علي محمد شريف
لم تكن الحرية يوماً بمنأى عمن يعي جوهرها ويؤمن بها، وما كانت بعيدة عن طالبها والراغب في عناقها والتوحّد بها، فالحرية قرينة الإنسان تعرف به ويعرف بها، هي شرط انتمائه للجنس البشريّ منذ ولادته، أما ما يبعده عنها ويحول بينه وبينها فهي قوى وعوامل طارئة لن تتمكن من انتزاعها ومسخ حاملها دون أساليب وآليات وحشية معقدة، وظروف ملائمة وخادمة، ولعلّ الأهمّ دون تسليم المتنازل عنها ومباركته.
تتجسّد الحرية في القدرة على المفاضلة والاختيار واتخاذ القرار والفعل، لكن الحرية ليست القدرة ذاتها بمعنى إمكانية أن نفكّر ونعتقد ونرى، أن نحبّ ونكره ونوافق أو نرفض.. بل إنّ الحرّية شرط لامتلاك القدرة على القيام بكل ذلك؟؟
هذا الشرط لم يكن في وقتٍ ما خارجَ ذات الإنسان. فالحرية خصيصة لصيقة بعقله وروحه بانتزاعها ومصادرتها يتحوّل إلى كتلة صمّاء خرساء تكتسب قيمتها من مجرّد كونها أداة للاستخدام والاستهلاك لا حول لها. أمّا الحرّية التي نطالب بها ونثور لها فهي من أجل تغيير واقع القمع والقهر والتسلط ونظامه الطارئ، واستبداله بنظام طبيعي يمنحنا رخصة بقانون للإعلان عن تلك القدرة وممارستها.
الحرية قرار الإنسان الحرّ وسلوكه الطبيعي النابع من الإرادة، ومن إيمان راسخ بارتباطه بها وجوداً وعدماً، إذ لا يمكن تصوّر تحقق إنسانية الإنسان دون حريته، كذلك لا يمكن للعبد أن يرقى إلى مصافّ الإنسان الطبيعي وأن يمتلك القدرة على اتخاذ قرار أو إنفاذ رغبة طالما لم يمتلك إرادة كونه إنساناً بالأصل إذ لا يعدو هذا الكائن كونه بعضاً من متاع سيّده ومالكه والمتصرف بشؤونه وبوجوده وعائديته.
الحرية شعور ذاتي لا يمنعك من امتلاكه أحد سواك. وكيما تنال الحرّية ينبغي عليك أن تهدم كثيراً من الأبنية التي أقامها غيرك فيك، وأن تعيد إعمار ذاتك بأدواتك، وفق رؤيتك ورؤاك ومشيئتك، إنّ أحد أهمّ الجدران التي ينبغي هدمها هو جدار الخوف الذي يعلو كلما تصاغرت وجبنت إلى أن تنسحق وتمّحي أمام رهبته وظلامه الذي يسدّ أيّ منفذ لضوءٍ أو أمل.
والحرية في أبرز معانيها خلاص للإنسان والإنسانية من كل أشكال العسف والظلم والطغيان، إنّ الصمت على تسلط الآخر واعتدائه على حقه في الحرية قبول بالاستعباد يفقد المتسلط عليه انتماءه وهويته الإنسانية هذا إن لم يلجأ إلى الرفض والتمرّد بما يملك من نفسه ومن قوّة النص ما يشكل درءاَ له وحماية لحريته وقيمه ومبادئه. إنّ جوهر الحرية هو في تجسيد المعاني الإنسانية وحماية قيمها، القبول بالاستعباد والطغيان نقض للحرية واشتراك في تدمير الإنسان والقيم الخيرة والجمال، بهذا المعنى لا يمكن النظر إلى من يساند الطغاة والمجرمين أو يصمت عن جرائمهم إلا على أنهم مخلوقات قبيحة لا إنسانية تستحق معاملة تليق بها ملؤها الازدراء والاحتقار، وعلى أنهم مجرمين يستحقون المحاكمة والعقاب مع أسيادهم القتلة.
إنّ الوعي بالحرية وضرورتها وبأهمية امتلاكها وتطبيق موجباتها هو الأساس الذي تبنى عليه عمارتها الشاهقة المحميّة والمحروسة بقوى المواطنين الأحرار المؤمنين بها قيمة تعلو على سواها من القيم، وتستحقّ التضحية والبذل لمنع مصادرتها أو التعدّي على قدسيتها أو الانتقاص من مكانتها والمسّ بجوهرها.
ثقافة الحرية تكتسب من خلال المناهج التربوية والتعليمية، وتستمدّ روافدها من الأفكار والآداب والسلوك والأعراف السائدة في المجتمع المتحضّر، تعززها وتضمن ترسيخها وسموّها الدساتير والقوانين المنبثقة عن إرادة المواطنين عبر النصّ على بنود خاصة بالحريات وأنواعها، وسبل حمايتها وضمان ممارستها بالشكل الأمثل.
القوانين والأنظمة الإنسانية فضاء واسع لا يمكن بلوغه دون جهد الآخر الشريك وبالتوافق معه، ولعلّها مركبة شديدة التعقيد يشترك في بنائها والمضيّ فيها جميع من يرغب في العدالة والانعتاق، والوصول إلى سماوات البيان الإنسانيّ واستجلاء حقيقة وجوده كبشر. الحصول على الحرية ثورة، والتحليق في فضاء الحرّية ثورة، في الأولى أنت تخوض معركة استعادة الذات. في الثانية أنت تساهم في هندسة العالم.
المصدر: اشراق