هي معادلة صعبة ولا شك أن ترسم أولوياتك بين الحق والواجب. وأن تتقن مهارة الموازنة والتنقل بينهما بعيدًا عن أنانية أو شهوة أو ميل. ربما بداية علينا أن نشرح مفهوم الحق والواجب هنا. هو يعني كل حق لفرد على فرد آخر أو مجتمع أو حكومة أو الإنسانية وترسمه الشرائع والقوانين. كذا الواجب. هو ما يفرض على كل شخص بعينه تجاه شخص آخر أو مجتمع أو دولة أو حتى الإنسانية بمجملها، وينبع من الذات أو يفرضه العرف أو القانون.
وكثيراً ما يختلط الأمر ويتداخل عند ضياع الحدود بين الحق الفعلي والحق المدعى، وهذا ما يسري أيضاً على مفهوم الواجب. ففرق كبير بين حقك في منصب لا تملكه مثل نظرائك، وحقك في منصبك الذي تتسنمه فعلاً نتيجة علم أو ضرورة أو حتى حتمية ما. وكذلك الفرق يوجد بين واجب تستشعره في دواخلك ويحثك عليه ضميرك، ويمليه عليك انتماؤك كواجب قتال الأعداء الغزاة، وبين واجب يملى عليك وتجبر على اعتناقه كفكرة وتؤديه سلوكاً وفعلاً مرغماً، كواجب قتال المخالف لرئيس دولتك أو حكومتك، ولو كان هذا المخالف على حق.
والحق حقان: حق لك وحق عليك. فحقك الذي لك يمنحك إياه علمك أو منزلتك أو خبرتك أو خلقك أو، وهنا الخطورة تكمن، الصدفة. وينقلب الحق الذي لك ليصبح عليك عندما لا تكون أهلاً لهذا الحق، أو عندما يصبح للآخر. وهنا ينقلب الحق من لك إلى له كونك تؤذيه وتضره بجهلك أو تقصيرك أو انتفاء الدراية لديك. ولكن، ماهية هذا الجهل أو التقصير تحدده جهة مسؤولة ولديها الكفاية العلمية والخلقية والإدراكية لتقرر سلبك ما تعتبره حقك. وهذا دور القانون والتشريع.
وهنا يتقاطع الحق مع الواجب. فالواجب الذي لك أن تدفع الحجة بالحجة والادعاء بالبينة على أهليتك لما هو حقك. ويصبح واجب عليك أن تعترف بقصورك أو تقصيرك في حال ثبوت الأمر بالأدلة والحجج، وأن تقرر التنازل عنه لما فيه المصلحة العامة.
عند هذا التقاطع بين الحق والواجب تقبع المنظومة الأخلاقية الحاكمة للفرد والموجهة للسلوك والتوجه والقصد. فإن كانت هذه المنظومة مبنية بشكل سليم ويدعمها فكر واضح مستنير، عندها سيستطيع المرء المتمتع بهاتين البنيتين التمييز بين ما له وما عليه من حقوق وواجبات، وأيضاً الاعتراف بقدرته على القيام بما حق له من عدمه. ولا يدخل التعفف هنا كعامل فيصل، بل هو قرار نابع عن خوف أو زهد أو تربص، وله تأثيره ويمكن التعامل معه.
فإن أسقطنا هذا الكلام على واقع الحال لكثيرين ممن تسنموا مناصب يمكن أن تقلب الحق باطلاً والباطل حقاً، أو اختارتهم الصدفة للعب أدوار مؤثرة في مجريات الأحداث، سنجد، بتتبع وتحليل نتائج ما قرروا له وتبعات ما واطؤوا عليه، أن السواد الأعظم يفتقد إلى هذه المنطقة في منظومته النفسية. وهذا يعني أن المنظومة الخلقية لديه تعاني من تشوه أو ضمور، وكذلك الرديف الفكري لها. ولذلك نجده مستعداً لتعطيل أي إنجاز ليس له، وإنكار أي فتح لا يد له فيه، وغمط أي حق لا علاقة له به. وهذا ليس من باب الحسد بقدر ما هو من باب الكبر والجهل.
ولهذا استشكل الحق عندهم، بين لي وعلي، وضمر الواجب لديهم بليه وعليه، فترى الهوى يسوقهم والتكبر يسوسهم ليبلغوا أدنى الدرجات وأذل التركات ولكنهم يحسبونه إنجازاً لهم، فيفاخروا بما وصلوا إليه من درك ويباهوا به، كإنجاز الأسد في تمثيلية تشرين. وهو حال معظم القادة العرب.
فإذا ما عدنا إلى الناس الأسوياء، خلقاً وفكراً وبصيرة وانتماء، نجدهم، كما قلنا، يرسمون حدود ما لهم وما عليهم بأنفسهم، وبوحي من ضمير، وبهدي من المصلحة العامة. وهؤلاء لما نجدهم يتقلدون المناصب ويديرون شؤون الدول وأحوالها يصلون بها إلى أعلى الرتب، وعندما تنفد الأفكار ينسحبون لصالح غيرهم، غيرة على بلدانهم وشعوبهم، أو حتى مؤسساتهم وجمعياتهم. وعلى تاريخهم أيضاً. وهذا ما لم نره في واقعنا بعد سبع سنوات من الثورة، وثلاث سنوات من الانتكاسات السياسية والعسكرية المتتالية، وثلاثين سنة من المقاومة والممانعة المضللتين، وخمسين سنة من حكم البعث الطائفي.
هؤلاء، اعتبروا المنصب حقاً لهم، والواجب الأول لهم هو الحفاظ عليه، لا القيام بمهماته. وهكذا انعدم الحس لديهم بالمصلحة العامة لأنها تداخلت وتوحدت مع المصلحة الشخصية. واعتماداُ على مقولة ” ليس بالإمكان أفضل مما كان “، برروا لأنفسهم ما جنت أيديهم من انتكاسات وتراجعات. وكلما زادت الهزائم ازدادوا تشبثاً بما يعتبرونه حقاً لهم، ورفعوا السدود في وجه من له حق عليهم أو حق منهم. فاتسعت الشقة بينهم وبين من يدعون تمثيله بعد اغتصابهم حقه عليهم، وتجاهلهم لواجبهم تجاهه. وهذا ينطبق على وضع ما يسمى المعارضة السورية حالياً.
طالما بقيت هذه الشرذمة على غيها، بات حقاً لمن غبنوا أن يطالبوهم بالتنحي، ودفع الأمر إلى أهله وإلا، بقي الحال مراوحة بين زيغ الحق وضبابية الواجب، ليستمر التيه على ما هو عليه. هم مطالبون بتغليب الواجب على الحق المدعى. والآخرون، أي ضحاياهم، مطالبون بإعلاء صوت حقهم لتغيير الأمر الواقع. والصدام واقع لا محالة ما إن يلملم الوعي ما تناثر من توازنه على طريق الألم نتيجة لا معقولية البطش، ويبدأ البحث في سبل الخلاص وهدهدة الجراح.