جهاد الزين
سمعنا أحيانًا على ألسنة بعض أسماء بارزة في السياسة اللبنانيّة أنّ الحراك الشعبي الذي تشهده كلّ المناطق اللبنانيّة، منذ ما يقارب الثلاثة أسابيع، هو نتيجة تدخّل خارجي أو من بعض السفارات المحليّة. أعطونا اسم هذه الجهة أو السفارة لنتبرّك بها، لأنّ سفارة تستطيع أن تحرّك هذه الأعداد الضخمة غير المسبوقة منذ مائة عام، أي منذ تأسيس الكيان اللبناني، والتي تملك القدرة على تحريك ما يفوق المليوني شخص في كلّ المناطق اللبنانيّة من أقصى جنوب لبنان إلى أقصى شمال لبنان، مرورًا ببيروت وطرابلس، هي جهة تستحقّ التبرّك بها، بسبب فهمها الرؤيوي والديناميكي لهذه الروح الوحدويّة العميقة. هذه الروح التي تجعل في لحظات أبناء وبنات النبطيّة وصور، يتكلّمون بلغة سياسيّة واحدة ناضجة تمامًا، هي اللغة والشعارات السياسيّة نفسها التي يتكلّم بها أبناء وبنات كسروان وجبيل وعكّار. وهذا يحصل في بلد نشأ نظامه السياسيّ على لغة وشعارات سياسيّة مختلفة لكلّ منطقة، بل نشأ على شعارات متناقضة وتربية بسيكولوجيّة وثقافة مختلفة، أنتجت حتّى الآن عدّة حروب أهليّة. من هي هذه السفارة التي تستحق التبرّك وكلّ الإعجاب والتقدير، لهذه العبقريّة في التوقيت والتنظيم والفهم والتفهّم للحظة تاريخيّة، تعكس في ظرف سياسيّ داخليّ شديد ومتين، التركيب الشديد والمتين لبنى وأحزاب تقبض على ما كنّا نعتقد أنّه “جمهورها” الذي لا يُخترَق، فــ”تصطاد” هذه الروح الجامعة لتحوك هذه “المؤامرة” التي عاش النظام الطائفي اللبناني كلّ حياته، وخصوصًا بعد العام 1990 على إنتاجها وإعادة إنتاجها؟ لم نكن نعلم قبل ذلك أنّه في غرفة سوداء تحت الأرض أو فوقها، يعيش بين ظهرانينا جورج واشنطن صغير أو فلاديمير لينين صغير، أجنبيّان يحرّكان كلاهما أو أحدهما هذه الجماهير التي فجأة منذ حوالي أسبوعين “تتطاول” على قياصرة صغار لم يكن مسموحًا مجرّد إشارة إليهما، فتخدش الكرة البلّوريّة لنظام الخوف الكانتوني الطائفي، وتشير بأصابعها الشجاعة إلى “كلّن يعني كلّن” وبعضهم كان لا يقبل مجرّد الإيحاء إلى اسمه، فكيف بتسميته؟ بوركت هذه “المؤامرة” التي تسعى إلى المساس بجبال الفساد وأطنان الأموال المنهوبة في تعدّدية لا تحمل من اسمها سوى تعدّدية حقّ الفساد والنهب، الذي منحه لأنفسهم طغاة صغار، جعلوا من النظام السياسيّ اللبنانيّ أقوى نظام سياسيّ في الشرق الأوسط. ليس أقوى نظام سياسيّ في الشرق الأوسط فقط بل أحد أكثر أنظمته احترافًا ودربةً وعمالة للسفارات. إنّ ما يحدث إذا استمر هذا الحلم الجميل، ولم تبدّد مؤامرة حقيقيّة لا وهميّة مضادّة نتائجه السياسيّة، هو “الهديّة” الأهمّ التي منحها الشعب اللبناني لنفسه في ذكرى مئويّة لبنان الكبير التي نستعد جميعًا لها، لأنّها تشير إلى أنّ لبنان، هذا الكيان الذي يحاط بكلّ أنواع التشكيك الكياني، حقّق أخيرًا أعجوبته الكبرى، وهو إمكان البناء والتعبير عن روح وحدويّة جامعة لم يَشهد لها مثيلًا. لكنّ الأعاجيب هي عادةً معرّضة للتلاشي قبل غيرها في يوتوبيا الشعوب. فحَذارِ من أنفسنا.
المصدر: النهار