وائل السواح
عاد أليكسي نافالني إلى روسيا، على الرغم من تهديد الرئيس فلاديمير بوتين له باعتقاله. كان نافالني قد خرج من روسيا قبل أشهر، بعد أن حاول بوتين اغتياله عن طريق السمّ. حسن الحظ وحده هو ما ساهم في إنقاذ حياة الرجل. وأرسلت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، طائرة خاصة نقلت فيها نافالني وهو على وشك الموت، حيث تمّ إسعافه في مستشفيات ألمانيا.
ما إن تحسّن وضع نافالني، حتى قرّر العودة إلى بلاده. كان يعرف أن الرئيس بوتين سيعتقله، وسيحاول مرّة ومرّة تحييده وتشويه صورته إن لم يكن اغتياله من جديد. وكان يستطيع، بكلّ بساطة، أن يطلب اللجوء في ألمانيا، أو في أي بلد غربي، ويصبح زعيما للمعارضة الروسية في الخارج. وكانت حكومات الغرب ستقبل بكل ترحيب، وتقدّم له حياة رغدة وإمكانات واسعة للعمل السياسي، بيد أنه رفض.
نجح نافالني في إيقاف بوتين وأجهزته على رؤوسهم. بدأ منذ أكثر من عقد بمدوّنة فردية عن المناقصات الحكومية الوهمية والعقود الحكومية الفاحشة. ثمّ أنشأ مؤسسة إعلامية، تحقق في الفساد وإساءة استخدام السلطة في روسيا، وتنتج تقارير نصية وفيديو مكثفة تجذب ملايين القراء والمشاهدين. كما أنشأ شبكة من المنظمين الميدانيين الذين كشفوا جهود بوتين في تزوير الانتخابات، وشكّلوا حالة رعب للرئيس الروسي. اعتُقل مرارًا ودين مرتين بتهم جنائية ملفّقة، لكن أيا من هذه الإجراءات لم تنجح في إسكاته. وقد أثار احتجاجاتٍ جماهيريةً أجبرت السلطات على إطلاق سراحه في العام 2013، بعد يوم من الحكم عليه بالسجن خمس سنوات. وبعد إدانته التالية، رفض الامتثال لحكم الإقامة الجبرية غير القانوني، رفع دعوى قضائية في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وفاز بها. وعندما احتجزت الحكومة شقيقه أوليغ، وحكمت عليه بالسجن ثلاث سنوات ونصف السنة، ارتفع صوت أليكسي أكثر وبات أكثر فاعلية. وأخيرًا، حاولت شرطة بوتين السرّية في العام الماضي قتل نافالني عن طريق تسميمه بالمادة الكيميائية نوفيتشوك. لم ينجُ نافالني فحسب، بل شارك في تأليف تحقيقٍ في محاولته القتل.
خلال أشهر حرجة ثلاثة، عمل نافالني مع الأطباء الألمان لإعادة عقله وجسده إلى الحياة بالكامل. وكان ذلك معجزة حقيقية، إذ لم يسبق أن نجا أحد من هذا السمّ الفعّال الذي كان من بين ضحاياه الجاسوس الروسي السابق، سيرغي سكريبال، وابنته يوليا، اللذان يُعتقد أن حكومة بوتين قد أمرت باغتيالهما في بريطانيا في عام 2018.
قبل أيام، أعلن نافالني أنه تعافى تمامًا، وأنه سيعود إلى موسكو. هدّدته الحكومة الروسية وإدارة السجون الروسية على الفور بالاعتقال، وكان يعرف أنها قادرةٌ على ذلك، فقد سبق لحكومة بوتين أن أطلقت مثل هذه التهديدات ضدّ أعداء بوتين بشكل روتيني، وعادة ما كانت تنجح في منع الناس من العودة إلى ديارهم من الخارج. في عام 2003، تحدّى قطب النفط، ميخائيل خودوركوفسكي، مثل هذا التحذير، فما إن وطأت قدماه أرض روسيا حتى قُبِض عليه، وجرّد من ثروته، وسجن عشر سنوات. وفي عام 2014، تحدّى السياسي بوريس نيمتسوف تحذيرًا مشابهًا وقتل. ولكن ذلك لم يكن ليهن في عزيمة نافالني.
صمّم نافالني عودته بدقة وروح دعابة مميزّة. صباح الأحد، استقل أليكسي ويوليا طائرة برلين -موسكو، برفقة محامية نافالني، أولغا ميخائيلوفا، والمتحدّثة باسمه كيرا يارمش، وصحافيين عديدين. على متن الطائرة، التقط نافالني صورة سيلفي مع مضيفات الرحلة، اللواتي طلبن ذلك على ما يبدو، وسجّل هو ويوليا مقطع فيديو مدّته خمس ثوان، قال فيه نافالني: “أيها الساقي، أحضر لنا بعض الفودكا. نحن ذاهبون إلى المنزل”… واعتقل نافالني لحظة وصوله إلى المطار واقتيد إلى السجن.
لا أستطيع أن أمنع نفسي من المقارنة بين شجاعة نافالني وإصراره على العودة إلى الوطن، لأن المعركة الحقيقية يجب أن تكون هناك، وموقف عديدين من قادة المعارضة السورية الذين استمرأوا الإقامة في إسطنبول أو الرياض أو باريس، حيث يقودون من هناك معارك دونكيخوتية ضدّ النظام، لا تغني ولا تسمن من جوع.
ماذا لو قرّر رئيس الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة، نصر الحريري، أو رئيس هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية، أنس العبدة، أو كلاهما، العودة إلى دمشق؟ لا أتحدّث طبعا عن العودة المشينة لبعض أطراف المعارضة الذين عادوا “إلى حضن الوطن”، ورموا بأنفسهم في أحضان الأجهزة الأمنية. أتحدّث، بالأحرى، عن عودةٍ أخرى، عودة فيها من التحدّي والتصميم على المعارضة لإسقاط الرئيس بشار الأسد، من الداخل. والرغبة على العمل الجادّ من أجل تشكيل معارضةٍ قويةٍ وموحدةٍ ضدّ نظام الأسد المجرم.
لم تكن المعارضة الروسية ذات شأن قبل نافالني، ولكن شجاعته وتحدّيه ومواجهته قمع بوتين وحكومته جعلته رمزا تجمّعت حوله معظم أطياف المعارضة. وأحسب أن الحال سيكون مشابها لو قرّر قادة المعارضة السورية العودة إلى دمشق وتحدّي الأسد في وطنهم.
هل سيعتقلون؟ ربّما، ولكن الأغلب أنهم لن يتعرّضوا للتعذيب الذي تعرّض له الناشطون السلميون الذين كانوا يعرفون مصيرهم ولم يأبهوا له. يعرف الأسد، ومعه الروس، أنهم يمكنهم اعتقال شخصٍ بحجم هادي البحرة أو برهان غليون أو نصر الحريري، ولكنهم يعرفون أيضا أنه لن يكون في مستطاعهم تصفيتهم الآن أو تعذيبهم، أو تغييبهم كما فعلوا مع القائد عبد العزيز الخيّر. في المقابل، ستشكّل هذه العودة إطارا فعّالا لكي يقتنع السوريون في الداخل (والخارج) أن قيادة معارضتهم جادّة في سعيها السياسي، وأنها تقوم بما تقوم به وهي تضع مصالح السوريين أولا وليس مصالح حزبية أو فردية ضيقة، والأهم أنها تضع مصالح السوريين قبل مصالح القوى الإقليمية التي تتحالف معها.
لست متفائلا، ولا أحسب أن ذلك سيحدُث قريبا، لجملة من الأسباب، أهمها أن التاريخ الوحشي للأسد في القتل والتعذيب والاغتصاب والمحاكمات الفاجرة يجعل أي شخصٍ يعدّ للمائة قبل أن يقرّر العودة. على أن ثمّة عاملا أهم من ذلك، أن قادة المعارضة السوريين يختلفون عن أليكسي نافالني، في الصدق والنزاهة والاستقلالية. وفي النهاية، كان قرار نافالني قراره هو، وليس قرار أي أحد آخر.
المصدر: العربي الجديد