ضمن واقع عربي وإسلامي بائس، ومتخلخل البنيان، وفي سياق التشظي الكبير الحاصل في ثنايا الكيانات العربية والإسلامية عامة، وفي غياب مشروع عربي أو إسلامي ناجز ومتماسك، ويمتلك القدرة على المواجهة، كان واضحًا أن الإدارة الأميركية الجديدة مع دونالد ترامب، يمكن أن تتنطح لمشاريع جديدة في المنطقة العربية، وخاصة في سورية وفلسطين، حيث لا أحد بإمكانه المواجهة، بل يعجز الجميع عن القيام بأي خطوة جدية قد تساهم في إعادة القرار الأميركي إلى ما قبل مربعه الأول.
النظام العربي الرسمي غارق في مشاكله الداخلية، والجامعة العربية لا قدرة لها على انجاز أي توافق قادر على تغيير أية ملامح في آن ومستقبل الأمة، بل إن الانشغال الأكبر اليوم للعديد من الأنظمة العربية، أصبح في ذاك الخطر الكبير القادم (بعجالة) من بلاد فارس، من حيث يتقدم هذا المشروع الطائفي باتجاه المنطقة برمتها، وقد بات يشكل الخطر الأبرز، بعد أن دخل في خارطة اليمن وقبلها في سورية، ولبنان، والعراق، وكذلك البحرين، ويتشوف إلى ما هو أبعد من ذلك، عبر مشاريع مزمعة في الخليج العربي ودوله، وأيضًا في مصر، المتهالكة مع نظام السيسي، والذي لا تخفى أوضاعه على أحد.
الواقع أنه وضمن كل هذه المفاعيل وجد دونالد ترامب أن الساعة مناسبة ، لإنجاز وعده الانتخابي بنقل السفارة إلى القدس، وسط صمت عربي ودولي، وضمن حاجته الماسة الداخلية، إبان العديد من الإشكالات الداخلية الأميركية التي تتهدد مصيره في بعض الحالات، فكان هذا القرار خطوة متقدمة ومهمة لسحب اللوبي الصهيوني المتمدد في أميركا، كي يقف بقوة إلى جانبه في معاركه الداخلية الحالية والقادمة، ضد من يرفضه أصلًا في الإدارة الأميركية، ومن أجل لجم كل القضايا التي تحرك ضده، وهو المتهور أصلًا وأساسًا، وإذا كان ترامب اليوم مشغولًا بوضعه الداخلي، إلا أنه على استعداد لأن يتخذ إجراءات تساهم في منع تقويض إدارته، وبالتالي الوصول الى أربع سنوات هادئة في الحكم، وقادرة على إنجاز مشاريعه الداخلية والخارجية النفعية البراغماتية، التي تتواكب مع الاستراتيجيا الأميركية المتنطحة اليوم أكثر من أي وقت مضى، لقيادة العالم وفق أسس مصلحية تجارية، دأب ترامب دائمًا على إظهار نفسه فيها على أنه التاجر الأميركي الأكثر خبرة عملية.
والمشكلة الأساس أن الضعف العربي، والتخاذل الرسمي العربي والإسلامي، وغياب المشروع الممكن، وتفتت القوى الوطنية العربية، واستغراقها في مشاكلها الداخلية أو البينية، ساهم ويساهم في عدم القدرة على المضي في أي تصدي حقيقي لهذا القرار وتبعاته على الواقع الفلسطيني والعربي، ولعل الإمكانية الوحيدة التي مازالت من ممتلكات الشارع العربي، أو الفلسطيني على وجه الخصوص، هي تحريك الشعب المنتفض، والاستمرار الشعبي وليس الرسمي في وضع المشكلة على الطاولة، وعدم السماح بإنجاز الخطوة الأميركية الخطيرة، التي من الممكن أن تتبعها خطوات وخطوات من دول أخرى تابعة للإدارة الأميركية، والشارع الفلسطيني المنتفض اليوم هو القادر وفقط هو، على تغيير الواقع، وهو المعول عليه، من أجل إقلاق الأميركان والصهاينة، على المضي في قراراتهم هذه، وتبيان حجم التضحيات الممكنة والجاهزة شعبيًا، لعرقلة هذا القرار إن لم يكن إلغاءه، وما يقال اليوم عن إمكانية الطلب إلى السلطة الفلسطينية لإلغاء كل اتفاق أوسلو وما جاء به وبعده، ومن ثم قلب الطاولة بكليتها، لا يبدو أنه قابلًا للتطبيق، ولا يبدو أنه ممكن بالأساس، لأن السلطة الفلسطينية اليوم ، وبعد الراحل ياسر عرفات ليس بمقدورها فعل أي شيء، بل ليس من تصوراتها، إلغاء هذا المنجز، حيث تعتبره كذلك، وهو من جعل بعض شخوصها اليوم قادة مفترضين، بعد استشهاد القادة الحقيقيين، وتغييب الآخرين في سجون الاحتلال، منذ عشرات السنين. السلطة الفلسطينية اليوم غير قادرة على القيام بأي حركة قد تودي بسلطة أوسلو، وهي أيضًا لن تسمح بذلك، فيما لو حاول بعض الفلسطينيين الثوريين، أو المناضلين الحقيقيين القيام به. إن ما آلت إليه أوضاع الشعب الفلسطيني، بعد أوسلو، وما عاشته القضية الفلسطينية عمومًا بعد أوسلو، ليست بالأمر السهل، وليس الواقع الثوري الفلسطيني هو نفسه واقعها يوم كانت بقيادة أبو عمار، يوم كانت البندقية مشرعة، والقوى الفلسطينية ماثلة وواقفة، حيث ساهمت منذ تلك الفترة وحتى الآن الكثير من الأنظمة العربية، في تخريب الواقع الفلسطيني، وليس بعيد عنا ما فعله ومازال، النظام السوري المجرم بحق شعبه وبحق الشعب الفلسطيني البطل، وما جنَّد من خلاله العملاء السفلة، وأدواته الإجرامية، التي عملت ما عملته تخريبًا وتفتيتًا وإجرامًا في الساحة الفلسطينية، أمثال أحمد جبريل وجماعته، وبعض المرتزقة الذين مازالوا يقتلون بشعبهم الفلسطيني في مخيمات سورية، خدمة للمجرم الأكبر بشار الأسد.
إن قرار ترامب اليوم، يحتاج منا جميعًا، الوقوف وبحزم وجدية (كشعوب) من أجل دعم انتفاضة الشعب الفلسطيني، وليس خارج السياق القول أن أي خطوة ، على طريق كنس الأنظمة الدكتاتورية، وإنهاء حالة الاستبداد المشرقي المستشري، هي خطوة أكيدة، وضرورية على طريق القدس ومن أجل القدس، فمعركة القدس تبدأ بكنس الاستبداد وأدواته من ميليشيات طائفية، كحزب الله وكل الميليشيات الطائفية الأخرى التي استقدمتها إيران لدعم الطاغية، وأي خطوة على طريق إنهاء الاستبداد الأسدي اليوم، هي إنجاز مهم من أجل فلسطين كل فلسطين، وليس هناك أكثر تفريطًا بقضية القدس من هذا النظام السوري الأسدي الذي قتل ومازال خيرة أبناء فلسطين، وخيرة أبناء سورية، من أجل استمراره كنظام طائفي بدور وظيفي يخدم المشاريع الخارجية، من مشاريع الإدارات الأميركية المتعاقبة، إلى مشروع الكيان الصهيوني، إلى المشروع الروسي، وبالضرورة المشروع الإيراني الصفوي الذي يريد أن يطال المنطقة بمجملها.
وإذا كانت القدس عروس عروبتنا وعروس إسلامنا، وعروس نخوتنا، فهل نحن بالفعل(مازلنا) منتخون، وعلى قدر المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقنا، كشعوب أولًا، وكقوى حرة وطنية قبل أن تكون أنظمة متهالكة، ومتكورة حول مشاريعها المصلحية ليس إلا؟!