دلال البزري
ثمّة علاقة غير متناسقة، غير متوازنة، بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية. الأولى هي صاحبة الهيمنة القديمة على العالم، ومالكة أقوى سلاحه، ينتشر جنودها في البحر والبرّ، ولبعضهم قواعد موروثة عن الحقبة “الذهبية”، نهاية الحرب العالمية الأولى. وهي في مرحلةٍ من الأفول أيضاً، مع صعود هيمناتٍ أخرى. ما زالت تدعم إسرائيل؛ وإن خفَّفت أخيرا من “عضوية” العلاقة التي أقامتها معها، عقب تأسيسها. ولهذه الأولى أيضاً خطاب “ديمقراطي”، لطيفٌ ومطمئنٌ أحياناً، وإنْ كان يتسم بالميوعة البالغة، وغالباً التناقض. وأخيرا، بدأت تخسر من مصداقيتها، مع حلفائها بالذات، نظراً إلى مزاجية مواقفها، وتقلُّب ما تراه أنها مصلحتها. “أيديولوجيتها الديمقراطية”، لا هي متعصّبة لها، ولا هي ناشطةٌ من أجل ترويجها، وإهداء البشرية اليها. هي إذن غير آبهة، لا بالحقوق الفلسطينية، ولا بحق الشعوب العربية بالحرية.
الثانية، إيران، جمهورية إسلامية، يحكُمها الدين ورجاله بقبضة من حديد. منذ أربعة عقود وهي تحيك سجادة هيمنتها الجديدة على المشرق العربي، فنجحت إلا في الأردن. أنشأت تنظيماتٍ ونسجت تحالفاتٍ، شعبية، رسمية، “شرعية”، مع من وجدته مفيداً ومؤهلاً في حمْل رايتها. استطاعت أن تخرق دول هذا المشرق، بالطائفة الشيعية خصوصاً، وتحوّل كل ديناميكيتها، وعلى امتداد عقود، إلى ما يشبه جيشها غير الرسمي، الذي يعمل بتوجهاتها، وعلناً. ليست إيران دولة عظمى، تخيف الولايات المتحدة بسلاحها. ولكنها قوية، مستحكمة، منهجية، طويلة النَفَس. ميدانياً، صنعت رجالاً على قدرٍ جسيم من التبعية لها؛ ولاءٌ يعتزون به، يستقوون به.
وما تعتقد إيران إنه جوهرتها المكْنونة هي تلك الفكرة العبقرية الحاجبة لجموحها نحو السيطرة على هذا المشرق: وآيتها أنها تخوض حرباً مقدّسة، تحت رايات ربانية، ضد الإمبريالية والصهيونية. فتدخل هكذا إلى القلوب التي تعبت من توالي الهزائم العربية بوجه إسرائيل، وإخفاق السلام معها. وهي الآن في حالة اشتباكٍ مع الأولى، الولايات المتحدة، وربما حرب، من يعلم… حول الهيمنة على المنطقة. وكلاهما لا يبدو مهموماً بجوانب هذه الحرب، بمدنييهم، أو أرزاقهم أو عمرانهم، فبحسب كل المجريات، لا الكباش بين الإيرانيين والأميركيين، ولا الحرب بينهما، سوف يحصلان في ديارهما. إنما في ديار أولئك العرب المشرقيين، الذين هم نحن.
قاسم سليماني هو الذي نظّم هذه الحرب على أرضنا، هو “مهندس” تلك العلاقة الراسخة بين القيادة الإيرانية وما بات معروفاً باسم “أذرعها الخارجية”. خرج الرجل إلى الضوء منذ ما يقارب العقد، أي منذ اندلاع الثورة السورية. ترافق اسمه مع مخططات إيرانية رسمية، وتوجيهات وجولات ميدانية، غايتها كلها حماية عرش بشار الأسد، عبر قتل السوريين وتدمير معاشهم وتشريدهم. وشعاره وقتها أنه يتصدى لمؤامرات الصهيونية والإمبريالية (لم ينجح هذا “التصدّي” كما يُفترض، فلجأت إيران إلى روسيا..).
ومع أن قوات سليماني وقوات أذرعه كانت قد بلغت حدود الجولان، إلا أنه لم يعطِ الأوامر بإشعال تلك الحرب التي يرطن بها إعلامه التابع، ليل نهار، وذلك على الرغم من الضربات الإسرائيلية لمخازنه وثكناته وقوافله المسلحة على امتداد السنوات الأخيرة. والأرجح أن إمساكه هذا يعود إلى حساباتٍ لا علاقة لها بمحاربة الصهيونية، إنما بتوطيد دعائم بشار الأسد، وإخضاعه؛ هو الذي ورث نظاماً لم يحارب إسرائيل إلا في أدبيّاته؛ بل الذي صعد إلى السلطة إثر هزيمة بوجهها.
كانت سورية بداية قاسم سليماني؛ على الأقل بداية شهرته. أما نهايته، منذ أيام، على يد خصمه ومنافسه الأميركي، فحصلت أيضا في الظروف المشابهة نفسها. بوجه انتفاضة العراقيين ضد دولتهم المحكومة من إيران، منذ أشهر، أطلق سليماني الأوامر نفسها: النار على المنتفِضين، بما تيسر من وحشية. نظير البراميل المتفجرة التي كان بشار الأسد يلقيها على السوريين بمعيّة رجال سليماني، كانت قنابل المولوتوف المحشوّة التي تطلق على الرأس مباشرة، فتحدث فيه فجوة، تقسمه إلى قطعتين… مئات القتلى، آلاف الجرحى، كانت حصيلة التوجيهات الخاصة لسليماني. ولكن المهم، بأدواتٍ عراقية، تنظيمات عراقية، دينية، مذهبية، تأتمر به. وبالنخْوة ذاتها، كانت أبواقه تردّد ما كرّرته عن ضحاياها السوريين: إننا هنا نحارب الإمبريالية والصهيونية، فيما أنتم مأجورو سفارات، تحيكون المؤامرات ضدنا، نحن أعداء محور الشرّ .. إلخ.
ومرة أخرى، بعد اغتيال سليماني، انطلقت التحليلات والتوقّعات: سوف تحصل حرب، قد لا تحصل حرب، قد تصوغ “قواعد اشتباك جديدة”، أو ضربات مفاجئة، أو هلاكاً آخر يقع بين دائرتي الحرب والسلم، بقواعد اشتباك أو من دونها. ولكن، ولا أي من هذه السيناريوهات يتوقع حدوث هذه الوقائع المحتملة في إيران، أو الولايات المتحدة. كلها تترقّب أن تكون “الأذرع الإيرانية”، هي محرِّكها، أداتها، منفذها. وأين تعيش هذه الأذرع؟ في وسطنا، نحن، أبناء المشرق.
وهذه حقيقة تصدمنا كل مرة. مع أنها قديمة. حقيقة أننا وقود صراع على النفوذ بين إيران وإسرائيل وأميركا، بانتظار صراع قادم بين إيران وروسيا أو الصين أو، أيضاً، أميركا، أو إسرائيل “إذا بقيت على قيد الوجود”، كما تقول البروباغندا الممانِعة.. أيضاً، حقيقة أن بلادنا هي الساحة الأثيرة لإيران التي صرفت دماء قلبها من أجل إعدادها تلك التبعية المأمورة: أولئك الرجال من بيننا، المستعدين للموت وللخراب كرمى بسط النفوذ الإيراني في بلادنا، وتثبيته. أو للعب دور الثورة المضادّة بوجه انتفاضاتٍ شعبية تهزّ “الإنجازات” الإيرانية من أساسها. بتخوين المنتفضين السلميين، وتسخيف أهدافهم، وقتلهم بدم بارد.
قد تكون خسارة قاسم سليماني لا تعوّض، بالنسبة لسياسة إيران التشابكية في مشرقنا، ولنجاحها في خرقه بما توفر لدى قادتها من مخيلةٍ وذكاء. ولكن هذين، المخيلة والذكاء، ما كان لهما أن يعمّرا، لولا فشل العرب في غايتين اثنتين: الفشل في تأسيس دول ما بعد الاستقلال؛ لا قانون ولا مؤسسات ولا حرية ولا كرامة، ولا مواطَنة تحصّن أهلها من خرق، إيراني أو غيره. ما أشعل لهيباً ربيعياً، منذ عشر سنوات، ترتفع ألسِنته وتخبو، مثل الجمر في الرماد. ثم الفشل في تحرير فلسطين، أو استعادة حقوق الفلسطينيين، من احتلال إسرائيلي. على الموجة الأخيرة، فلسطين، لعب الإيرانيون كما لم يفعل أحدٌ ممن تجشّم عناء اللعبة. سليماني أينما ولّى وجهه، كيفما قتلَ وسحَلَ وحرقَ، كانت “وجهته القدس”، كما كان “يفصح” للإعلام، أي أنه عبر “أولويته” المموَّهة، كرّس الأرض السورية، ومن قبلها اللبنانية، ومن بعدها العراقية، واليمنية… ساحة متبلورة ميدانياً لمعركته.
نجح سليماني على أنقاض فشلنا المزدوج. وهذه ليست شطارةً ولا حذقا. إنما بناءٌ على هذا الفشل، وثوراتٌ عليه، فالأنقاض ليست تامة، وما زال ثمّة روح فينا، لا تخشى أن تثور ضد الجميع: ضد الحكام القريبين والبعيدين، المعلنين والمقنَّعين، ضد أميركا وإيران، ضد إسرائيل، وضد محتلين جُدُد مقبلين. “كلّن يعني كلّن…”.
المصدر: العربي الجديد