عمار ديوب
لم تكن سورية ضمن مخططات الرئيس الروسي بوتين للزيارة. كانت وجهته تركيا، ولافتتاح خط الغاز الجديد إلى أوروبا، ومناقشة قضايا تخص البلدين. جاء موت قاسم سليماني، ليقضي بسببه بوتين عدّة ساعات في سورية. الوقت هذا، تكثر فيه الأعياد، والطقس يعدُّ لطيفاً قياساً بروسيا، وهي مناسبةٌ لتفقد الجامع الأموي وبطريركية الروس الأرثوذكس وحارات دمشق القديمة. حط رحاله في مركزٍ للقوات الروسية، ولم يذهب إلى القصر الجمهوري، كما لم يفعل في زيارةٍ سابقة، حينما ذهب إلى قاعدة حميميم. رسالة بوتين في زيارتيه: إن سورية إقليم من أقاليم روسيا وليس أكثر. زيارته الحالية، هي بمثابة إعلان واضح، وللعالم بأكمله، أن سورية ليست مجال تنافسٍ مع الدول، وعلى نظام دمشق بالتحديد أن يفهم ذلك، وعلى هذه الدول التفاوض مع بوتين لترتيب شؤونها ومصالحها في هذا البلد، ومنها بالتأكيد إيران.
سلطة إيران في موقفٍ لا تُحسد عليه؛ فهي مرفوضة إقليمياً وعالمياً وداخلياً، تجدّدت الاحتجاجات الرافضة لنظام ولي الفقيه وحرسه الثوري، وكل ما جنته في سورية مهدّد بالتلاشي، وعنوان ذلك هزال الانتقام لرجلها الثاني، وتصاعد صيحات الانتقام تلك ثم خمودها. دلالة ذلك واضحة، أن إيران انكشفت كما لم تظهر من قبل، حيث صواريخها البالستية رديئة، وقوة مليشياتها لا يهابها أحدٌ، وتحديداً في العراق ولبنان، وبالتالي، ما طالبت به شعوب المنطقة والعالم في طريقه ليتحقق، أي إعادة إيران إلى دولةٍ ضمن حدودها الجغرافية، وضرورة تغيير النظام فيها. التقط بوتين اللحظة هذه جيداً، وأعلن، من دمشق، أن أوهام إيران بالبقاء في سورية ستنتهي، وليس من طريقٍ بريٍّ إلى المتوسط عبر سورية، والدول التي تقصف المواقع العسكرية الإيرانية عند الحدود العراقية السورية ستستمر بذلك؛ الأهم ألّا يستمر النظام السوري بشرعنة وجود إيران في سورية. النظام الذي يحاول معرفة سياسات إيران تجاهه، بعد موت راعيه سليماني، وصلت إليه الرسالة من روسيا، وبالتالي لا فائدة حقيقية من عقليته القديمة في اللعب على الحبلين، وعليه الانصياع للروس فقط؛ هل يفهم الرسالة الروسية جيداً؟
لا يقضي رؤساء الدول أغلب وقتهم في أقاليم دولهم، وليس لديهم الوقت لهذا الأمر من أصله. تتعامل روسيا مع النظام السوري بهذا الشكل؛ فجيشها موجود في كل المدن السورية، وهي تغيّر وتبدّل من تركيبة النظام بكليته وبدءاً بالجيش وأجهزة الأمن، وفي الاقتصاد هناك اتفاقيات ومعاهدات تنظم مصالحها، ودبلوماسياً، هي من تقود المعارك في مواجهة أميركا والعالم، ومنذ 2011. لهذا كله، لم يتعامل بوتين مع النظام كندٍ له، وزار سورية من دون بروتوكول دبلوماسي، وحدّد هو مكان إقامته وأماكن زيارته، وأحاطه جنوده حيثما تحرّك بالأمان؛ بوتين لا يزور سورية، إنه يُلقي الأوامر فيها، ويغادرها سريعاً.
هناك قضية يناقشها السوريون كثيراً: ماذا بقي من النظام السوري؟ لا يعدو أن يكون هذا النظام أداة بيد الروس، والهدف منه: إحكام القمع ونهب بقية الثروة السورية، ومنع تجدّد المظاهرات أو أي حراك مجتمعي قد يرفض الوجود الروسي، وضمن ذلك تضغط روسيا من أجل تحصيل المليارات من النظام، وربما جدّد بوتين ذلك بزيارته الأسبوع الماضي.
أصبح الشعب السوري أمام قضية في غاية التعقيد، فهو أمام احتلال كامل، وأمام دولة لا تعترف بالنظام الاستبدادي الذي يتحكم فيه؛ بوتين بذلك لا يعترف بالنظام ولا بالشعب، وقد همشهما، ويقود طاقمه الدبلوماسي المداولات العالمية بخصوص سورية، ويتعامل مع الأخيرة ضمن سلة قضايا، وليس بشكلٍ مستقل. بوتين محق بذلك، فلماذا سيعزل سورية عن جملة مصالحه العالمية؟ وربما يؤجل التفاوض الحقيقي عليها، ليتمكن أكثر فأكثر في ليبيا ومصر مثلاً، وسواهما، وبذلك يعقد صفقة كبيرة مع أميركا وأوروبا. تركيا وعلى الرغم من خلافها مع روسيا بخصوص ليبيا، وبعض القضايا السورية، هي ليست في خلاف كبير معها، والاثنتان في حاجة متبادلة. أما إيران فتزداد عزلةً وهامشيةً، وتزيد من ذلك كثرة العقوبات عليها وتجدّدها. وبخصوص إسرائيل، فليس من خلافٍ يعتدّ به معها، وعناصر التقارب بينهما كبيرة، أولها، السماح لها بفعل ما تراه مناسباً لأمنها في سورية، وهي لا تتردّد، فتقصف وتدمر وتقتل. أميركا وأوروبا هما الأساس، وعلى مواقفهما تتحدّد مواقف الخليج، وعدا أن الأخير يتقارب تباعاً مع روسيا، وصفقات السلاح تجسد ذلك.
فكرة أخيرة لا يتم تداولها كثيراً بين السوريين، حيث أوضحت أعلاه أن روسيا همّشت النظام والمعارضة، وأن مصالحها ستتحقق في سورية، في ضوء ذلك التهميش والإنهاك الكبيرين للسوريين وغياب استراتيجية وطنية وقوى وطنية فاعلة. وبالتالي، أية صفقة سياسية، ستتضمن الحفاظ على مصالحها وإشرافها على سورية المستقبلية. تتعامل روسيا مع سورية بوصفها إقليما ملحقا بها، وبالتالي الآلية الوحيدة للتعامل معها اعتبارها احتلالا، وتحميلها مسؤولية ما فعله في سورية، ورفض اعتبارها دولةً ضامنة لتحقيق الاستقرار في سورية، كما فعلت المعارضة عبر مسارات روسيا للحل في سورية، أي عبر “أستانة” وخفض التصعيد و”سوتشي” واللجنة الدستورية، والموافقة على دورها العالمي في كل ما يخص الوضع السوري.
هناك سياساتٌ عالمية جديدة، وتُختصر بتنافس الدول العظمى على العالم المتخلف والمهمش. تتحرّك روسيا وفقاً لذلك، وكذلك بقية تلك الدول، وبالتالي يقع على الشعب السوري وبقية الشعوب التي تخضع أو ستخضع لذلك التنافس التفكير جديّاً بمستقبلها، وكيف ستخوض نضالاً وطنياً واجتماعياً، يحقق لها مصالحها ضد أنظمتها وضد تلك الاحتلالات؛ القضية هذه أصبحت مجسّدة بأسوأ الأشكال في سورية، حيث تفكّك النظام، وظهرت قوى مجتمعية تعمل بدورها مع الاحتلالات، وبالتالي أصبح الشعب أمام قضايا مركبة: تبدأ ببقايا النظام، والاحتلالات الخارجية، ولا تنتهي بقوىً مجتمعية متخلفة تتعاون مع تلك الاحتلالات.
يعي قيصر روسيا ذلك، ولهذا يرفض تفكيك بقايا النظام السوري، ويمعن، في الوقت نفسه، في تهميشه وإذلاله، وكذلك يفعل بالمعارضة؛ فهو، بوصفه ممثلا لنظامٍ تسلطيٍّ، يمارس السياسة وهو يخوض الحرب، ويهدّد بها، ويمدُّ نفوذه إلى قطاعاتٍ جديدةٍ من المجتمع السوري، ليفككها ويضبطها في مشروعه لاحتلال سورية وشرعنة ديمومته.
المصدر: العربي الجديد