د- محمد مروان الخطيب
مع بدء إدراك موسكو أن علاقة الأسد وأسرته مع طهران ومليشياتها في سورية، تقوض مهمتها الأساسية، يبدو أن العلاقات بين روسيا ونظام الأسد بعد خمس سنوات من القتال من أجل الحفاظ على نظامه، تميل الآن إلى التخلص من عميلها “السيئ السمعة”، بعد أن إزداد إمعاناً في الوحشية والفساد، وبعد أن أثبت عدم قدرته -ولو شكليًا- على التظاهر بإقامة دولة جادة، مما حوله إلى عبء تفضل موسكو التخلص منه.
يبدو أن ماسعت إليه موسكو من إعادة تأهيل نظام الأسد كرمزٍ للاستقرار قادرٍ على جذب مئات المليارات من الدولارات التي تستعد الشركات الروسية لاستقبالها، في إطار إعادة الإعمار، لن يكون ممكناً، إذ إن الأسد لم يفعل شيئاً لمساعدة الروس على تسويق النظام، لا في العالم العربي ولا في أوروبا، مما يمنع وصول الأموال من الدول الأوروبية والخليجية التي ينتظر منها دفع فاتورة إعادة إعمار سورية.
من هنا كانت الهجمة الإعلامية التي إستهدفت الأسد، وتصويره على أنه فاسد بشكل ميؤوس منه وغير صالح للحكم، مشيرة إلى أن الوقت قد حان لتغييره بزعيم جديد. وأن روسيا تعتقد بأنه لم يعد قادراً على قيادة البلاد بعد الآن، وأنه يجر موسكو نحو السيناريو الأفغاني.
وإن كانت أنشطة روسيا في سورية على مدى نصف العقد الماضي، قد حققت الكثير من المكاسب للكرملين، إذ أن موسكو حولت البلاد إلى مختبر لفحص الأسلحة والتكنولوجيا والاستراتيجية والتكتيكات الروسية تحت ستار الكفاح المستمر ضد تنظيم “الدولة” والجماعات الجهادية. ويتواجد حالياً أكثر من 6 آلاف ضابط وجندي روسي، معظمهم من المستشارين العسكريين، والقوات الخاصة، وأفراد الدعم الجوي في سورية، حيث تستمر موسكو في تزويد الأسد بالأسلحة وتعطي رئيس النظام الدعم الدبلوماسي الذي تشتد عليه الحاجة على الساحة الدولية. مع أن روسيا تعلمت من أخطائها العسكرية السابقة، وعلى النقيض من التجربة السوفييتية في أفغانستان في الثمانينات، حيث أعطت الحكومة الروسية الأولوية لاستخدام تكتيكات المواجهة، مثل الضربات الجوية واستخدام المقاولين العسكريين، وبذلك لم يتجاوز عدد الوفَيات الروسية في سورية 116 فقط حتى الربيع الماضي. كما أعطت أهمية لتعزيز موطئ قدمها العسكري في البلاد، وعززت وجودها البحري في مدينة طرطوس الساحلية، وأقامت قاعدة جوية في حميميم، وأنشأت معسكرات عسكرية في أماكن أخرى من البلاد، وتمكنت موسكو من تأمين ترتيبات طويلة الأجل ومفتوحة من نظام الأسد.
من الناحية الاقتصادية، استغلت روسيا بمهارة الوضع السوري غير المستقر، لتهيمن على قطاع الطاقة السوري بتطوير حقول الغاز التي تغذي عائداتها آلة القتل، وحصلت على عقود لاستغلال الهيدروكربونات في شرق سورية، واستكمال خطط الأنابيب التي تربط سورية والأردن، والعديد من مصانع معالجة الغاز.
في المقابل فإننا نرى دول الخليج لن ترغب بالإستثمار في سورية، ولن تهرول باتجاه التطبيع مع النظام رغم تقدمه العسكري في الآونة الأخيرة، وهذا الأمر نفسه ينسحب على أوروبا والدول المتحالفة مع الولايات المتحدة. وإن كان هنالك توافق على دور القوات الروسية في سورية الذي يتجاوز الحرب، ليصل لرعاية العملية السياسية السورية، فإن بقاء هذه القوات بعد الانسحاب الأميركي والإيراني والتركي، يؤشر إلى موافقة دولية على دور طويل الأمد، تتضمن القبول بتنازلات لا يُظهر النظام استعداداً لها إلى الآن. وفي حين تستعجل روسيا إنضاج التطورات في المنطقة لتبدأ بجني ثمار تدخلها الذي تأخر كثيراً، بدءاً من عملية إعادة الإعمار للشركات الروسية، وصولاً إلى عوائد تشغيل ميناء طرطوس الذي تخطّط روسيا إلى تحويله مركزاً إقليمياً يؤمن الخدمات للعراق والأردن وإيران وحتى الخليج العربي، فضلاً عن أرباح الفوسفات والأسمدة وعوائد النفط والغاز الذي تنتظر استخراجه بعد حصولها على التمويل اللازم لهذه العملية.
في حين أن بشار الأسد يتعاطى مع الزمن السوري على أنه ملك له، فما دام قد نجا من السقوط يوم كان ثوار دمشق على بعد مئات الأمتار من قصره، وبعدما قام بتنظيف الجوار وما بعد الجوار من هؤلاء المتمرّدين على حكمه، هم وأولادهم وأحفادهم، وباتوا يصارعون العراء والغربة بعيداً، فإن الزمن السوري صار ملكاً له حتى يسلم ابنه حافظ السلطة.
لكن ضمن الظروف الدولية الحالية، لم يعد صدر روسيا يتسع لترهات وألاعيب النظام السوري ومحاولاته التوفيق بين الإرادتين الروسية والإيرانية في سورية، فإن كان الأسد هو حاجة روسية لتقديم المزيد من التنازلات عن موارد البلاد، ناهيك على أن فكرة خلق بديل بالنسبة للطائفة العلوية هو أمر في غاية الصعوبة، فالأسد حصر طائفته في زاوية ضيقة للغاية وأصبح مصيرها مرتبطاً بمصيره بالكامل ولا يمكن فصلهما عن بعضهما بيسر. حيث تشكلت لدى الكرملين مخاوف من عدم قدرة بشار للحفاظ على استقرار النظام السياسي وإنما يدفع نحو توسيع الفجوة الأمنية في مناطق سيطرته، مع عدم تجاهل أن إزاحة الأسد لم يعد قراراً روسيا فحسب، بل أصبح توافق روسي أميركي إسرائيلي.
من هنا كان سعي موسكو لفتح خطوط التواصل مع رموز المعارضة، فإضافةً إلى لقاء بوغدانوف مع معاذ الخطيب في قطر قبل بضعة أسابيع، دعت الخارجية معارضين إلى موسكو للتباحث في سبل إطلاق المسار السياسي، منهم هيثم منّاع ولؤي حسين. وتجري اتصالات مع آخرين يمثلون بعض أطياف المعارضة وتدعو مَن ليسوا متشدّدين إلى العودة إلى سورية مع الاستعداد لحماية وجودهم.
الواضح أن الكرملين يسعى للتحضير للفترة المقبلة، حيث تسود قناعة بأن الأطراف الدولية سوف تكثف ضغوطها من أجل استئناف العملية السياسية في سورية سريعاً، والانتقال إلى تشكيل هيئة حكم انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة. وفي هذا الإطار، فإن ممثل الرئاسة الروسية يمكن أن يؤدي دوراً مهماً بالضغط على النظام من أجل تخفيف حدة مواقفه والمضي في الحل السياسي، كما يمكن أن يعمل مع المعارضة الداخلية لإيجاد صيغ تخفف من الضغوط الدولية على روسيا عبر إشراك ممثلين عنها في النظام أو إطلاق مبادرات حوار جديدة.
في المقابل فإن تجربة الحرب وخساراتها الفادحة ودروسها الكثيرة زرعتْ في أذهان السّوريين، وعياً جديداً عاماً بالرفض والتشكيك، وليس بالسهل قبول تركيبة سياسية جديدة لا تضمنُ حياةً معيشيّةً كريمة. كما أن أيُّ نظام يتم فرضه سيخضع لرقابة شديدة صارمة؛ لذلك فإن تغيير وجوه الأشخاص أو تبديل جماعة بجماعة، مآلُه الفشل ووصفةٌ للاضطراب وتأجيج الصراع حتى تظهر إرادة شعبية لا تكون استثماراً نفعيّاً شخصيّاً أو فئويًّا أو طائفيّاً أو حزبيّاً. فمحتم على النظام القادم أنْ يكونَ قادراً على نقل سورية من حالة الدمار والفوضى والفساد إلى الأمن والاستقرار والمحاسبة، وأن يملك القدرة على إدارة مشاكل التركة الثّقيلة وأعبائها.
المصدر: اشراق