عمر كوش
لا يزال الحراك الاحتجاجي الشعبي يملك زخماً جماهيرياً في العراق ولبنان، حيث يواصل الشباب العراقيون التدفق إلى الشوارع والساحات، على الرغم من أن صدورهم أضحت مرمى لرصاص القوات العراقية الأمنية، وتعرّضهم لعمليات خطف وقتل من مليشيات موالية لنظام الملالي الإيراني، وأصبح الغاز المسيل للدموع وسيلة تنفسّهم، في خضم تحدّيهم لإصرار نظام المحاصصة الطائفية على منعهم من حقهم في الاحتجاج السلمي، بغية تحقيق مطالبهم في إنهاء نظام الفساد ومعاقبة الفاسدين والمفسدين، والخلاص من حقبة الزمن الطائفي المقيتة، ووصاية نظام الملالي الإيراني ونفوذه. وكذلك الأمر في لبنان، حيث المحتجّون مصرّون على النزول إلى الساحات والشوارع، على الرغم من ترهيب مليشيات حزب الله وحركة أمل وسواهما، ومماطلة العهد العوني في تلبية مطالبهم، وتماديه في عدم الاستجابة لأصواتهم، بحجّة عدم معرفة ما يريده الثوار، بل وصلت الغطرسة بالرئيس ميشال عون إلى درجة مطالبته المحتجين بالهجرة، وترك البلد له ولصهره جبران باسيل وأشباهه من الفاسدين والموتورين، كي يتنعّموا بالنظام الطائفي التوافقي الذي ألغى الدولة، وغيّب المواطنة، ونهب البلد، وأفقر غالبية ناسه.
غير أن الحراك الاحتجاجي للثورة في كل من العراق ولبنان، يواجه، مع مرور الوقت، أسئلةً ملحّة، تطاول صيرورة استمراره، وآفاق تحقيق مطالبه الثورية المنشودة في التغيير السياسي للنظام الجاثم على صدورهم منذ أكثر من ثلاثة عقود، إذ بات المشهد الاحتجاجي الثوري في ساحات أغلب المدن العراقية واللبنانية وشوارعها يشهد نوعاً من التكرار والمراوحة في المكان، في ظل إمساك أقطاب نظام المحاصصة الطائفية زمام السلطة والحكم في كلا البلدين، على الرغم من الهزة المزلزلة التي أحدثها الحراكان فيهما.
ويبدو أن نظام المحاصصة الطائفية في كل من العراق ولبنان لا يزال يراهن على إفراغ الشوارع والساحات في كلا البلدين، مستنداً إلى تكتيك قديم، يعتمد على: القمع والترهيب الذي يمارسه ضد النشطاء من المحتجين. المراهنة على تعب المحتجين ومللهم، وشعورهم بعدم الجدوى وخيبة الأمل من استمرار الاحتشاد. تقديم تنازلات شكلانية، إلى جانب وعود بمحاربة الفساد والإصلاح، عبر تشكيل لجان واهية.
ولذلك، يتجسّد التحدي الذي يواجه الحراك الاحتجاجي الثوري في العراق ولبنان في قدرته على اجتراح ممكناتٍ لتطوير فعالياته، واتخاذ خطواتٍ ضاغطةٍ وتصعيديةٍ، يمكنها التحوّل إلى تجسيد مادي على الأرض، في مواجهة المراهنة السلطوية على إفراغ الساحات والشوارع، وبالتالي يميل نشطاء الحراك إلى تنظيم جهودهم وفعالياتهم، عبر نوعٍ جديدٍ من شكل تمثيلي، أو جسم تنظيمي، ليس بالضرورة على شاكلة الكيانات والأحزاب السياسية السائدة، بل شكل أو كيان يمكنه تحويل الحراك الاحتجاجي من إجماع وطني، عابر للانتماءات والولاءات الضيقة، إلى قوةٍ منظمةٍ صلبةٍ في مواجهة صلابة النظام الطائفي القائم، يمكنها قيادة المشهد الثوري نحو التغيير المطلوب، والدخول في المعترك قوةً فاعلةً ومؤثرة.
ولعل استمرار الحراكين الثوريين، العراقي واللبناني، بقوة وعزم لا يلينان، يبعث على الارتياح، لكن هذا لا يلغي السعي إلى إيجاد إطار سياسي ومدني موحّد، يجمع الحراك على أهداف محدّدة، ويضع خريطة تغيير ديمقراطي واضحة، ورؤية واضحة المعالم، من أجل تحقيق تلك الأهداف، عبر تشكيل سياسي، يُحدّد مطالب الحراك، ويقود خطوات عملية الانتقال الديمقراطي، ذلك أن الانتقال الديمقراطي المنشود لا يمكن أن تقوده أطراف النظام القائم، حتى وإن تراجعت عن بعض مواقعها ومكتسباتها.
ويذهب التفكير في أسئلة الحراكين الاحتجاجيين، العراقي واللبناني، إلى أن ما يجري في العراق ولبنان، في أيامنا هذه، يشكّل فرصة تاريخية لإعادة تأسيس هوية وطنية جامعة، بعيداً عن
الهويات الطائفية والمذهبية وسائر الهويات ما قبل المدنية، والسير نحو كيانٍ وطنيٍّ جامع، يتّسع للجميع، وينهي عهود الدويلات الطائفية التي تشكل دولاً داخل الدولة، كونها تمتلك السلاح الذي يدين حامليه من المليشيات الطائفية لنظام الملالي الإيراني، الأمر الذي يعني أن ثورتي العراق ولبنان تواجهان قوىً ولاؤها غير وطني، وتطمحان إلى الذهاب إلى ما بعد ذلك، عبر مواجهة نظام المحاصصة الطائفية برمّته، بوصفه يشكّل أكبر عائق أمام تشكل هوية وطنية عراقية، وهوية وطنية لبنانية أيضاً، لأن الهوية الوطنية في كل من البلدين، التي في طور التشكل، أساسها المواطنة فيهما، لذلك يقف الولاء لنظام الملالي الإيراني في الجهة المضادة لها تماماً، بوصفها النقيض المباشر له.
ولدى نشطاء الحراكين، العراقي واللبناني، حساسية وتوجس كبيران من الأحزاب الطائفية السياسية المرتهة إلى قوى الخارج. وينسحب الأمر على كل الأحزاب السياسية المشاركة في نظام المحاصصة الطائفية، وكذلك على الأحزاب في المعارضة. وبرهنت هذه الأحزاب، مثل رصيفاتها في الأحزاب العربية الأخرى، أنها كانت تلهث على الدوام وراء الثورات، كي تركب موجتها، لتصل إلى السلطة، ولذلك لم تلتحق بالثورات إلا بعد مرور بعض الوقت. ومع ذلك، يستلزم استمرار الحراك، وضرورة الوصول إلى أهدافه في التغيير السياسي الديمقراطي، ضرورة إيجاد أشكال التضامن والإجماع التي يمكنها تجاوز الأطر السياسية. وهذا يلتقي مع الشعور العام لدى المحتجين في ميادين العراق ولبنان وساحاتهما في تخطي جميع المؤسسات المرتبطة بنظام المحاصصة الطائفية وتجاوزها، بما فيها المؤسسات التي تُوصف بأنها ديمقراطية وتمثيلية، لأن جمهور المحتجين انتفض بغية تجاوز المؤسسات المرتبطة حكماً بأجهزة الحكم، بما فيها مؤسسات الديمقراطية التمثيلية، ويسعى نحو إيجاد الفسحات لبناء فضاء عام جديد، ينتظم ضمنه الأفراد المحتجّون، وتنبثق منه قوى منظّمة، قادرة على قيادة عملية التغيير والانتقال السياسي المطلوب.
المصدر: العربي الجديد