حمود حمود
تُشكل، بالفعل، سلطة البعث السوري، وإلى حدّ ما العراقي، من بين السّلطات الديكتاتورية المشرقية، حالة فريدة إلى حد ما في سياساتها الإسلامية. وربما لا نجاوب الصواب إذا قلنا، كما سنتناول في هذه العجالة، أنّ هذه السياسات نفسها قد ساهمت، بشكل مباشر وغير مباشر، في تخريب المجتمعات السورية وكذا في إعادة هيكلة بيئات دينية ارتدت، وما زالت ترتدي، أقنعة متنوعة أصولياً وتتقاتل فيما بينها طائفياً. فيما يلي سيتم الإشارة سريعاً إلى أحد الأوجه المعقدة في «إعادة هيكلة» نظام البعث للامتداد الإسلامي في سورية، وتحديداً سياسته الأخطبوطية مع المؤسسة الدينية، وذلك باستخدامها كذراع له في المجتمعات السورية، وكيف ساهمت هذه السياسة لا في تكريس سلطته وإلباسها لبوساً «شرعياً» فحسب، بل أيضاً في تهيئة الحواضن الأصولية في مجتمعاتنا السورية.
هناك مساران ربما يبدوان للوهلة الأولى متناقضين في «السياسة الإسلامية» للبعث السوري، بيد أنّ الواقع غير ذلك: الأول، وهو ما تجلى منذ انقلاب البعث 1963، في ضرب سلطة المؤسسة العلمائية السورية التقليدية التي ورثتها سورية منذ ما عرف بالإصلاحات أو «عصر التنظيمات» العثمانية (ويمكن قراءة ذلك في إقالة المفتي السوري حينها أبو اليسر عابدين ليحل محله أحمد كفتارو)، والاعتماد لا على سُلطات دينية «منتظمة» في سلك الدولة، بل على سُلطات دينية شعبية غير رسمية ولا تنضوي في جهاز الأوقاف الرسمي. طبعاً السبب في ذلك هو بالفعل خوف النظام السوري وعدم ثقته العميقة بهذا الجهاز الديني العلمائي، وهو خوف لطالما رافق النظام السوري. أما المسار الثاني، فقد تمثل تماماً في إعادة ضبط البيت السني الشعبي، ومعه أيضاً العلمائي، ضمن عمليات إعادة مأسسة للوجود الإسلامي، وهي عملية بدأت مع بداية عهد حافظ الأسد، وتكثفت في فترة الثمانينات والتسعينات. وهذه يمكن أنْ نطلق عليها عمليات إعادة «تسنين السنة»، لكن بعثياً ووفقاً للمسطرة البعثية وما تبتغيه سلطوياً.
والحال، ثمة هدفان لهذا: الأول، فقد تمثل أنه من خلال سياسة إعادة ترويض الإسلام هذه، فإنه كان يطمح في بسط «شرعية سنية» له من خلال وكلائه، سواء أكانوا علماء سنة رسميون أم لا. وهنا فقد تم استخدام الإسلام كـ«خزان رمزي»: يُكثّف من خلاله نظام البعث وجوده «سياسياً» ويشرعن بأدواته سلطة البعث اللاشرعية «إسلامياً». لنقرأ مثلاً الدلالات العميقة في دمج مفردات المقدس الإسلامي مع رأس السلطة، الأسد، (مثلاً الأسد والقرآن) وما يمكن أنْ يتركه ذلك في الوعي الأنثروبولوجي في القاع الديني للمجتمعات السورية وفي تكريس سلطته إلى «الأبد» (وهذه مفردة لها ثقل ديني كبير في اللاهوت الإسلامي، سواء الشيعي أو السني، تمس أقدس ركيزة لحمولة الألوهة).
أما الهدف الثاني، فقد تجسد في خلق بدائل دينية عن تلك تزعمها الإخوان المسلمون السوريون. وأبعد من ذلك: لقد بدأت سورية تواجه، مع بداية الثمانينات، ككثير من دول المشرق، موجة صعود ديني هائل. وعلى الرغم أنّ هذه الموجة كانت بالفعل عالمية الطابع (في هذه الفترة بدأت تتم مثلاً إعادة «تديين» السياسة الأميركية ضمن سياسات إنجيلية يمينية ممنهجة في مقابل القطب «الملحد» الشيوعي)، إلا أنها موجة أخذت في المشرق تتهيكل في مسارات متطرفة جداً، وذلك بسبب، أولاً، ما خلفته آثار الثورة الإيرانية التي تمت «أسلمتها» من خلال النخبة الأصولية الإيرانية حينها (حزب الله الأصولي هو من بين هذه الآثار الأصولية)، وبسبب، ثانياً، الصدى الكبير للدعوات القادمة من بعض الدول الإسلامية (تحديداً السعودية) للجهاد في أفغانستان. سورية كانت من بين تلك الدول الإسلامية التي لبت صوت الجهاد في أفغانستان (لنتذكر مثلاً مصطفى ست مريم نصار، الذي عرف بـ«أبو مصعب السوري»، والذي يعتبر من الشخصيات البارزة التي «قعّدت» لتنظيم القاعدة والجهاد العالمي الحديث).
وبالفعل، فقد وضعت هذه التطورات نظام البعث السوري حقيقة أمام تحدّ كبير. فلم يقتصر الأمر في مواجهة ذلك السير فقط على المستوى الخارجي في بناء تحالفات استراتيجية مع النظام الأصولي الإيراني والمساهمة في تأسيس تنظيمات أصولية في لبنان، بل امتدت مواجهة التحدي ذلك إلى الداخل السوري نفسه. وهنا يمكن أنْ نقرأ بعضاً من الفرادة لهذا النظام السوري في مواجهة هذا التحدي: ففي الوقت الذي اتبع فيه البعث، على إثر مواجهاته العسكرية والسياسية مع الإخوان المسلمين السوريين، سياسةَ قمع كبيرة ضد أية أصوات إسلامية أو نشاطات دينية في سورية (لا بل وصلت الدرجة معه أنه منع حتى فتح المساجد بين الصلوات، بهدف قطع الطريق على إعطاء دروس دينية هناك، وتحديداً في حلب وحماة)، نجد أنه اتبع تماماً سياسة مناقضة لهذه: أي التسامح الهائل في خلق بدائل دينية ترمي، من بين ما تهدف إليه، إلى سدّ الحاجة الاجتماعية في «الطلب المتزايد» على الدين، إذا ما أجيز لنا أنْ نستخدم هذه المفردات.
وعموماً، يمكن عنونة هذه السياسة الأخيرة، أي التسامح، بـ«إعادة ترويض الإسلام» السوري على مقاسات البعث. من هنا يمكن تفسير الشرعنة، لكن غير الرسمية، لبعض التجمعات الدينية الأصولية، كـ«تنظيم القبيسيات»، وبعض معاهد العلوم الشرعية (كـ «معهد بدر الدين الحسني» ومعهد الفتح الإسلامي في دمشق، قبل أنْ يلحق هذا المعهد بجهاز الدولة منذ سنوات قليلة) وخلق جديد لـ«معاهد الأسد لتحفيظ القرآن» والوفرة الهائلة في بناء المساجد…الخ. وهنا فقد انصب جهد البعث السوري على ضبط إيقاعات الإسلام ضمن هياكل صندوق الدولة. طبعاً من نافل القول التأكيد على أنّ هذه «المأسسة» لم يكن ليقصد بها بأي حال ما تحيل إليه هذه المفردة من ثقل حداثي، وتحديداً ما يرتبط بـ«مأسسة الفضاء الديني» ضمن سلطة الدولة. وأيضاً لكن لنكن حذرين هنا أنّ هذه «السياسة الإسلامية» للبعث لم يكن الهدف منها على الإطلاق الإسلام ذاته، بمقدار السيطرة عليه.
وأخيراً، من المفيد ألا ننسى هنا أنه من خلال هذه البيئات الدينية التي رعاها النظام السوري فقد أعيد «تديين» ما هو ديني أصلاً، الأمر الذي هيأ الطريق بالفعل لصعود أصوات أصولية رعتها أجهزة النظام نفسها (محمد سعيد رمضان البوطي لهو مثال جيد على ذلك)، والتي كان لها كبير الأثر في انتشار الفكر الأصولي، وتحديداً في المناطق «الطرفيّة» الهامشية- تلك المناطق التي بقيت في جزء كبير منها في عمقها الأنثروبولوجي الديني خارج المأسسة الأصولية لنظام البعث (نسأل هنا اليوم: لماذا طبع الحركات الأصولية المسلحة السورية في «وقودها الأصولي»، أي البشر، في معظمها طابع هامشي لا ينتمي إلى فضاء المدينة السورية، أو قل فضاء المركز؟ بل وكان الريف أولى الساحات التي انطلقت منها تلك الحركات؟
المصدر: بروكار برس