الياس خوري
أرفع كأسي وأدعوكم جميعاً إلى شرب نخب العدوّ. اشربوا نبيذ بساغوت في المستعمرة القائمة على أرض منهوبة من البيرة ورام الله. فلقد أبى بومبيو، وزير خارجية ترامب، أن يمضي قبل أن يقف على شرفة مستوطنة إسرائيلية تطل على المقاطعة، ويرفع كأس الاستيطان والضم، ويشرب نخب إسرائيل الكبرى التي أعلن بشكل موارب أنها ضَمت إليها مستوطنات الضفة والمنطقة «ج» أي الغور بأكمله.
كَرَمنا العربي فرض علينا أن نرفع كؤوسنا نحن أيضاً ونشرب مع الضيف الكبير الذي حلّ عزيزاً مُكرَّماً في أرضنا المسروقة، ونقول «نخب العدوّ» ونحن نعتذر من أديبنا الكبير سعيد تقي الدين لأننا سرقنا عنوان إحدى مسرحياته.
السلطة الفلسطينية، بما عُرفت به من مبدئية وكَرَم، رفعت يديها وشربت هذه الكأس حتى كعبِها. وبدلاً من أن يهرول رجال السلطة إلى المستعمرة الإسرائيلية القريبة من مقراتهم، ليشتركوا في الاحتفال، أقاموا احتفالهم الخاص في رام الله.
عادوا إلى قواعدهم بلهجة انتصارية تُثير الضحك والرثاء، واستعادوا التنسيق الأمني، وابتلعوا كل الكلام الذي قيل في اجتماع قادة الفصائل في بيروت.
بومبيو شرب النبيذ الذي نما على أرض سقاها الفدائيون دماً، والقيادة الفلسطينية شربت نخب المستوطنة عبر إسقاطها صفة المناضلين عن الأسرى، محوِّلة إياهم من قضية وطنية إلى حالات اجتماعية تتم مساعدتها.
فلنشرب جميعاً هذا النخب المخمّر الذي يسيل أحمر في الكؤوس.
هم يسمونه نبيذاً، ونحن نراه دماً.
ماذا أقول لسعيد تقي الدين، وأنا أشهد هذا العبث بالحاضر والماضي والمستقبل. هل أقول له إن عنوان مسرحيته، التي كُتبت سنة 1937 في مانيلا ونُشرت في بيروت عام 1946 بقي تائهاً في الذاكرة في انتظار السيد بومبيو الذي شرب نبيذنا الأحمر في الضفة الغربية المحتلة؟
أم أذهب إلى قبره كي أسكب فوقه قليلاً من خمرة عارنا، وأسقيه بعضاً من الهوان الذي فُرض علينا أن نشربه.
فالخمر الدموي الاستيطاني لا يلوِّث حاضرنا فقط، بل يعتدي على ذاكرتنا أيضاً.
نخب العدوّ لا يشربه الفلسطينيون وحدهم، بل يشربه كل العرب. من إمارات النفط في الخليج إلى مملكتي الخراب في لبنان وسورية.
والحق يُقال، إنني مصاب بالدهشة والحيرة والإعجاب من هذا الكرم الحاتمي الذي حلَّ علينا بعد «اتفاقية أبراهام». فلقد نجحت دولة الإمارات في أن ترسم الطريق الذي ستسير عليه جميع أنظمة الاستبداد العربية كي تحافظ على بقائها. فإسرائيل هي الشريان الوحيد الذي يصل إلى القلب الأمريكي.
منذ أيام شاهدت على موقع صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية شريطاً إعلانياً أطلقه طيران الإمارات، وهو يدعو إلى زيارة شواطئ تل أبيب الجميلة. لا يختلف اثنان على جمال شاطئ يافا الذي صار اسمه عند الأشقاء العرب شاطئ تل أبيب. غير أن الأمور وصلت بالمضيفة الحسناء، التي شاهدناها على شاشة الإعلان، إلى الإشارة بأن زيارة تل أبيب تسمح للسائح العربي بزيارة الهيكل الثاني!
ولَوْ يا جماعة! ما تطلقون عليه اسم الهيكل الثاني لا وجود له إلا كحائط نسميه «حائط البُراق» ويسميه الإسرائيليون «حائط المبكى» ويقع في القدس، وليس في يافا أو تل أبيب.
هل وصلت بكم الأمور إلى مشاركة «أولاد عمنا» في البكاء على الهيكل الذي خرّبه الرومان في عصور غابرة!
أما نبيذ مستعمرات الضفة المحتلة والجولان المحتل، فلا أعلم ما هي علاقة دولة تمنع شرب الخمر على مواطنيها بتسويقه. أفهم أن مساهمتكم في توسيع مرفأ حيفا وتحديثه هي جزء من مشروع سياسي اقتصادي من أجل تدمير حواضر العرب، كي تتسيّدوا على خراب بلاد الشام واليمن والعراقين ومصر. أما أن تكونوا السبّاقين في تسويق خمر المستعمرات، فهذه علامة ريادية تُضاف إلى ريادتكم للفضاء، لأنكم حولتم بومبيو إلى مجرد مقلّد لكم.
ارفعوا كؤوسكم يا مشايخ الخليج واشربوا دمنا ونخب عدونا واسكروا به، لكن عندما تستفيقون من سكرتكم لتجدوا أنفسكم عبيداً للإسرائيليين، فرجاء لا تستغيثوا، لأن لا أحد سيشفق عليكم.
لا نستطيع أن نحصي إنجازات «اتفاق أبراهام» ولعل آخرها هو قيام وفد من رجال الأعمال الإسرائيليين في مجلس مستعمرات شمرون، الذي يضم مستوطنات بُنيت على أراض من محافظات نابلس وجنين وطولكرم وسلفيت بزيارة دبي.
وقد بحث المستوطنون مع نظرائهم من رجال الأعمال الإماراتيين في تطوير التعاون في مجالات الزراعة والبلاستيك والمبيدات. رجل الأعمال الإماراتي يوسف بيضون صرح قائلاً: «لم أكن لأصدق بأنني سأشهد هذا الشيء في حياتي». عشنا وشفنا يا سيد يوسف، مبروك عليكم البلاستيك الإسرائيلي.
أما إطلاق اسم السامرة على شمالي الضفة الغربية، كما فعل الإماراتيون، فلم يُثر استغراب السلطة الفلسطينية التي سارعت إلى إعادة سفيريها في الإمارات والبحرين.
اشربوا أيها العرب العاربة والمستعربة نخب العدوّ.
لا تقولوا إنني أدعوكم إلى شرب ما لا أشربه، فنحن الذين نعيش وسط خرائب بيروت نرفع كؤوسنا ونشرب أيضاً. لكننا اضطررنا، للأسف، إلى شرب هذا النخب على شرف أسيادنا اللصوص الذين يحكمون لبنان وليس لديهم سوى مشروع واحد، هو تحويل هذا الوطن الصغير إلى أرض خربة، وتدمير كل شيء حي في بلادنا. لكن هذا لا يعني أننا نستطيع أن ننسى الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه وقمعه.
وكما بدأنا باستعارة عنوان من مسرحية سعيد تقي الدين، نجد أنفسنا ننتهي باستعارة عنوان قصيدة ت. س. إليوت «الأرض الخراب» التي كانت أيقونة الشعراء العرب في زمن الحداثة، فترجمها أكثر من شاعر وناقد عربي.
والخراب هو مصير أبطال قصيدة أخرى لإليوت تحمل عنوان: «الرجال الجوف» الذين ينتهي عالمهم بأنين يشبه السكون.
«هكذا ينتهي العالم/ هكذا ينتهي العالم/ هكذا ينتهي العالم/ ليس بِدويّ بل بأنين».
الأنين الذي تنبأ به الشاعر البريطاني المحافظ، لن يبدده سوى الدويّ الذي سينفجر بنا وبأسياد هذه اللحظة المنقلبة، حينَ يحينُ الحين.