فتحي رشيد
من الناحية الجغرافية والتاريخية والبشرية يعتبر لبنان جزءا من الخارطة البنيوية للمنطقة المعروفة بالعربية .لهذا فإن جميع الأقليات التي سكنت هذا الجزء من الجغرافيا حتى عام 1832كانت تخضع للأحكام التي كانت تخضع لها الأقليات والأكثريات الأخرى في بلاد الشام والعراق .والقائمة على مبدأ الملة الذي فرضه الأتراك العثمانيين على البلاد التي سيطروا عليها منذ بداية القرن السادس عشر حتى بداية القرن التاسع عشر .لذا لم تظهر المسألة اللبنانية ومن الخطأ النظر إليها إلا باعتبارها جزءاً من (أو في سياق ) المسألة السورية التي تعتبربدورها جزءا من المسألة الشرقية التي ظهرت على إثر تفكك وتحلل الدولة العثمانية وصعود الدول الاستعمارية والحركة الصهيونية بدءا من القرن التاسع عشر ,أثناء سعيها للحلول مكانها في تلك الأمبراطورية المترامية الأطراف .لذا لايمكن لمن يريد التصدي لها أو معالجتها مقدمة لوضع حلول لها دون أن يحيط بالمسائل التي تمخضت عن الجذور التاريخية والسياسية لتك المسائل . لذلك أعتقد أنه سوف يصعب التوصل إلى حل سريع أو قاطع ونهائي لها ,كون حلها لايرتبط برؤيتنا نحن فقط , بل بالحلول المقدمة لقضايا أخرى تتداخل فيها تؤثر وتتأثربها ,مواقف قوى ودول كثيرة .لهذا ارى أن تفكيك هذه المسألة إلى عدة قضايا وتحليلها منفردة , يعتبر من الناحية المنهجية خطوة أساسية أو أولية نستطيع بعدها القيام بعملية تركيب لها بما يمكننا من بناء تصور عام لحل شامل أو عدة حلول.والأصح خارطة طريق .لحل متحرك .أي قابل للتطوير والتعديل والتغيير كما جرى ويجري في الواقع .
وبما أن أساس المسألة اللبنانية المستجدة ظهرت كمسألة دولية وإقليمية ومحلية بعد الحرب الأهلية التي وقعت في جبل لبنان عام 1840 ـ 1841.فإن هذا يتطلب إحاطة شاملة بالظروف التاريخية والسياسية التي مرت بها المنطقة اوالعالم قبل وأثناء ظهور اسم لبنان على مسرح السياسة الدولية والإقليمية ومن ثم ظهور مصطلح جبل وشعب لبنان .لذا يصبح من الضروري بداية تقديم موجزتاريخي يفسر ما حصل وما جعل لبنان كصيغة تصبح مستقلة أومتميزة عن المسألة السورية أوتحمل أو تتميز بسمات وملامح خاصة .
جذور المسألة اللبنانية :
لن نذهب بعيدا في التاريخ لماقبل عام 1832 وإن كنا لايمكن أن نتجاهل أن ماظهر في تلك البقعة الجغرافية الضيقة والتي لاتتجاوزمساحتها 3500 كم لايمكن فصله عن التاريخ السابق لها ولا عن الناس التي سكنتها .والتي تعود لبداية التاريخ أو على الأقل لعام 1400ق .م واستنادا لما كتبه المؤرخ اللبناني “فيلييب حتي “والتي بدأت مع ظهورأثنية عرفت بال “فينيقيية” .ماجعل سكان هذه البقعة من العالم يتميزون بروح المغامرة والفتح والتوسع في البلدان المطلة على البحر الأبيض المتوسط أكثر من غيرهم .لكنها رغم تراجعها بعد خمسمائة عام ,فإنها اتخذت أشكالا أخرى في ظل ظهور امبراطوريات أخرى قوية في المنطقة بدءا بالأراميين والمصريين والأشوريين ومن ثم الفرس واليونانيين والرومان ومن ثم لحكم أو سيطرة سكان شبه جزيرة العرب بدءا من عام 638 م مع تميزخاص برفض الخضوع المطلق لهم (كغيرهم من السكان ).لذلك سموا بالجراجمة أوالمردة .وظل الأمر كذلك حتى الاحتلال المصري لسوريا عام 1832 حيث عاد التميز.
بداية ظهور المسألة اللبنانية :
بعد فشل حملة نابليون على مصر عام 1800,وهزيمة الإنكليزعام 1802 استطاعت مصر في عهد محمد علي باشا ( الألباني ) عام 1805 البدء بحركة نهضة جديدة كليا سعى إلى تعميمها على الوطن العربي كله .جعلت ابنه ابراهيم باشا (بدعم من فرنسا عام 1832 ) يتمكن من احتلال سوريا ( ومن ضمنها لبنان وفلسطين ) لنشر تلك النهضة ,ولأن يغير من البنية السياسية القائمة على قانون الملة العثماني .حيث أعطى لليهود والمسيحيين في سوريا حقوقا مساوية لحقوق المسلمين .مما أتاح المجال للفلاحين المسيحيين الفقراء في جبل لبنان من إقصاء سلطة الإقطاعيين الدروز .وهذا ماكان سببا في نشوب حرب أهلية بين المسيحيين والدروز الذين سعوا عام 1840 بعد خروج قوات ابراهيم باشا إلى استعادة مافقدوه لذا نشأت حرب أهلية ,بل مذابح مروعة طالت المسيحيين .مما خلق لديهم ميلا للغرب المسيحي ولتقبل أو طلب حمايته .
وبما أن الصلات الدينية والإثنية بين المسيحيين والأوربيين لم تنقطع بعدهزيمة الصلبيين عام 1298م فلقد وجد الأوربيين كقوة صاعدة ,في تلك الحرب مجالا للتدخل بحجة حماية أخوانهم في الدين (المسيحيين ) فطرح المستشار النمساوي الفذ ” مترنيخ “عام 1843 حلا لقي قبول من السطان العثماني عرف بنظام القائم مقامتين .واحدة للدروز وأخرى للمسيحيين .لكن بسبب التداخل بين تلك سكان الإثنتين وبسبب التنافس على الأرض والسلطة نشأت حرب عام 1848 تلتها ثانية عام 1860 (امتدت إلى دمشق )مما استدعى التدخلات الخارجية من جديد لوقف المجازر الحاصلة .فاستعان المسيحيين بالفرنسيين في حين استعان زعماء الدروزبالإنكليز .وهكذا فرض على منطقة جبل لبنان (بالتوافق بين الدول الأوربية والدولة العثمانية ) نظام خاص أطلق عليه نظام “متصرفية جبل لبنان “. وهكذا أصبح لبنان من يومها مدخلا للدول الأوربية الأخرى(النمسا وبروسيا وروسيا ) لتوجد كل منها نفوذا خاصا بها في لبنان تتخذ منه منطلقا وقاعدة للتمدد في المنطقة الخاضعة للهيمنة العثمانية .من خلال زعم حمايتها لأحد الأقليات ( سابقا الملل )وهذا ماكان سببا في بناء المدارس والمشافي والجمعيات والمصارف والقنصليات التجارية , لكسب موالين لهم .وكان هذا سببا في نشوء نهضة في جبل لبنان (متصرفية جبل لبنان التي حكمها أول مرة أرمني تركي ) جعلته محل حسد من يحيطون به وهذا ماجعل المسلمين (الشيعة والمسلمين في الجنوب وطرابلس والبقاع وبيروت يقبلون بعد ثمانين عاما , يقبلون الإنضواء تحت لواء ما أطلق عليه غورو(جبل لبنان الكبير ) .وإن كان ذلك تحت قيادة المسيحيين وفرنسا بسبب الإنجازات الكبيرة التي احدثتها في لبنان لم يسبق لبلدعربي أن شهد مثيلا لها مثل السكك الحديدية والتراموي والكهرباء ومد أنابيب المياة إلى البيوت وبناء المدارس والمشافي وصناعة الحرير وإقامة المصارف وتجارة الترانزيت ..إلخ .وهو ماجعل الوضع في لبنان منذ ذلك التاريخ مستقرا بل ومزدهرا ماأتاح للبنان أن يكون أول بلد عربي يحصل على استقلاله السياسي عام 1943. وكان سببا للتوافق بين زعماء المسلمين والمسيحيين على صياغة ما سمى “الميثاق الوطني اللبناني ” بما يتيح لهم التعايش في لبنان منفصل عن سوريا والعرب وموالي للغرب شريطة ألا يكون أو يصبح ممرا أو موقعا للتآمر على سوريا . وهذا ماأتاح للبنان النهوض والتطور ,ولأن يكون ويصبح منارة للحرية والتقدم والرفاه في المنطقة من جهة .لكنه من جهة أخرى خلق وضعا قلقا ومتفجرا في لبنان والمنطقة.
إشكالية الهوية الوطنية :
باعتبار مفهوم الهوية بحد ذاته مفهوم حديث أو طارئ على الثقافة لذا فهو مفهوم ملتبس وشائك حيث يمكن للبعض أن يركزعلى عدد من الصفات الشخصية الفردانية المشتركة بين مجموعة كبيرة أو صغيرة من الأفراد تجعلهم يعتبرون أنفسهم مكونا جمعيا واحدا يستند على تصور وجود مشتركات بيولوجية أوإثنية أو ثقافية أو ايديولوجية دينية أومذهبية أو قومية أو وطنية جامعة دون وجود مادي لها .
وبما أن مفهوم الدولة القومية ومن ثم الوطنية بدأ يتفكك ويتحلل في نطاق العولمة الحالية لصالح مفهوم أعم مثل العالمية والكونية والإنسانية والأممية .فإن الهوية القومية والوطنية يكاد يصبح في هذا العالم من الماضي ,والتعلق به نوعا من الفولكور والعبث وإضاعة الوقت .
ونحن إذ نبحث في الهوية الوطنية اللبنانية علينا أن نؤكد على أنها باتت حاليا ( حسب تصوري ) تحتوي ـ بالرغم من ذاتيتها المفرطة ـ على طابع عالمي وقومي وطائفي ( أكثر من الديني والفكري ) مما جعل ويجعل من مفهوم الهوية الوطنية اللبنانية في أطار مساحة جغرافية لبنان الضيقة يتنافر مع الإطار القومي والعالمي الذي يميز لبنان عن غيره من الدول العربية وحتى عن بقية دول العالم , بسبب تاريخه الطويل في الانفتاح على العالم خاصة الغربي وبسبب تنوعه الإثني والثقافي والديني والمذهبي ومن ثم انفتاحه على الغرب قبل غيره ,وبسبب هجرة ابناءه في شتى أصقاع الأرض وتأثرهم بثقافات متعددة ما يجعل من التمسك بالصفة الوطنية للبنانيين من جهة مدعاة للفخروالإعتزاز . وفي ذات الوقت مدعاة للتوتر والقلق .
التنوع الإثني للبنانيين :
كثيرا من اللبنانيين يعتقدون أنهم لبنانيين ـ مع أن أكثر من نصفهم لم يصبحوا كذلك إلا بعدعام 1920 (عندما وسع الجنرال “غورو” مساحة جبل لبنان لتضم مناطق تعادل ضعفي مساحة الجبل 3500 كم ) الجنوب والبقاع وطرابلس وعكار (اصبح عشرة آلاف ونيف كم )كان يسكنها أناس يتبعون إداريا لسوريا أوفلسطين يزيدون عن سكان الجبل القدامى بمقدار الضعف ) وراح بعضعهم يعتبرون أنفسهم فينيقيين ويتمسكون بمفهوم اللبننة الطارئ .
ونحن إذا دققنا في المسالة من الناحية الجينية حسب ماقدمته خرائط علم الجينولوجيا (راجع ماقدمه مركز مايو كلينك عن التركيبة الجينية لسكان بعض البلدان العربية) .فإننا سنجد أن وجود جينات مميزة لمن يطلقون على أنفسهم اليوم اسم لبنانيون ,ويزعمون أن أجدادهم فينيقيين .أمر لاوجود علمي له أساسا حيث ثبت أن من كان من يسمون الفينيقيين هم خليط مكون من مجموعات جينية عديدة (كانت تسمى كنعانية أوأرامية أوحثية أو صقيلية وكريتية ) .فكيف يمكن أن يكونوا موحدين جينيا بعد كل مامر على لبنان خلال أكثر من ثلاثة آلاف عام من غزوات بابلية وفارسية وأذرية ويونانية ورومانية وصقيلية ومغولية وتترية وتركية وفرنسية (فرنجة ) ومن عرب الحجاز وشبه الجزيرة العربية واليمن ومصر وشمال أفريقيا .لذا اعتقد أنه لامجال للافتخار أوللتمسك لابمفهوم الفينيقية أوالسريانية أو العربية ولا حتى باللبننة كهوية تتميز بصفات معينة . فالكل يعرفون أن أغلب الموارنة والدروزأساس سكان جبل لبنان لم يستقروا في الجبل إلا مابين الفين إلى ألف سنة فقط . بعدهجرات تمت من انطاكيا الرومية والأرمنية أومن حلب أو من مصرالفاطمية ,أولاحقا من اليمن أو الحجاز أو من تركيا ومصر وسوريا وجبل حوران حيث يعرف الجميع أن أصول كثير من العائلات اللبنانية الشهيرة والمعروفة والمتحكمة تعود لأجداد قدموا من مصر أوسوريا (جبل الدروز وحوران ووادي النصارى وفلسطين ) بعد التوسع الصهيوني في فلسطين منذ مئة سنة أوأكثرقليلا .
أما أذا دققنا في المسألة من ناحية الإثنية الثقافية فإننا نجد تنوعا هائلا جدا لاوجود له في أي بلد في العالم . حيث نجد لدى من يتبنون المسيحية عشرات المذاهب والملل ,كذلك من يزعمون أنهم مسلمين . هذا عدا عن من بات من غير العرب يتبنى الفكر القومي ,أوالقومي السوري أوالوطني اللبناني أوالفكرالليبرالي والرأسمالي والأممي والاشتركي , وعدى من تخلوا عن كل الانتماءات السابقة .
لذا اعتقد أنه لاداعي ولامبرر لكل من حمل الجنسية اللبنانية لأن يعتد باي أصل أونسب أو بقدمه أو الاعتماد عليه لتبرير أحقيته في السيادة أوالهيمنة على غيره , أوللتمسك بأي منصب استنادا لأصل أوللدين أوالمذهب أوالطائفة أو القومية .لهذا على الجميع .(جميع من سكن هذه المنطقة الجغرافية غير المحددة حتى الآن بدقة ) حيث لاوجود لحدود مرسومة أومتفق عليها حتى الآن بين لبنان وسوريا وفلسطين حسب مايؤكد الدكتور ياسين زكريا في رسالة الدكتوراة التي حصل عليها من باريس عام 1950 بعنوان ” الحدود السورية من الناحية القانونية والسياسية والتاريخية ” . كذلك بسبب تنقل كثير من الناس بين البلدين ,وحمل كثير منهم جنسية مزدوجة بعضها أجنبية ويحملون ولاءات ثنائية .
انطلاقا من كل ماسبق أرى :أن نقطة الانطلاق في حل المسألة اللبنانية تبدأ من حل مسألة الهوية . بالعمل على تلافي عصاب التميزوالانفراد فهذا العصاب هو الذي يخلق التباعد والتنافر والتوتر والقلق والصراعات غير المبررة بين من هم مرغمين على التعاون والتعيش كأخوة لذا يفترض أن يتخلى اللبنانيين كما السوريين وغيرهم ,عن الاعتداد بهذه العنتريات (التفوق ) الفردية أو الجمعية الهوائية (والتي هي أقلاوية ) والتي لاأساس بيولوجي أو ثقافي لها .وأن يتباروا بالعلم والعمل والإبداع مع التواضع الشخصي ويرتفعوا بالكبرياء الإنساني والعيش الكريم (اوبحرية وكرامة ) وهو ما يتحلى به الإنسان المفكر ,والذي به يفترض أن يفتخروا ويرفعوا رؤوسهم به لا بانتمائهم لطوائف وإثنيات فرضت عليهم .وعلى جميع من قبلوا أن يحصروا أنفسهم ضمن هذا النطاق الجغرافي الضيق الذي رسمه “غورو” وحملوا نتيجة لظروف تاريخية معينة جنسيته .إضافة لمن أرغموا على الهجرة أو على الانتشارفي دنيا الله الواسعة في جميع بقاع الأرض .أن يعتبروا أنفسم مواطنين متساوين أمام القانون والقضاء ـ في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الأصل أوالمنشأ او اللغة أوالقومية أوالدين أوالمذهب أو الطائفة أو اللون أوالجنس أو المركز .
واختم بالقول أن العمل على إقامة دولة مدنية على أساس المواطنة للجميع بعيدا عن الدين والإثنية والطائفة يعتبر أكبر تحدي للكيان الصهيوني الذي يسعى إلى إقامة دولة على أساس ديني ـ إثني .وبأن النجاح في تحقيقة يشكل وحده أكبر تهديدا له ,أخطر وأهم من السلاح .