رواد ابراهيم
في لحظةِ اشتباكها الوجوديةِ مع كيانٍ استبداديٍّ مزمنٍ، لا تزالٌ إرادةِ الحقيقةِ في سورية تراوح بينَ زمنينِ متناقضين، بلا بارقة أمل في آخرِ النفقِ، رغمَ أنَّ المحرقَ الدامي للثائرين، يدفعُ باستمرارٍ لمضاعفةِ خطابِ إرادةِ الحقيقةِ، كي تمثلَ ذاتَها بذاتِها، بوصفِهاَ إرادةً إنسانيةً، ترى أنَّ محوَ المخلفات الاستعمارية ِ المقنَّعِة/البديلِة، لا يمكنُ إلاَّ أنْ يكونَ حدثاً عنيفاً.
إن خطابَ الحقيقةِ، في ربيعه العربي، قد أتاحَ للمهمشينَ إمكانية التعبيرِ، من خلالِ قلبِ الفضاءِ السياسيِّ والثقافيِّ لخطابِ السلطةِ. إلاَّ أنَّ المعذبينَ بانقلابِهم على الأنماط الديكتاتوريِّة في عصرِ الكيانات الأمنية، عَلِيهم أنْ ينقلبُوا على الخطابِ ذاتِه، الذي يمثلُهم بوصفِهم غيرَ قادرينَ على تمثيلِ أنفسِهم بأنفسِهم. لكنَّ خطابَهم الجنين، في بطنِ سوريةَ 2011م، نموذجاً، قد تعرضَ للتطويقِ، ثم للإزاحةِ، وتالياً إلى التحريفِ والسرقةِ من خلالِ آلياتِ نهبٍ منظمةٍ. لا يُستَثْنَى منها أنَّ مَنْ مثلوا الخطابِ، هُم أنفسُهم أيضاً، ساهموا بإجراءاتَ المنعِ، والعزلِ، وإعادةِ إنتاجٍ، أفضتْ إلى تَصنيع خطابٍ أخرَ، هو نسخةٌٌ مسخٌ، نسخةٌ من حَبَلٍ كاذبٍِ، داخلِ جدارٍِ الرحمِ ذاتِهِ، على حسابِ خطابٍ حقيقيٍّ، راح يضيق، بعد أن طوقته تحشيداتِ خطابِ القوةِ لـ (الدولةِ) الأمنيةِ، ومجموع خطاباتٍ سياسيةٍ، أو ثقافيةٍ مضادة، ضمن شبكات الفساد، والتشويه.
استراتيجية الكيانِ الأمنيِّ في دمشقَ 2012م ـ بإعادةِ موضعةِ أنساقٍ أصوليةٍ/راديكاليةٍ في المكان ذاتِه، الذي يعبرُ عن ثورةِ المضطهدين، أكدت على تثبيت المنطق الأمني، نظراً لما تتميزُ تلكَ الأنساقُ بانفلاتٍ من خطابِها الدينيِّ، وبمقدرتها على وسم خطابَ الحقيقةِ بصورتِها هي، على خلفيةِ استجرارِ فتوحاتِ روما، وليس بصورته هو كخطاب سوري من أجل الحرية، ما عنى نحراً للمعنى الانسانيِّ السوريِّ الثوريّ. نحراً يَقضِمٌ رويداً رويداً، أمالَ الثائرين بمستقبلِ، ينفي نموذجَ الدولةِ الأمنيةِ، عبر ثورتهم، التي هي البديلُ الوجوديُّ، لدولةِ التوحشِ، والخوف. في المقابل إنَّ الممثلينَ بشرعياتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ، لن يَسْتَبِيحُوا الخطابَ بوصفِهم معارضين تقليديين بلا شرعيات ثورية/شعبية، وحسبْ، وإنما من منطلقِ استراتيجياتٍ، تستمدُ حيوتَها من ألياتِ التنظيمِ المسبقِ، أو المُصَنَّعِ في ثوراتٍ سالفةٍ، تجيد فن تقاسمِ ثرواتِ الخطاب.
إنَّ عمليةُ التفكيكِ هنا، هي إجراءٌ ملحٌ، بغية كسرِ القيودِ، التي تفرضُها استراتيجياتُ القوةِ، إنها إجراء ضدَ خداعٍ، ينمُو، على أيدي مَنْ يُمكنُ وَسْمَهم بالمشِوِهِيِن، من (ثوراتٍ مضادةٍ ـ شبكاتٍ ـ مؤسساتٍ ـ وأفرادٍ) مقابلَ مجهودِ مؤسسين (نشطاءَ)، حطمُوا عبوديةَ مؤسساتِ إعلامِ «الدولةِ» بتبعيتِه لـ «نظامِ» الحكمِ، حينَ نحتُوا طفرةً تاريخيةً، أفرجتْ عن مسكوتٍ مقموعٍ في بلدٍ، يعدم الناشطينَ، ـ الإعلام ـ بتهمةِ نشرِ الحقيقةِ. لكنَّ إسهامَهم الحيويَّ، سرعان ما حُوصِرَ بينَ متطلباتِ تقدمِ خطابِ الشارعِ، السباقِ على المثقفِ، والسياسيِ، وبينَ استحقاقاتٍ إعلاميةٍ، نالتْ مِن (المواطنِ الصحفيِّ) على صعيدي المصداقيةِ والموضوعيةِ، وكنتيجةٍ مباشرةِ لتدخلِ المؤسساتٍ الإعلاميةٍ المحترفةٍ الحتمي، سُِجلَ انزياحٌ في خطابِ الحقيقةِ، الذي تشظي أكثرَ، لا سيما، مع عدمِ وجودِ رؤيةٍ اعلاميةٍ موحدة.
وعلى عكسِ ما نادى بِه الشارعُ في خطابِه الموحدِ ذاتَ يومٍ، كانَ لتناسلِ وسائلِ إعلاميةٍ، بعدَ العسكرةِ، أثرَهُ السلبي على الخطابِ من جرّاءَ السباقِ على إملاءِ ما يجبُ أنْ يُقالَ، لا مَا يُقالُ، ما عزَّزَ نوعاً من الفرزِ الداخليِّ والخارجيِّ، خلفَ الاصطفافاتِ الفكريةِ الناشئةِ، على خلفيتِها، انقسمتْ الصورةُ والمضمونُ الإعلاميُّ، تبعاً لاختلافِ مشاربِ المؤسساتِ الإعلاميةِ، وزُجَ بكثيرٍ من الإعلاميين والنشطاء إلى معاركَ مستجدةٍ، سوغتْها حربُ التياراتِ (عسكرية، دينية، مدنية). أما وقوعُ تلكَ الوسائلِ بمصالحَ مشتركةٍ مع ممولين خارجيين، في فخِ منظومةِ الفسادِ ـ التي أسستْ بُنيانَها على دعاماتٍ من غيابِ التنظيمِ، وهشاشةِ قواعدِ العملِ المؤسساتي ـ فقدْ ولَّدَ جوقةً من المزيفين، أفراداً أو مؤسساتٍ، جسدتْ عن قصدٍ صورةً مشوهةً لخطابِ الثورةِ، اقتنصَ ضعفَها «نظامُ» القمعِ، بتوحدِ مؤسساتِه، كما استغلَ خلوَ الفضاءِ الدراميِّ، لتدعيمِ روايتِهِ، وصياغةِ الثائرين كأخرين هامشيين منبوذين قطعاً.
بالتزامنِ مع عجزِه ِعَن التعبيرِ عَن الثورة، كونَها خارجَ نتاجِهِ، قادَ بعض /مثقفٌ ـ عضويٌّ / تقنيٌّ ـ نضالَهُ المتعالي، بانقلاباتِ فكريةٍ في ثورةٍ مضادةٍ، تستهدفً مِن مركزِِ السلطةِ، لجمَ الرأيِّ العامِ العربي، من خلالِِ إنشاءِ شبكاتٍ، ومؤسساتٍ إعلاميةٍ، تسعى للسيطرةِ على العقولِ، في ظاهرةٍ أدى فيها القفزُ مِنْ مُقًاومةِ خطابِ السلطةِ إلى خدمةِ خطابِ السلطةِ ذاتِهِ، دور خنجر «بروتس» لا سيما مع استجابة الاستبداد العربي السريعة، للمنعِ/ الابعادِ، بغيةَ تقييدِ الخطابِ الثوريِّ السوريِّ، والسيطرةِ على سلطاتِهِ، حسبَ تعبيرِ ميشيل فوكو، فالعلاقاتُ الانتاجيةُ المختلفةُ بالشكلِ والمضمونِ الإعلامي، سواءُ لتلكَ، التي تحتَ المسمى الثوري، أم تلكَ التي تعملُ في كنفِ البنى الديكتاتوريةِ، هي تتساكنُ خلفَ الكواليسِ، كتَشكيلٌ خفيٌّ لشبكةِ تزييّفٍ عميقةٍ تستهدفُ، بنيةَ خطابِ الثورةِ، لأنَّ الصراعَ، يجري على الخطابِ ذاتِهِ، بمَا يُمثلُه من سلطةٍ. لذلك اسْتُدرِجَ الخطابُ نحوَ مقصلةِ التنفيسِ، وتفريخِ جيشٍ من الكتبةِ، أُعيِدَ إنتاجُهم كمزيفين، لتسطيحِ المضمونِ، ولصناعةِ رأيٍّ مغايرٍ، ينالُ مِنْ سردياتِ الضحيةِ في الخطاب، تزامناً مع قلبِ صوتِ الشارعِ العربيِّ، المثقلِ بالخوفِ مِنْ المستقبلِ إلى رهابِ الأمانِ، وإلى توليدِ مخططاتٍ ذهنيةٍ لدى المتلقي، تقودُه إلى معطىً ضديٍّ في فضاءاتِ العالمِ الواقعيِّ، والافتراضي.
أما أصداءِ شعاراتِ الحريةِ، في الفضاءِ السوريِّ الثائرِ، فلنْ يُوليها الغربُ أهميةً بقدر ما سيؤثر الجنوحَ نحوَ التطبيعِ في الظلِّ مع سلطةِ (الدولةِ) الأمنيةِ، ليس لأن الغربَ بصورته المصدرة هو المعادل الموضوعي لتلكَ الأنساقِ الراديكالية سالفة الذكر، وإنما ستدفعُه ـ تحتَ وطأةِ غرغرينا أيديولوجيا الاستشراقِ ـ المساومةُ طويلةُ الأمدِ بتعويم المزيِّفِ بخطابِ الحقيقةِ في العَلن. بغيةَ تصفيةِ حساباتٍ تاريخيةٍ، عبر تصنيع بؤرةَ صراعٍ، إسفنجيةٍ في الخفاءِ، تمتصُ فاتحي روما من العالمِ كلِهِ، انطلاقاً من المجالِ الجغرافيِّ السوريّ، الذي تختزن مأساته بتعقيداتها أنَّ خيانةَ الخطابِ، وسرقتِهِ، كانتْ، قَدْ بدأتْ، منذُ أولِّ قطرةِ فمْ.