أيمن أبو هاشم
نشرت العربي الجديد في عددها الصادر بتاريخ 27 يناير 2021، مقالة للكاتب السوري (راتب شعبو) بعنوان ” نقد النخب السلمية في الثورة السورية ” تناول خلالها تبدلات مواقف النخب السورية، والتي اتجهت غالبيتها كما رأى الكاتب إلى التحذير من مخاطر انزلاق الثورة منذ بداياتها، إلى العنف والسلاح والعسكرة، بدواعي التفوق الأخلاقي والمعنوي للثورة، وأسباب أخرى تتعلق بتفوق النظام بما يملكه من أدوات القوة، والخشية من أن تكون العسكرة بوابة الأسلمة، إلى التطييف والتطرف والتدخل الخارجي والارتهان، ما يبرر للنظام قمع الثورة أمام الداخل والخارج. في حين استعرض الكاتب محاججة بعضهم الآخر، التي تنطلق في تأييدها الخيار العسكري، من استحالة سقوط نظام الأسد سلمياً، وأن معركته مع الشعب السوري معركة حياة أو موت، وأن القوة وحدها هي ما يمكن أن يفكك نظاماً بهذا البنيان وهذا التاريخ.
يرى الكاتب في مقاله أن كلا المنطقين كان له ما يبرره، لكن تطورات المشهد الدموي منذ البدايات بفعل أسلوب النظام في مواجهة المظاهرات، أدى تدريجياً إلى غلبة التصور العسكري، وانتقال غالبية النخب السلمية إلى تبني ذاك التصور. ثم يعود في نهاية مقاله إلى نقد ذلك التحول، بعد أن فشل الخيار العسكري للثورة، مشيراً إلى طرافة وغرابة أمر أولئك المتحولين من السلمية إلى شديدي الحماس للسلاح، ومنتقداً تساؤلاتهم حول أسباب فشل الخيار العسكري، الذي قاد إلى كوارث كبرى، مع أنهم حذروا – على حد قول الكاتب – منذ البداية على أنه خيار كارثي!!
يعزو شعبو تفسير هذه الظاهرة التي يضعها على محك النقد، إلى أن التطور العسكري للثورة جرى بعيداً عن إرادة النخب السلمية، التي لم تشارك فعليًا في تقرير المسار العسكري للثورة، ولكنها وجدت نفسها أمام خيارين: أن تقبل به كأمر واقع مفروض وتذهب فيه حتى النهاية، حتى أصبح الدفاع عن العسكرة بالنسبة إليها يعادل الدفاع عن الثورة، أو الاعتراض عليه والذهاب للعمل على معالجة نتائجه، من خلال النشاط الإغاثي، أو الخروج من دائرة الفعل.
لا شك أن علاقة النخب السورية بالثورة، ومساراتها السلمية والعسكرية، من القضايا التي تحتاج إلى مراجعات عميقة، تقوم على إحاطة وافية بالعوامل الذاتية والموضوعية للظواهر التي تقترن بها. وإن كان يُحسب للكاتب خوضه في هذا المضمار، غير أن مقالته التي استندت إلى منظور تحليلي ثقافوي، في قراءة وفهم الظاهرة التي تصدى لها، انطوت على اختزال وتأويل قسريين، للتحولات في مواقف ومواقع المعنيين بها، كادا أن يضاعفا من أوجه التعقيد والالتباس، حيال مواقف النخب السورية في زمن الثورة، لاسيما أن دور تلك النخب سواء في مرحلتي السلمية والعسكرة، لا يمكن اختزاله أو تنميطه وراء تلك الثنائية، التي أسبغ عليها أحكامه القيمية. إذ بدأ مقاله بالحديث عن غالبية النخب السورية المنحازة للثورة، وكأنها كانت موجّه أساسي إلى خيار السلمية، قبل تحول بعضها إلى الدفاع عن العسكرة. علماً أن حقائق يوميات الثورة منذ ارهاصاتها الأولى، كانت تُشير إلى غلبة الطابع الشعبي على مسارها السلمي، وضعف حضور النخب في قيادة تلك المرحلة، بل أن جزءً محدوداً من تلك النخب، حاول مجاراة نبض الشارع، ولكنه لم يكن مؤثراً كفايةً، لا في تقرير التوجه السلمي للثورة، ولا في تقرير خيارها العسكري.
كان على شعبو قبل أن يستغرب سؤال النخبة، والذي يكشف تناقضها تجاه خيار العسكرة، أن يضع القارئ أمام تعريف سوسيولوجي دقيق عمّا يصفها بالنخبة المنحازة للثورة، هل هي قيادات وكوادر القوى والأحزاب التقليدية، المُعارضة للسلطة قبل الثورة؟ أما أنها كتلة المثقفين وقادة الرأي في المجتمع السوري؟ أم أنها النخب الشبابية والمثقفة الناشطة في عهد الثورة. لعلَّ الخوض في هذا التعريف المطلوب أولاً، ما يفتح على ضرورة تحديد هوية وأدوار النخب، وشكل وكيفية تموضعها في الثورة السورية. إذ أن الصورة الغالبة عنها، والتي استقرت في أذهان السوريين، هي تصدّرها للمشهد السياسي، وأدوارها وتجاربها في مؤسسات المعارضة. في حين غابت الصورة الأخرى، وهي اعتكاف وعزوف مجموعات كبيرة منها، عن الحراك الثوري في محطاته المتعرجة.
بمعنى أوسع كان ثمة نكوص للنخبة في تجربتها خلال الثورة، ومن انخرطوا في حقلها السياسي، تأرجحوا ما بين الأداء المُخيّب للآمال والعجز عن التغيير الإيجابي. نزولاً عليه تكمن المراجعة الأدق في دراسة هذه الظاهرة، من كافة أسبابها وجوانبها. أما تعليق الكاتب لأسباب التناقض في مواقف النخبة من السلمية، على مشجب عدم مبدئيتها، لأن معاداة النظام لديها تفوقت على مبدأ السلمية، وأن مشاعرها الغاضبة تفوقت على الفهم والتحليل، فهذا استنتاج قاصر على إدراك الدوافع والمصالح، التي تحكمت بمواقفها واستجاباتها الفردية والجماعية. بل المدعو للغرابة أيضاً تلك المفاضلة، التي وضعها الكاتب بين مبدأ السلمية ومعاداة النظام، متجاهلاً أن الثورة هي التعبير الدامغ عن معاداة النظام، وأن أسلوب إدارة الصراع معه يقترن بطبيعة الصراع نفسه، ومجرى تحولاته ومتطلباته، لاسيما أن أسلوب النظام الدموي الذي لم يغب عن المقالة، لم ولا يسمح أساساً بمثل هذه المفاضلة، وإلا ما معنى أن يؤكد الكاتب على الوجاهة، في منطق من أيدوا الخيار العسكري نفسه. يستوي في ذلك استنتاجه الخاطئ، عن غلبة مشاعر الغضب على الفهم والتحليل، وفي ذلك تجريد نظري لواقع أشعلت المآسي كل آبار الغضب فيه، بينما سها شعبو عن المشكلة الحقيقية في تبدل المواقف من العسكرة، سواء من دعاة خيار السلمية، وحتى من رهط كبير حملوا السلاح، تعود إلى غياب مشروع وطني لإدارة الصراع وتنظيم أساليبه وتكتيكاته، وهنا يُقال الكثير حول أسباب الإخفاق السياسي والعسكري لقوى الثورة والمعارضة. حتى من امتلكوا الفهم والتحليل، لم يسهموا عملياً في تفكيك هذه المعضلة، لأن تصريف قدراتهم في تصويب مسارات الثورة، كان يَفترض انخراطهم في السياسة، ولو من خارج التيارات والمؤسسات التي واظبوا على انتقادها. ما يثير وبإلحاح أزمة العلاقة الشائكة بين النخب والسياسة، وهي أحد شواغل من يبحثون عن اجتماع السوريين على مشروع إنقاذي لوطنهم.
من الموضوعية والإنصاف في أية محاولة لمراجعة وتقييم، الفواعل المؤثرة في الشأن السوري، ومكنون علاقاتها وتفاعلاتها بالثورة، تجنب المقاربات النخبوية التي تفصل المواقف والاستجابات النظرية، عن تحولات الواقع ومعطياته المتغيرة. في حالة النخب السورية ثمة حاجة لمنهجية مقارنة، توضح عناصر التشابه والاختلاف فيما بينها، وتعدد مصادر تكوينها ومستويات تجاربها، وطبيعة صلاتها بفئات المجتمع السوري في زمنه العاصف، وما الذي حكم مواقفها من الثورة في ضوء تحولاتها، وذلك لتفسير وفهم أقرب لمختلف اتجاهاتها. لا يقلل من انتقادي لما جاء في هذه المقالة، من أهميتها في ضرورة نقاش ونقد أحوال النخب السورية وأزماتها، وكيفية بناء تصور جديد، لأدوارها المأمولة في استنهاض واقع بلدها.