع للإدارة المدنية والسياسية، والتدهور الذي نشهده اليوم في شروط التنمية الإنسانية على جميع أصعدتها المادية والثقافية، حتى وصلت معظم البلاد العربية إلى وضعٍ تكاد تصبح الحياة فيها غير محتملةٍ بالنسبة للطبقات الوسطى، فما بالك بالنسبة للطبقات الشعبية التي أخذت تواجه شروط حياة مستحيلة، وليس أمامها سوى أن تعلن إفلاسها.
ليس هناك شك في أن القمع الأعمى الذي أتقنته عديد من هذه النظم، بما في ذلك تنظيم المجازر الجماعية، للإيقاع بجمهورها المعارض أو المحتج، قد ساهم في تأجيل موعد المواجهة التاريخية، واندلاع الثورة الشعبية، لكنه لم يمحُها من جدول أعمال التاريخ، وربما زادها تجذّرا وصلابة وإصرارا، كما يظهر جليا منذ بداية هذا العقد من القرن الواحد والعشرين، حيث أصبحت الانتفاضة العارمة الحقيقة الوحيدة في الحياة السياسية والاجتماعية على امتداد الأرض العربية، من دون أن تكون هناك أحزابٌ قوميةٌ تجمع بين نخبها، ولا تنسيق بينها من أي شكل كان. كان إضرام الشهيد محمد البوعزيزي النار في جسده، في ديسمبر/ كانون الأول 2010، إشارة الانطلاق لهذه الموجة العنيفة والعميقة من ثورةٍ مضمونها العميق تصفية حساب الشعوب مع نظم غريزية وانتقامية، ليس لها أي علاقة بالسياسة، ولا يعادل فسادها وانحطاطها الأخلاقي والسياسي سوى عدم كفاءة النخب التي تقودها، وافتقارها أي شعور بالمسؤولية، واستهتارها بحياة شعوبها وبمستقبل بلدانها.
1
بعد الموجة الأولى من الانتفاضات التي أغرقت جميعها بالدم، كان منتظرا من النخب السياسية العربية التي حافظت على وجودها في البلدان الأخرى أن تتعلم الدرس، وتعي خطورة الأوضاع التي تعيشها مجتمعاتٌ تئن تحت ضغوط مادية ومعنوية حتى الاختناق، وأن تخفّف من استهتارها بمصالح الناس وكرامتهم، وتظهر استعدادا أكبر للنظر في شؤونهم، وتتحمّل مسؤولياتها تجاه مصير الدول التي تسيّرها، وتبادر جدّيا بإصلاحاتٍ أصبحت أكثر من ضرورية وعاجلة، لقطع الطريق على الانفجارات المنظورة وشبه المعلنة. ولكن شيئا من ذلك لم يحصل. بالعكس، أظهرت هذه النخب شرها أكبر، ومكابرةً أشد في الاستمرار على طريقتها في الحكم وسوء إدارة الدولة والتصرّف بالمال العام، غير عابئة بمشاعر الناس ومعاناتهم. هل نأمل بعد ذلك، على الأقل، بعد فشلهم في الإصلاح، أن يستفيد الحاكمون من درس الكارثة الكبرى التي حلت بالسوريين، ولم يبق أحدٌ في العالم لم يعرف تفاصيلها، وأن يعوا خطورة زجّ شعوبهم في دوامة الحروب الأهلية التي لن يخرج منها منتصر، مهما كان حجم الهزيمة التي يكبّدها للطرف الآخر، ما دامت الهزيمة سوف تنعكس على البلاد بأكملها، وتهدّد مستقبل الدولة والمجتمع بكاملهما.
ربما كان لهذا الدرس دور ما في تعبيد الطريق الذي سلكته السودان، والذي أدى إلى التوصل إلى تسويةٍ حول مرحلة انتقالية بين قيادة الجيش والمنظمات المهنية والمدنية التي تصدّت لقيادة مطالب الشعب. كما لا يمكن تجاهل تاثيره في حث النظام الجزائري على ضبط أعصابه في مواجهة الانتفاضة الشعبية السلمية المستمرة، من دون توقف منذ ثمانية أشهر متواصلة.
ولكن هذا التأثير يبدو ضعيفا، إن لم يكن معدوما، في حالتي العراق والجزائر، فلم تمض على اندلاع انتفاضتيهما أسابيع، بل أيام، حتى بدأ النظامان يضيقان ذرعا بالمتظاهرين السلميين ويسعيان، بجميع الوسائل، كما فعل الأسد من قبل، إلى استفزازهم بهدف حرف الثورة السلمية عن مجراها وتفجير فتنةٍ مسلحةٍ لتبرير استخدام القوة المفرطة في قمعها، وتفريق المسيرات والاعتصامات السلمية، ومنعها من الاستمرار. وما حصل في العراق من عمليات قمع وقنص وهجوم على المتظاهرين من شبيحة النظام لا يمكن أن لا يذكّر بما حصل في سورية من قبل، ومنذ الأيام الأولى من عمليات قنص وتفجيرات دموية. وهذا ما تنطوي عليه أيضا تهديدات حسن نصر الله الذي أعطى لنفسه مركز المرشد الأعلى للجمهورية اللبنانية، على منوال علي خامنئي في طهران.
يرجع الصلف الذي يتميز به سلوك السلطات العميقة في بغداد وبيروت، تماما كما كان عليه الحال في دمشق في بداية هذا العقد، إلى سببين رئيسيين: الأول، ثقة النخب السياسية الحاكمة بفعالية نظامها “الأمني” والطائفي، وقوة هيمنتها وسيطرتها على شعوبها، ماديا وأيديولوجيا، ورسوخ اعتقادها بأن تمثيلها جماعاتها الأهلية يتجسّد في انتزاعها حصةً أكبر في المناصب الحكومية لها ولأنصارها وحاشيتها المقرّبة، ولا يرتب عليها أي مسؤولية عمومية. ولا يمكن لطبقةٍ عاشت على اقتسام المنافع والموارد الوطنية، وتربّت على الفساد، ولم تر في الدولة سوى بقرة حلوب تعمل لحسابها أن تتحوّل إلى طبقة سياسية وطنية، تشعر بالمسؤولية عن مصير الشعب، وتجعل من تحسين شروط حياته وتأمين مصالحه والدفاع عن موارده وسيادته مركز اهتمامها والبند الأساسي في جدول أعمالها. ترسيخ الطائفية وتوزيع المكاسب والمنافع على زعماء الطوائف، هذه هي السياسة الوحيدة الممكنة في نظر هؤلاء، وهذا هو الأمر الطبيعي والصحيح أيضا. هذا كان أيضا المنطق الذي حكم سلوك بشار الأسد، ونخبته التي تقاسمت الدولة مناصب وموارد ومحسوبيات على قدر مشاركة كل طائفةٍ وطبقةٍ وفردٍ في تمكين النظام من البقاء والدفاع عنه وتعزيز سطوته السياسية والأيديولوجية. السبب الثاني هو إدراك هؤلاء أنهم ليسوا معزولين في التصدّي للانتفاضات الشعبية، وإنما هم جزءٌ من منظومة وحلقة في محور يتجاوز لبنان والعراق وسورية معا، تقع في صلبه جمهورية إيران التي أظهرت بالفعل أنها صاحبة مشروع كبير، وأنها لن توفر جهدا لحمايتهم والدفاع عنهم في إطار المعركة التاريخية التي تخوضها لتحقيق الانتصار في معركة السيطرة الإقليمية، وفرض نفسها وأجندتها السياسية والمذهبية على خصومها ومنافسيها الدينيين والسياسيين في عموم المنطقة.
هكذا، كما أعلنت الحكومة العراقية ضرورة وقف الاحتجاجات بأي ثمن، وبدأت باستخدام القوة قبل مرور أسبوع على المظاهرات الشعبية، أعلن “السيد” حامل مفتاح سيادة لبنان ومجسّدها، زعيم حزب الله، أنه لن يسمح للبنانيين بتغيير الحكومة، ولا بإسقاط العهد. وكل شيء ينبغي أن يبقى كما هو، وإلا سيدفع جنوده إلى الشوارع، ويحسم الأمر، ويلقن المتمردين ما يستحقونه. وهكذا كان.
2
واضحٌ أن معركة التحرّر السياسي وانتزاع الحق في المواطنة، أي في السيادة الشعبية أيضا، في لبنان والعراق وسورية، قد اصطدمت بمخطط الهيمنة الإيرانية، وأصبحت رهينة الحفاظ على التوازنات الجيوستراتيجية الإقليمية والدولية، والدفاع عن دولة ولاية الفقيه ضد مناوئيها الإقليميين والدوليين معا. ولا تخفي طهران أنها لن تقبل خسارة معركتها “التاريخية” و”الكونية”، بذريعة انتفاضةٍ شعبيةٍ تطالب بالاعتراف بحقوق سياسية واجتماعية، ترفضها طهران لشعبها ذاته، ولا ترى لها أي قيمة استراتيجية. وهذا يعني أن تحرّر الشعوب المشرقية لن يمرّ إلا على جسد مشروع الهيمنة الإيرانية، وأن طهران لن توفر وسيلةً لإجهاضة وتقويضه وسحقه، إذا اضطر الأمر كما حصل في سورية، لحماية مصالحها “القومية” والمذهبية. وهذا ما اكتشفه المتظاهرون في ساحات بغداد وبيروت، وما لم يعد بإمكانهم التغطية عليه في شعاراتهم التي تقدّم اليوم، أكثر فأكثر، مطالب إخراج إيران وأذيالها من بلدانهم على الشعارات السياسية الأساسية التي كانت الحافز الأول للخروج على السلطة القائمة.
يشكل هذا التداخل بين المعركتين، معركة التحرّر من الفساد والاستبداد والاستعباد ومعركة التحرّر من السيطرة الإيرانية وارتهان الطبقة السياسية في لبنان وسورية والعراق لها، ومعها مصائر شعوب المشرق بمعركة نظام الولي الفقيه، لاستعادة مجد الامبرطورية الفارسية، عقدة كبيرة وقاسية، وتكاد تكون مستحيلة الحل، في طريق الانتفاضات الثلاث السورية واللبنانية والعراقية. وهو يهدّد بإدخال شعوب المنطقة في مواجهةٍ صعبةٍ وعنيدةٍ ومكلفةٍ ودامية، كما أظهرته الأحداث في سورية في السنوات الماضية، بمقدار ما يضع المسألة في إطارٍ وجودي، يجعل انتصار أي طرفٍ هزيمةً ساحقةً للطرف الآخر، ولا يلحظ إمكانية الوصول إلى أي تسوية ممكنة. وهي لا تترك لشعب الانتفاضة في هذه الدول الثلاث سوى مخرجين من المواجهة: إما هزيمة نظام الهيمنة الإيرانية أو الانكفاء والانسحاب من المواجهة، وهذا لن يعني قبول النظم العبودية كما هي فحسب، وإنما تعزيزها، وتكريس تحييد الشعوب وهزيمتها الساحقة أمام نخبها الفاسدة وتمديد أجل النظم القائمة من دون حدود.
والحال أن تراجع الانتفاضات التحرّرية غير ممكن، لأنه يعني ببساطة القضاء على الأمل الكبير الذي فجرته الثورة وروح الوطنية الوليدة التي خرجت من الساحات والشوارع، والعودة بالشعوب إلى مستنقع الانقسامات والنزاعات والمحاصصات الطائفية التي ثارت ضدها. وفي نظري، سيكون من الصعب، إن لم يكن المستحيل، إقناع الجمهور الذي شعر، من خلال الانتفاضة، بأنه استعاد ملكية وطنٍ كان قد انتزع منه لصالح أمراء الحرب ومافيات المال، أن يتخلى عنه، ويعود إلى قواقعه الطائفية وانقساماته وعبوديته لطبقةٍ سياسيةٍ لم يكفّ، منذ بداية الانتفاضة، عن إعلان تبرئه منها، وتصميمه على محاسبتها. كما، لن يقبل الشعب العراقي أن يظل مستعبدا في وطنه ولاجئا أو مشرّدا وأجنبيا فيه، ولن يتخلّى عن سيادته التي استرجعها عليه بفضل الانتفاضة وبدماء شهدائها، مهما علا أزيز الرصاص، وتكالبت عليه فرق الموت.
في هذه المواجهة الوجودية التي فرضتها وتفرضها طهران الخامنئية على بعض الشعوب العربية، لن يكون النصر في جانب ذيول التسلطية الإيرانية ونظام ولاية الفقيه، مهما أريق من دماء وجرب من أسلحة. وسيبقى النصر، عاجلا أو آجلا، في صف الشعوب، لا لأنها تدافع عن حقوقها الطبيعية والمشروعة في الحرية والكرامة والأمان فحسب، ولكن لأن حقيقة نظام إيران التوسعي وإفلاسه التاريخي والأخلاقي لم يعودا ينطليان على أحد. وكل ما في الأمر أن الثورة السياسية على الفساد والاستبداد سوف تتحوّل وتندمج مع ثورةٍ وطنيةٍ على السيطرة الأجنبية وارتهان النخب المحلية للمصالح الخارجية.
والنتيجة، بخلاف ما جرى ويجري في بلدان المغرب العربي، لا ينبع الانزلاق إلى العنف في ثورات المشرق العربي من أي ثقافةٍ أو تقاليد دينية أو ثقافية خاصة، وإنما، بدرجة كبيرة، من ارتهان مصير معركة الحرية للسياسات التوسّعية الإيرانية. ولن يتوقف سفك الدماء في هذه المنطقة المنكوبة من العالم، ما لم تنجح شعوبها في هزيمة مشروع الإمبراطورية الجديد هذا، والقضاء على وحش الفاشية وإسقاطه. وعلى الرغم مما يبدو عليه من قوة وقدرة على العدوان، يعيش هذا المشروع في أسوأ حالاته، وهو يواجه ثورات الحرية في أكثر من عاصمة عربية، ولا ينقصه إلا انتفاضة جديدة للشعب الإيراني، ضحيته الرئيسية، حتى يتهاوى كقصر من ورق.
المصدر: العربي الجديد