د_ معتز محمد زين
الخطوة الأولى في أي عملية تطوير أو تغيير تتجلى في دراسة عميقة للواقع ومكوناته (الثقافية والتاريخية والاجتماعية والمادية) وتفاعل هذه المكونات فيما بينها، وعوامل التأثير الأهم على استقراره وصيرورته وتحريك مكوناته.
إن الخطأ في قراءة الواقع على حقيقته وعدم القدرة على تحليل مفرداته سيقود حتمًا إلى خطأ في الخيارات والمواقف والقرارات التي تتخذ في سبيل تغييره وتطويره. حينها ستنتج الخطوات التي يتخذها صاحب القرار بهدف تطوير الواقع وتحسينه صورة مشوهة ممسوخة عن تلك التي يسعى لرسمها وترسيخها، ربما عن غير قصد – لو افترضنا حسن النوايا – والنوايا لا قيمة لها في العمل الاجتماعي والسياسي. وسيفاجئ صاحب القرار أن الخشب الذي حاول أن يصنع منه سفينة تعبر به وبمشروعه إلى بر الأمان تحول إلى كومة حطب قد تؤدي شرارة صغيرة إلى حرقها وحرق مشروعه معها بالكامل.
إن التعامل مع حقل السياسية والمجتمع والتاريخ يشبه إلى حد ما التعامل مع برنامج الكتروني قام مصممه ببرمجته بطريقة معينة بحيث تصل هذه البدايات نحو تلك النهايات، وتقود هذه المدخلات نحو تلك المخرجات، وإن الفشل في فهم البرمجة والتصميم الأساسي للبرنامج سيقودنا إلى نهايات مخالفة وربما مناقضة لتلك التي نسعى نحوها. والبرمجة أو على الأقل – فهمها وفك رموزها – هي مهمة المفكر والاختصاصي الخبير.
إن تغيير الواقع اليوم – أي واقع اجتماعي أو ثقافي أو اقتصادي – بحاجة إلى مفكرين وخبراء استراتيجيين يجيدون قراءة الواقع وتحليل مفرداته وتفكيك مكوناته وفهم خلفياته وأعماقه ومعرفة العوامل المؤثرة فيه، ومن ثم يضعون تصورًا عامًا وبرنامجًا عمليًا لطريقة تحريكه وتطويره انطلاقًا من المعطيات الموضوعية المتاحة. وحينها يأتي دور السياسيين وأصحاب القرار لنقل الموضوع من الورق إلى الميدان ومن التصور إلى التطبيق عبر أدوات التأثير التي يستحوذون عليها.
في بلادنا، هناك دائمًا فجوة واضحة ومقصودة – وأحيانًا حفرة من دم ونار – بين السياسيين والمفكرين تحول دون إقرار أو انجاز أي مشروع نهضوي، والحال أن المفكرين غالبًا ما يتم استبدالهم بمجموعة من المطبلين والوصوليين الفارغين الذين يشبعون نهم صاحب القرار للإحساس بالعظمة ويملؤون رأسه الفارغ بعبارات التمجيد والمديح التي توهمه أنه منتصر حتى في المعارك التي دهست فيها كرامته ومشروعه، وإن ردم هذه الفجوة هو شرط لا بد منه للبدء بأي عملية تنموية وتطويرية. ذلك أن المفكر يمتلك الرؤية والتصور للمسائل دون الأدوات، والسياسي يمتلك الأدوات دون وضوح الرؤية في الغالب.
إن كل من يمتلك سلطة القرار على بقعة جغرافية ويطمح بتشكيل نواة مشروع نهضوي حضاري – الشمال السوري مثلا، والأمثلة كثيرة وفي مختلف المجالات – مطالب باستقطاب العقول الكبيرة الفاهمة القادرة على قراءة التاريخ والواقع قراءة تحليلية هادفة وواعية لكي تُخرج منهما بذور مشروع يحقق الانسجام بين التاريخ الحاضر في اللاوعي الجمعي والواقع الذي يفرض نفسه على كل تفاصيل الحركة والسلوك فيوظف التاريخ ضمن حدود معطيات الواقع لبناء حاضر أجمل.. وكذلك الانسجام بين النصوص المقدسة الثابتة التي تشكل المرجعية الفكرية والهوية الحضارية، ومفردات الواقع المتغير بألوانه المختلفة الذي يحيط بنا ويتحكم بالكثير من سلوكياتنا على الأرض.. وبدون هذه الخلطة السحرية – من مفكرين وأصحاب قرار – لا يمكن لواقع أن يتطور ولحال أن يتغير نحو الأفضل حتى لو توفرت الامكانات المادية..
الفكر هو الاستراتيجية، والسياسة هي التكتيك.. الفكر يضع الخطة على ضوء الأهداف النهائية الثابتة، والسياسة تتحرك اعتمادًا على الأساليب والوسائل المتغيرة كي تبلغ تلك الأهداف.
الفكر بوصلة السياسة، والسياسة آلة الفكر.