مصعب عيسى
ربما المضحك المبكي في تصرفات اغلبنا تجاه هذا الفيروس التاجي اننا نصر على مقابلة الموت بالضحكة والنكتة والتهكم ليس غطرسة وغرورا بل لان هذا الصدر اعتاد على اللطم (كما يقول اخوتنا العراقيين).
نحن شعوب تنحدر من بيئة واحدة تقريبا بيئة حكمتها فيروسات فتاكة منذ اكثر من نصف قرن، صنعت من حزنها المكبوت حياة موازية تسير تحت اقدام العسكر وسياط الامن الوطني، أصرت على الحياة لإيمانها المطلق بان الحياة والموت هما فعل الهي وهذه حقيقة شئنا ام ابينا حقيقة يؤمن بها اغلب أطياف الشعب العربي وطوائفه وعلى اختلاف ثقافاته واتجاهاته الفكرية والسياسية (العمر واحد).
فكيف لكورونا العابر للقارات ان يهزم فينا اشتعال هذا التراب الملتهب بالحياة والخصوبة والشبق.
لو فردنا على طاولات ذاكرتنا الملتهبة ما مر بشعوبنا….. لفر كورونا هاربا خشية ما قد يصيبه من ذهول.
هناك فيروسات أكثر وحشية في مجتمعاتنا العربية تفتك بنا ليل نهار تحاول ان تفرغ ارواحنا من ما تبقى من امل.
فيروس الحنين هذا القاتل الصامت وببطء اصابنا منذ ولينا وجوهنا شطر المنافي البعيدة بحثا عن حياة تليق بأحلامنا المبعثرة حين أفرغ رجال البوليس والشرطة السرية وعصابات الجيش الوطني فيروسات حقدهم العقائدي والطائفي والوحشي بوجه زهور الامل التي نبتت ذات ربيع منذ عقد من الزمن.
كيف تحمي نفسك من الحنين سؤال كتبته الكلمة الغائبة والعزف المنفرد على أطلال وطن تحت ركام المجزرة.
كل مختبرات العالم لم تستطع ان تكتشف مضادا حيويا للحنين.. فكيف لنا ان نخشى الكورونا. نحن نحتسي مهدئات موضعية قد تخفف من حمى الحنين …كأن تستمع لموسيقى وترية تعزف ليل غرناطة البائد تستذكر زرياب في احد أروقة قصور الاندلس ..فتسافر مع وتريات الموشح الى حلب او الى ازقة دمشق القديمة فتسير حافيا على طرقات التاريخ تنتشي عبق الياسمين المخضب بالحميمية الدافئة تعرج نحو أبوابها وتدقها بابا بابا وتفتح للاحتمالات مصراع السفر.
تجلس على قارعة طريق يربط بين النوفرة وباب سريجة تحتسي مدامع حزنك المنهمر في فنجان قهوة خالية من السكر لان حلاوة المشهد يغنيك عن أي قطعة سكر …
ثم بعد ساعات تستيقظ من غفوتك وتصاب بالحمى ثانية.. فتلجأ للقلم.
تكتب اسمك مرة ومرتين وثلاثة بلغة الضاد كي تحفظ وصايا الوطن المصاب بالأضداد
ترسم خارطة للحي الذي كنت تسكنه موثقا بكل أسماء جيرانك فردا فردا.. تأخذ مسطرة خشبية او أي أداة لقياس المسافة بين الولادة والرحيل الأخير …ترى ماهي وحدة قياس اللجوء والمنفى؟
سيجيبك الصمت الساكن في فضاء غرفتك: تقاس التغريبة بكمية الحنين الهاطل كل مساء على الورق الأبيض.
لكنك تعلم ان مسافة البعد الفاصل بين اقامتك الحالية في الثلج وبين زقاق مدينتك الأولى يبلغ الاف الكيلومترات لكنك تستسهل تلك الالاف لفرط الألم النازف في صدرك اناء الليل وأطراف النهار.
انت تجيد الوقاية منذ ادرت ظهرك للوطن ووليت وجهك شطر البحر.. اصبحت تتجنب التجمعات خوفا من الانصهار في بوتقة المنفى فتنسى الوطن …
أصبحت تتجنب مصافحة الغرباء كي تحتفظ برائحة التراب البعيد.
لم تقبل أحدا منذ حطت خطاك ارض الغربة.. خشية ان تفقد رائحة العطر الذي اودعتك اياه حبيبتك عند باب الحديقة قبيل الرحيل بدقائق.
تلتزم بيتك ولا تخرج لأنك مسكون بالوحدة.. تقيم على نفسك حجرا طوعيا كي تبقى ذاكرتك ملتهبة خوفا من النسيان.
تقيم على نفسك حجرا صحيا.. مهابة ان تصاب بدوار العالم وقلق الحضارة المرعب تعلم أنك مستباح داخليا بفيروسات غير معدية لذا تستحوذ على روحك مفردات العزلة والذهول كي تبقى وفيا لرائحة الأمكنة والذكريات.
تعاقب نفسك بالاختباء خلف متاريس الكلمات العابرة تخشى ان تفتح نافذتك صباحا كي لا يواجهك فيروس العنصرية القذر فيعكر صفو مزاجك الهادئ.
انت منذ رحلت عن وطن …اعدك اللجوء والخراب لمواجهة كل اوبئة العالم الجسدية والفكرية.. لأنك واثق بالحلم والحلم رفيق الوحدة والغرباء. فكيف لهذا الكورونا ان يرعبك؟؟!!!!