الياس خوري
«قالت الضفدع قولا
فسَّرته الحكماءْ
في فمي ماءٌ وهل
ينطقُ مَنْ في فيه ماءْ؟»
قال صاحبي: «نعم في فمي ماء، كلما حاولت أن أقول شعرت أنني أختنق، فصرت أتكلم كالأخرس، أحاول صوغ الكلمات، فيخرج من فمي ما يشبه الحشرجة».
«لماذا لا تبتلع الماء وتحكي»، قلت.
«ابتلعت الكثير»، أجابني، «لكن هذه المرة صار ابتلاع هذا الماء صعبا ولا يُحتمل».
«ابصقه يا أخي».
«ثمن بصق هذا الماء كبير جدا، لأنه يعني العودة إلى الصفر»، قال.
«لكننا في الصفر»، قلت.
«هناك فرق بين أن نكون وأن نقول ، فالكلمة كالسكين، مؤلمة وقد تكون مميتة. فحين نقول تصير كلماتنا جزءا منا. الصفر ليس فقط دائرة رسمتها العرب، بل هو أهم الأرقام على الإطلاق لأنه يُعطي الرقم معناه، ومن دونه لا قدرة لنا على اكتناه المعنى».
كنا نجلس على الشرفة في بيروت، محاصرين بالكورونا والإفلاس، نحاول أن نملأ الوقت بكلام عن كل شيء ولا شيء. ففي هذه الأيام البيروتية تساوى كل شيء بلا شيء، لكن الرجل السبعيني الذي عرفته في جبل الشيخ، يوم كان الجبل قبة أرواحنا، يشعر اليوم أنه صار عاجزا عن الكلام.
قال إنه يبحث عن الألفة، ليس من أجل ذكريات تلك الأيام فقط، بل من أجل أن نبحث معا عن بعض المعاني التي ضاعت من قاموسنا.
ومن شرفة منزلي في بيروت حيث حجبت البنايات الشاهقة كل شيء، رأيتني أستمع إلى صديقي وهو يقول: «وهل ينطق من في فيه ماء».
قلت له إن مرآة بيروت المحطّمة تعكس حطام هذا المشرق العربي، بحيث لم أعد أستطيع التمييز بين الواقع وصورته، فالمرايا حين تتحطم تمزّق معها صورتها. «الماء، يا صديقي، ليس في أفواهنا فقط، بل في عيوننا أيضا».
لكن صديقي الذي ابتلع ماء كثيرا كي يحافظ على صوته وقدرته على الكلام، اكتشف اليوم أنه فقد صوته.
«صار صوتي غريبا عني، أحكي فأشعر أنني أستمع إلى رجل آخر لا يشبهني، لكنه ما تبقى من أناي».
سألته عن الماء الذي في أفواهنا، فقال إن الماء ليس إسرائيل، على الرغم من أنها في أساس المشكلة. هل تنتظر ممن شرد شعبا من أرضه ويحتل ما تبقى من هذه الأرض، ويدوس كرامات الناس، هل تنتظر منه الرحمة؟
قال إن اسرائيل الصهيونية تحقق صهيونيتها، حركة استعمارية عنصرية قررت أن تبقى ملتصقة بمشروعها الأصلي.
الماء هو نحن.
كيف أمكن لإسرائيل أن تمتلك هذه الوقاحة الجريئة لو لم نصل إلى هذا الحضيض الذي لا حضيض دونه.
انظروا إلى المشرق العربي: لبنان يتداعى بين أيدي اللصوص والمرتزقة الذين حولوا شعبه إلى متسولين يشحذون مالهم المنهوب. أما سوريا المنكوبة بمستبديها فلقد تحولت مزقا تحتلها الجيوش الغازية، وتحاصر شعبها المشرّد واللاجئ في وطنه وخارج وطنه. والعراق مفلس وممزق، والمافيات الطائفية حولته إلى أرض مباحة.
أما الخليج وما أدراك ما الخليج، فلقد صار منصة أمريكية إسرائيلية على يد شيوخه وملوكه الذين يرتجفون من شعوبهم، ويجدون في إسرائيل حاميا لهم.
ومصر غائبة خلف الصمت الذي فرضه العسكر والقمع والمنع.
وفوق هذه النكبات المتتالية، أو ربما بسببها، تدور حروب اللصوص ومافيات السلالات الحاكمة على ما تبقى.
انظروا إلى لبنان من جديد، فمافياته التي أغرقته في الدم تقوم اليوم بإغراقه في الفقر، ولا شيء يوقف شهيتها إلى نهب جثة وطن قتلته.
لكن هذه المشكلة ليست سبب الماء الذي احتل فم صاحبي ويحتل عينيّ.
فالماء الفلسطيني يمتزج بالماء العربي فيشلان قدرتنا على الكلام.
كفى تحايلا على الكلام بالكلام.
هل كانت خطة القرن ممكنة لولا تشكل إمارتين فلسطينيتين؛ واحدة في غزة، وأخرى في رام الله؟
هل كانت الخطة ممكنة لولا هذه السياسة النيوليبرالية التي حوّلت ما تبقى من وطن إلى مرتع للفساد؟
هل كانت الخطة ممكنة لولا دايتون، وتحوّل فكرة السلاح الفلسطيني من سلاح مقاوم إلى سلاح لحفظ أمن المحتل؟
هل كانت الخطة ممكنة لولا فكرة الإمارة الإسلامية التي هي فوق الوطن؟
هل وهل وهل؟
قولوا لي ما هو مبرر وجود هاتين الإمارتين، رام الله تحت الاحتلال الفعلي وغزة معسكر اعتقال كبير.
من هم هؤلاء الذين يتصرفون كما لو أنهم يحكمون دولا، ويقودون الناس إلى اليأس من كل شيء؟
كيف وصل بنا التدحرج إلى هذا القاع؟
نحن في «الصفر»، قلت.
قال إنه قرر أن لا يخاف من الصفر، فالاعتراف بهذا الصفر الفلسطيني والعربي هو البداية التي عليها أن تبدأ؟
قال إن البداية التي يراها غامضة ومليئة بالمآسي، لكنها خيار من لم يعد يملك خيارا آخر.
قال إنه حزين، في العادة نبدأ حين يعصف بنا الحلم ونحن في شبابنا، والآن علينا أن نبدأ من جديد، في مغيب العمر.
هنا استوقفته ورويت عن شوارع انتفاضة 17 تشرين في لبنان، حيث رأيت لغة جديدة تولد، صحيح أنها لا تزال تتأتئ وتبحث، لكنها لغة نابعة من مرحلة ما بعد الصمت، هنا يتأسس المعنى كي يحوّل الصفر إلى بداية تجتمع حولها الأرقام والحروف.
قلت له إنني عثرت على صورتي في عيون شبان الانتفاضة التي اقتلعت بالرصاص المطاطي، وأن هذه العيون صارت مرايا أرواحنا.
المصدر: القدس العربي