د. أحمد طرقجي
جسد التصعيد الأخير في الشمال السوري عمق الأزمة السورية وتشتّت المجتمع المدني السوري، فلقد كان توازن القوى الهش في الشمال الشرقي قائماً على توازن سياسي وأمني بحت بين الدول بدون أي مقومات حقيقية لمجتمع مدني سوري قادر على تجسيد تطلعات وحماية مصالح المواطنين.
عملت بعض الدول المشاركة في التحالف الدولي ضد تنظيم «الدولة» (داعش) على خلق فرص لتأهيل بعض البنى التحتية وإيجاد حالة من الاستقرار النسبي شمال شرق سوريا. وصل تعداد سكان الشمال الشرقي السوري إلى حوالي مليوني نسمة. لكن ورغم التوافر النسبي للموارد وسهولة العمليات الإنسانية عبر الحدود السورية العراقية، إلا أن تهميش المجتمع المدني حد من إمكانية التوظيف الأمثل لهذه الموارد لبناء حالة من الاستقرار في المجتمع سواء من ناحية تقديم الخدمات الأساسية أو من ناحية التوثيق الحقوقي.
فحسب تقارير الأمم المتحدة، لم تتمكن الجمعيات المدنية المحلية خلال السنوات الثلاث الماضية من افتتاح وتشغيل أكثر من عشرة مستشفيات لخدمة مليوني سوري منتشرين على ثلث مساحة سوريا. تركزت معظم هذه المشافي في المدن الأكبر مثل الحسكة، ومنبج، والرقة.
تتباين هذه الأرقام مع ما يحدث في الشمال الغربي حيث تمكنت الجمعيات المدنية من تأسيس عشرات المشافي التي تقدم الخدمات لثلاثة ملايين سوري رغم القصف المتكرر لهذه المشافي ومحدودية الدعم الإغاثي في منطقة مساحتها تساوي نصف مساحة الشمال الشرقي .
كما لاقت المنظمات الحقوقية السورية صعوبات مماثلة حيث تعرضت للمضايقات والاتهامات عندما عملت على توثيق قضايا حقوق الإنسان والتوثيق القانوني في مناطق قوات سوريا الديمقراطية رغم أنها تمكنت من قبل من توثيق نتائج هجوم قوات التحالف الدولي ضد «داعش» في تلك المنطقة.
هذه المنظمات نفسها كانت متجذرة أكثر في الشمال الغربي مما جعلها أكثر فاعلية وقدرة على مواجهة الفصائل العسكرية المتحكمة بالأرض. ظهر هذا واضحاً في مواجهة حالات الاعتداء على عمال الإغاثة على سبيل المثال.
لم تخف المنظمات المدنية خلال السنوات القليلة الماضية رغبتها بنقل خبرتها في مساعدة الأهالي لتعمل أيضاً في شرق سوريا على تقديم الخدمات الإنسانية والتوثيق الحقوقي وتمكين المجتمع المدني الوطني في حال توفر أرضية مناسبة للعمل المدني هناك. بل حتى في الظروف الطارئة، كما في حرائق الحقول، تم عرض تقديم المساعدة مباشرة من فرق متخصصة بالتعامل مع حرائق الحقول لكن بدون أي رد إيجابي.
تشير التقارير الأخيرة عن الاستجابة للتصعيد الأخير إلى أكثر من 160 الف حالة نزوح في الشمال الشرقي، ومغادرة عمال الإغاثة الدوليين من شرق سوريا باتجاه العراق رغم تطمينات الإدارة الذاتية بما يتعلق باتفاقياتها مع دمشق.
كما تشير إلى دخول الـ YPD لمقرات سبع منظمات إنسانية وتحويل بعضها لنقاط عسكرية. تتواتر أيضا بعض تقارير عن حالات انتهكت فيها الفصائل المعارضة للقوانين الإنسانية الدولية المتعارف عليها في حالات الصراع. لقد خلق تغييب المجتمع المدني فراغاً لم ولن تستطيع المؤسسات الدولية أن تملأه.
فكما أثبتت معظم الأزمات الإنسانية مؤخراً وخصوصاً الأزمة السورية فإن قدرة هذه المؤسسات الدولية على فهم أولويات المواطنين والتفاعل مع هذه الأولويات ضعيف وهو ما نراه سواء في مناطق سيطرة النظام أو خارج مناطق سيطرته. بينما تتمحور أولوية المنظمات المحلية على التخفيف من حدة الأزمة على المواطن مع خلق فرص لإعادة نهوض المجتمع وهذا هو جوهر الدعوة الوطنية للمنظمات المدنية للنهوض أولاً فوق التقسيمات السياسية والعسكرية الحالية.
كما المنظمات الدولية ستبقى أجندات الدول المؤثرة في الملف السوري متمحورة حول أولوياتها الوطنية بغض النظر عن أثرها على السوريين. لكن أولويات الأطراف السورية يجب أن تتمحور، كحد أدنى، حول توفير الاستقرار والأمان للمواطن السوري وحماية حقوقه على جميع الأراضي السورية وهو ما يفتقده جميع المواطنين السوريين.
المصدر: القدس العربي