أيمن أبو هاشم
منذ نشأة الصهيونية، كمشروع سياسي استعماري، يقوم على تحويل اليهود من جماعة دينية إلى حركة قومية، وهو ما بدأ عملياً منذ المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في بازل السويسرية عام 1897، لم يخفِ الآباء المؤسسون للحركة الصهيونية، الدور الجوهري للعنف والقوة والترهيب، في تحقيق الأهداف السياسية التي يؤمنون بها. إذ استلهموا من بعض المصادر الدينية، والأساطير اليهودية، التي تمجّد لغة السيف وسفك الدماء بحق الأغيار، السياق التاريخي والتعبوي والنفسي، لبناء مشروعهم الاستيطاني، الذي تقاطع مع المصالح الاستعمارية الغربية، بأن تكون فلسطين هي الوطن القومي للشعب اليهودي. يقول ثيودور هرتسل في مرحلة بدايات تبلور المشروع الصهيوني: “إن القوة قبل الحق” فيما يرى جابوتنسكي وهو فيلسوف العنف اليهودي “أن السياسة هي فن القوة”، ولذلك طالب منذ البدايات بتسليح المستوطنين الصهاينة، وتشكيل عصابات الإرهاب والقتل مثل الهاغاناه وإتسل وليحي والبالماخ وشتيرن وسواها, التي ارتكبت أبشع المجازر بحق أبناء فلسطين.
في حين يؤكد بن غوريون أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني، على العنف كضرورة حتمية في السياسة الإسرائيلية ذات البعد الاستراتيجي، فيقول عن مساهمته في وقوع النكبة الفلسطينية عام 1948: “حكمة إسرائيل الآن ليست في الخلاص بل في الحرب”. هذه العقلية التي حكمت رؤية وتفكير مؤسسي، وقادة الكيان بعد نشوئه، هي الخلفية التي تمكننا من فهم دورها، في تنشئة المجتمع الإسرائيلي، وبناء عقيدة المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، على تغطية كافة أشكال القتل الوحشي الدموي والساديّة المرضية، التي مارستها الحكومات الصهيونية المتعاقبة، من خلال ذرائع وتبريرات دينية وتاريخية وأخلاقية، تم اختلاقها وحشوها في عقول الأجيال الإسرائيلية، من خلال استدعاء خطاب المظلومية التاريخية، عن الاضطهاد اليهودي في روسيا وأوروبا خلال الحقبة النازية. معطوفاً على مخاوف الإبادة والفناء الجماعي، التي لا يمكن تحقيق الخلاص اليهودي منها -حسب مزاعمهم-إلا بالعودة إلى “أرض الميعاد”، واستخدام كافة الوسائل غير المشروعة لتحقيق ذاك الحلم/ الهدف، وتجسيده واقعياً في إقامة دولة اليهود في فلسطين.
أفضت تلك الفلسفة الصهيونية الوظيفية، التي تغذت على الأوهام والمخاوف والأكاذيب، إلى نفي فكرة الحق والعدالة، وسحق من يمثلها من أصحاب الأرض الأصليين والفعليين، استناداً إلى جملة من السياسات والإجراءات والقوانين، التي تنتمي إلى فروض القوة ومنطق الإكراه، وبالتلازم مع تسويغ كل الجرائم والاعتداءات الصهيونية، على أنها “أعمال بطولية مشروعة”، يتفاخر بها كل من شاركوا بارتكابها، حتى أنها باتت السلّم الذي يصعد عليه العسكريون والسياسيون، إلى أرفع المواقع والمناصب في مؤسسات الدولة، التي قامت على طرد أصحاب الأرض الشرعيين واستيطانها بالقوة والاغتصاب.
لا يتسع المجال لذكر كل أصناف وأنواع تلك الجرائم والمجازر، التي كانت ولا تزال موضع تباهي الوعي الجمعي الصهيوني. بيدَّ أن المفارقة المؤلمة والصارخة، كانت في ذاك السؤال الحاضر دوماً، عن أسباب غياب الإرادة الدولية، في مقاضاة أشرس احتلال عنصري استيطاني عرفه التاريخ البشري الحديث!؟ وما ينطوي عليه السؤال من استحضار دور السياسات الدولية والعربية، في بقاء دولة الاحتلال وقادتها وأفرادها، المتورطين في جرائم التهجير القسري، والمصادرة، والاستيطان، والإبادة الجماعية، والفصل العنصري، والإرهاب، والاعتقال التعسفي، خارج قوس العدالة الدولية، ولزوماً عليه استحضار دور السياسات الفلسطينية، وأدائها في التعامل مع هذا التحدي القانوني والقضائي بامتياز.
الإفلات من العقاب في الحالة الإسرائيلية
لم تحظ دولة أو كيان في العالم، باحتضان ودعم وحماية، كما حظي به الكيان الصهيوني، من جانب القوى الاستعمارية الكبرى، منذ وعد بلفور 1917الذي منحت بموجيه بريطانيا، ما لا تملك لمن لا يستحق، وما أكملته الولايات المتحدة والحكومات الغربية الأخرى، في توفير شروط البقاء والقوة اللازمة، لهذا الكيان الغريب، وشرعنة وجوده الدولاني سياسياً وقانونياً. لا يمكن فصل السياسات الكولونيالية وأهدافها في المنطقة، عن مغزى الدعم المادي والمعنوي لإسرائيل، وتوفير مظلة دولية تحميها من المساءلة والملاحقة عن جرائمها الجسيمة والخطيرة، بحق الفلسطينيين والعرب منذ نشأتها وحتى الآن. لم يُغير من هذه الحقيقة أو يخفف منها إلى حد يُعتدّ به، ما وفرته القوانين والاتفاقيات الدولية، من ركائز وأطر قانونية، لاسيما بعد ويلات الحربين العالميتين الأولى والثانية، تتيح مقاضاة مرتكبي الجرائم الأشد خطورة على السلم والأمن الدوليين، أمام محاكم القضاء الجنائي الدولي.
كان التطور اللافت على هذا الصعيد، يتمثل في ولادة محكمة الجنايات الدولية الدائمة عام 2002، والتي جاءت نتيجة جهود طويلة، لإرساء نظام قضائي متكامل ودائم، يستدرك نواقص وعيوب، سوابق دولية عديدة، تم خلالها مقاضاة عتاة مجرمي الحرب كما في “محاكمات نورنبيرغ 1945-يوغسلافيا 1993-رواندا 1995”. فقد تنبّهت القيادات الإسرائيلية، لخطورة المساعي الدولية على طريق إحقاق العدالة، والحد من سياسات الإفلات من العقاب، ولذلك كانت تقوم إثر كل عدون أو هجوم عسكري، بتشكيل لجان تحقيق للنظر في وقوع انتهاكات خطيرة، أو مخالفات للقانون الدولي، وتنتهي التحقيقات الشكلية كما جرت العادة، بتبرئة القادة والضباط والجنود المسؤولين عن تلك الانتهاكات. كما شهدنا في حروب غزة الأخيرة (2008/ 2009-2012 -2014)، والهدف من وراء ذلك هو قطع الطريق على محاكمتهم دولياً، لأن أحد المبادئ الأساسية في محكمة الجنايات الدولية، يقوم على مبدأ الاختصاص التكميلي، الذي تكون فيه الأولوية للقضاء الوطني، وفي حال ثبوت عدم رغبته / أو عدم قدرته، على محاكمة المتورطين بالجرائم الدولية، وفق مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية. حينها ينعقد اختصاص المحكمة، للنظر في هذا النوع من القضايا. تأتي أيضاً محاولات الاحتلال من وراء تشكيل تلك اللجان، لخداع المجتمع الدولي وتضليل الرأي العام، وما يساعده على ذلك، غياب إرادة سياسية لدى الدول النافذة، تضغط باتجاه تطبيق مبادئ ومعايير القضاء الجنائي الدولي، على قادة ومسؤولي الاحتلال الإسرائيلي.
يوضح ما سبق، دور المصالح والاعتبارات السياسية في الواقع الدولي، على تكريس إسرائيل كاستثناء، ليس فقط على صعيد إفلاتها من يد العدالة الدولية فحسب، وإنما الترويج لها كواحة للديمقراطية، ينبغي إشاحة النظر عن جرائمها واعتداءاتها، بل ومكافأتها على تاريخها الاحتلالي البغيض، بالاعتراف بها والتطبيع معها، وإنكار مسؤوليتها عن تشريد شعب كامل، وسرقة أرضه وموارده، واعتبار مقاومته المشروعة لها، بوصفه الاستثناء الذي تنبغي مواجهته. فضلاً على أن البيئة العربية المحكومة بأنظمة استبدادية، تربطها علاقات الارتهان والاستتباع بالقوى الدولية النافذة، لعبت دوراً أساسياً، في تكريس التفوق الإسرائيلي على دول المنطقة، ومُقابلة السياسات الإسرائيلية الغاشمة، بتكبيل الشعوب العربية، وكبحها لعدم القيام بدورها في مواجهة الأطماع الإسرائيلية. الأخطر من ذلك وبدلاً من قيام الأنظمة العربية، في تحمّل مسؤولياتها بالضغط على المجتمع الدولي، لتفعيل الآليات القانونية والقضائية المُتاحة لمعاقبة إسرائيل، لم تفعل سوى الانصياع للضغوط الإسرائيلية والأميركية، واللهاث نحو عقد اتفاقيات السلام والتطبيع معها.
من مقلب آخر يبدو أن تبني العديد من الدول الغربية، لمبدأ الولاية القضائية العالمية في قوانينها الوطنية، وهو ما يجيز لتلك الدول ملاحقة ومعاقبة المسؤولين عن ارتكاب جرائم دولية، بغض النظر عن مكان وقوعها، وجنسية مرتكبيها، يشير إلى انفتاح آفاق جديدة أمام الحد من سياسات الإفلات من العقاب، وهو ما بات يثير خشية إسرائيل، ومخاوفها من تضاؤل فرص حمايتها سياسياً، من جانب القوى الحليفة والداعمة لها. لا تغيب محاكمة مجرم الحرب الإسرائيلي ارئيل شارون أمام القضاء البلجيكي عام 2001، عن أذهان القيادات الإسرائيلية، وهي السابقة المشهودة، التي تم بموجبها قبول القضاء البلجيكي لدعوى جنائية، رفعها الناجون من مجزرة صبرا وشاتيلا، ضد شارون المسؤول الأساسي، عن إعطاء الأوامر بتنفيذ تلك المجزرة الرهيبة عام 1982، حين كان وزيراً للدفاع. غير أن دائرة الاتهام” chambre de mession en occusation ” قررت وبعد ضغوط سياسية إسرائيلية وغربية قوية، عدم قبول الدعوى، بذريعة عدم وجود شارون على الأراضي البلجيكية. رغم تلك النتيجة السلبية التي خيبت الآمال، بإمكانية مقاضاة رموز وقادة الإجرام الإسرائيلي، إلا أنها أماطت اللثام عن اتجاه متزايد في محاكم القضاء الأوروبي، لتبني الولاية القضائية العالمية، وإثارة اختصاصها حتى بحق المجرمين المتواجدين خارج الدول الأوروبية، كما شهدنا صداه في السنوات الأخيرة، بعد أن بدأت محاكم دول عديدة مثل السويد وألمانيا وفرنسا وإسبانيا، في قبول دعاوى جنائية وإصدار مذكرات توقيف بحق مرتكبي جرائم حرب، وجرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية.
الأداء الفلسطيني في مسارات العدالة الدولية
في تتبع محطات الكفاح الفلسطيني وتحولاته، نجد أن الخطاب الفلسطيني حول تحقيق العدالة الدولية في فلسطين، تأرجح بين ضفاف مراحل وتحولات فارقة، قبل أن يبدأ تركيزه في السنوات الأخيرة على أهمية البعد القانوني والجنائي الدولي، في ظل معطيات ووقائع جديدة سنأتي على تفصيلها لاحقاً. طغى خلال مرحلة انطلاقة وتصاعد العمل الثوري الفلسطيني، منذ منتصف ستينيات القرن الفارط، خطاب الاعتماد والتعويل على قوى الشعب الفلسطيني، ومساندة الشعوب العربية وأحرار العالم، في نصرة القضية الفلسطينية وضحاياها. نزولاً عليه كان الرد على جرائم ومجازر الاحتلال سواء بحق الفلسطينيين والعرب، يأتي في سياق الرد الفدائي المسلح، وفق ضرورات الصراع، ومتطلبات الدفاع الشرعي عن النفس. في تلك المرحلة لم يكن ثمة اتجاه عالمي يولي الاهتمام والعناية، لبناء آليات ووسائل قضائية دولية، تسمح لضحايا العدوان والحروب، باللجوء إلى طرق الإنصاف والعدالة في الحياة الدولية. لذلك اقتصر الخطاب الفلسطيني في حقبة الستينيات، على رفض القرارات الدولية التي صدرت بخصوص القضية الفلسطينية، وأدت إلى شرعنة الوجود الصهيوني على أرض فلسطين.
خلال حقبة السبعينيات والثمانينيات، التفت الخطاب الفلسطيني، إلى التركيز على البعد السياسي الدولي، وتأثيره في تعديل موازين القوى لصالح حقوق الشعب الفلسطيني، وقد صدرت العديد من القرارات الدولية التي تؤكد على ذلك. غير أن اللافت في محطات لاحقة، أن أصبحت فكرة تسوية الصراع، في صلب الاستراتيجية الوطنية لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ما أدى إلى استثمار الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1991) في عقد اتفاق أوسلو عام 1993، الذي طبع بدوره الخطاب الرسمي الفلسطيني، بمتطلبات العملية السياسية والمفاوضات مع الاحتلال. في أعقاب تلك المرحلة، لم يكن مطروحاً على أجندة المنظمة والسلطة، أي تصور أو خطة عملية، لطرق أبواب القضاء الجنائي الدولي، رغم أن الاحتلال تمادى في جرائم المصادرة، والاستيطان، والفصل العنصري، وعمليات التوغل، بهدف تصفية واعتقال الفلسطينيين، ضمن المناطق الخاضعة للسلطة بموجب اتفاق أوسلو.
اقتراناً بذلك أدت حقائق تمسك الاحتلال، بفرض سياسات الأمر الواقع على الفلسطينيين، إلى تعامل القيادة الفلسطينية مع انسداد مسار المفاوضات، بسبب التعنت الإسرائيلي، بردود أفعال سياسية لا تملك وسائل الضغط اللازمة لكسر هذه المعادلة غير المتكافئة. كانت المرة الأولى التي بدأت فيها السلطة الفلسطينية التلويح باللجوء إلى المحاكم الدولية، للعمل على إدانة سلوك الاحتلال في الساحة الدولية، وتجريم تصرفاته غير المشروعة في الأراضي المحتلة، عندما سعت عبر الأمم المتحدة، لعرض قضية جدار الفصل العنصري أمام محكمة العدل الدولية، التي أصدرت في العام 2004 رأياً استشارياً يؤكد على عدم قانونية الجدار، ومخالفته لأحكام القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان. لم يَحل تذرع حكومة الاحتلال بانعدام الآثار القانونية لهذا القرار بحكم عدم قبولها له، دون الأهمية المعنوية الكبيرة التي ينطوي عليها، لكنه من جهة أخرى لم يأت ضمن استراتيجية فلسطينية، في تفعيل الآليات القضائية المتاحة دوليا لتجريم حكومة الاحتلال، بقدر ما كان ورقة لإجبارها على العودة للمفاوضات. مع انكشاف السياسات الإسرائيلية، الرامية لتقويض كل إمكانيات إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، لجأت القيادة الفلسطينية للعمل في الساحة الدولية على مستويين، أولهما: اكتساب الاعتراف الدولي بدولة فلسطين، كشخص من أشخاص القانون الدولي، يتمتع وفق ميثاق الأمم المتحدة، بمكانة الدول الأعضاء في المجتمع الدولي، وهو ما تحقق نسبياً مع حصول فلسطين كدولة غير عضو في الجمعية العامة للأمم المتحدة في “30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012”. ثانيهما: استكمال هذه الخطوة، بالتوجه نحو انضمام فلسطين، إلى أكبر عدد ممكن من المنظمات الدولية ووكالاتها المتخصصة، وتم حسم هذا التوجه بعد طول تردد، إثر قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، نقل السفارة الأميركية إلى القدس في “6 ديسمبر 2017”. حيث بلغ عدد الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، التي صادقت عليها السلطة الفلسطينية حتى تاريخه (98) اتفاقية ومعاهدة، وانضمت إلى (21) منظمة دولية.
جاءت تلك الخطوات القانونية والدبلوماسية، بهدف ترسيخ الكيان السيادي والدولاني للدولة الفلسطينية من جهة، والضغط على الطرفين الإسرائيلي والأميركي، للكف عن سياسة تفكيك مشروع الدولة الفلسطينية من جهةٍ أخرى. فيما الوقائع على الأرض كانت تُضاعف من حقائق تآكل المقومات السيادية للسلطة الفلسطينية، ولم تكن صفقة القرن سوى تتويج لذاك المسار الإسرائيلي الحثيث. ما يكشف حجم الهوة الكبيرة بين مجريات الاعتراف الدولي بفلسطين، وسلطة واقعة تحت سلطان الاحتلال، وتحكّمه بشروط وجودها وسيادتها.
بين فروض السياسة ومتطلبات العدالة
مثل تلك الوضعية الخاصة للسلطة الفلسطينية، ما يفسّر بوجهٍ ما درجات التردد والالتباس، حيال تعاطيها مع آليات العدالة الجنائية في الواقع الدولي. ليس فقط في تأخر خطواتها على صعيد التوجه للمحاكم الدولية، بعد انضمامها لمحكمة الجنايات الدولية في مستهل العام 2015، وإنما حول كفاءتها المؤسساتية في التحرر من الضغوط السياسية، والاستجابة لمقتضيات العدالة الدولية، وموجباتها الإجرائية والموضوعية.
بما أن الشيء يُبنى على مقتضاه، فإن انضمام دولة فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية، وضرورة استكمال هذه الخطوة بالتوجه، لمقاضاة قادة الاحتلال عن جرائمهم الخطيرة والمشهودة بحق الفلسطينيين، أمام الدول التي تتبنى الولاية القضائية العالمية. يستوجب بدايةً؛ النظر والتعامل مع هذا السياق القضائي الدولي المفتوح، باعتباره ركناً أساسياً في الاستراتيجية الفلسطينية، وليس باعتباره ورقة يجري استحضارها أو استخدامها، كأداة للضغط السياسي، أو تحصيل مكاسب تخصُ السلطة وحساباتها السياسية. ما يعني تحويل استحقاق مقاضاة دولة الاحتلال، من التكتيكات السياسية السلطويّة على جزء من أرض فلسطين، إلى كونه قضية وطنية لا غنى عنها على طريق تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني. ما يستلزم بلورة رؤية وطنية جديدة، تحشد الخبرات والكفاءات المطلوبة، والقادرة على تفعيل الدعاوى الفلسطينية، وتعزيزها بالأسانيد والأدلة والتوثيقات، التي تؤكد وتثبّت الانتهاكات والجرائم الدامغة، التي أقدم عليها القادة والمسؤولون الإسرائيليون بحق الضحايا الفلسطينيين. بالتوازي مع الإدراك القانوني الاحترافي، للعقبات التي تواجه مثل هذه الدعاوى أمام المحاكم الدولية والوطنية، وهي مهمة فيها الكثير من الصعوبة والتعقيد، بحكم تأثر تلك المحاكم بالاعتبارات السياسية، كما عبر عنه البروفيسور بجامعة هارفارد أليكس وايتنج، الذي عملَ في مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، حيث يصف هذا الوضع بقوله: “إن الأمر ينطوي في الغالب على إجراء موازنات دقيقة وصعبة بين الواقعية والمبدأ”.
لا يمكن الفصل بين العمل على بناء مسار فلسطيني فاعل، على جبهة العدالة الدولية، دون بناء مقاربة جديدة، تُعيد وضع الحقوق الفلسطينية في بوتقة واحدة غير قابلة للتجزئة، طالما أن ضحايا الإجرام الإسرائيلي، من أبناء الداخل الفلسطيني، واللاجئين في دول المنافي، هم جميعاً من ينبغي إنصافهم دون تمييز، وطالما أن جرائم التهجير القسري، ومصادرة الأراضي، والاستيطان، والإبادة الجماعية، والقتل المتعمد والاعتقال التعسفي، والتعدي على الحقوق المادية والمعنوية للسكان الأصليين، طالت أيضاً الجميع دون تمييز. من الصعوبة الجزم أو الرهان على قيام السلطة الفلسطينية في إحداث تغيير جذري في الخطاب الفلسطيني، لجهة ترسيخ هذه الحقائق التاريخية المشهودة في خطاب العدالة غير المنقوصة، لاسيما أنها أحد الأطراف الرئيسية التي عملت على تجزئة تلك الحقائق، حين انتجتها تسوية سياسية مُجحفة وغير عادلة. ما يضاعف من مهام تصويب الواقع الوطني والسياسي الفلسطيني، ومعالجة مشكلاته البنيوية، بما يزيل أوجه الالتباس والتعقيد في المشهد الفلسطيني، ويسهم في إنتاج رؤية وطنية تجسد بحق وحدة الحقوق الفلسطينية، وإرادة الكفاح على طريق إحقاق العدالة الدولية بكل ثقة وثبات وفاعلية.
المصدر: العربي الجديد