ابراهيم حيدر
منذ أن انخرط “حزب الله” في الحرب السورية عام 2012 إلى جانب النظام السوري، كانت الوقائع تثبت أنه رأس الحربة الإيرانية والطرف الأقوى بين القوى التي تعطيها إيران الأولوية في الدعم والتدريب والتنظيم. فقرار تدخله في سوريا لاعباً اساسياً في المعركة إلى جانب ميليشيات أخرى، على الأرض إلى جانب النظام، لا يأتي فقط من رأس الهرم في الحزب، أمينه العام السيد حسن نصرالله ومن قياداته، إنما من القيادة الإيرانية التي كانت تعلن على لسان مسؤولين فيها أن الحزب باق في سوريا. لذا كانت الأمور تأخذ مسارات تؤكد التزام “حزب الله” بقرار مرجعيته الإيرانية، فيقاتل على مختلف الجبهات من دون أن يلتفت إلى حجم الكلفة التي يدفعها وتأثيراتها على بنيته وجمهوره ودوره ومستقبله وصورته عربياً وعالمياً.
لا يزال الحزب اليوم في سوريا، وإن كانت تغيرت الاوضاع بعدما دخل الروس إلى جانب النظام وأرسوا معادلات في مقابل النفوذ الإيراني الذي بات له قواعد ثابتة ودفع الكثير لحماية النظام وهو بات في قلب البنية السورية له استهدافات ومشاريع وحسابات لا تقف عند حدود العنوان الذي برر الدخول العسكري بمقاتلة “داعش” والتنظيمات المتطرفة، إنما أيضاً في بناء قواعد و”مقاومة” على حدود الجولان يتولى “حزب الله” تدريبها ورعايتها لتشكل عامل ضغط وورقة في أي مفاوضات محتملة تمتد ملفاتها من سوريا إلى إيران النووية، فتوازنات المنطقة عن طريق التلاعب بكياناتها، تماماً كما يفعل اللاعبون الدوليون خصوصاً الأميركيين.
القوة التي تمتع بها “حزب الله” جعلت الإيرانيين يعتمدون عليه في تنفيذ الكثير من أجنداتهم، ليس في سوريا ولبنان فحسب، وإنما في المنطقة أيضاً. بعد سيطرة النظام بالدعم الروسي والإيراني على معظم المناطق السورية باستثناء إدلب وبعض ريف حلب، عاد الحزب لإعادة هيكلة قواته في لبنان، وهو الطرف الذي بات يهيمن اليوم على معظم مفاصل البنية اللبنانية لما يمتلكه من فائض قوة لها وظيفتها بالنسبة إلى الإيرانيين، لكنه بات أكثر انكشافاً في دوره الإقليمي، حين صارت صورته على المستوى العربي طرفاً ينفذ أجندات السياسة الإيرانية في المنطقة، ويعادي دولاً عربية، وهو أمر لا يخفيه الحزب حين يؤكد التزامه في كل مناسبة قرار مرجعيته، وأنه مستعد عبر مقاومته المسلحة لشن الحروب إذا ما تعرضت الجمهورية الإسلامية لأي هجوم أو اعتداء من إسرائيل أو من الولايات المتحدة، والكل يتذكر كيف دعا السيد حسن نصرالله إلى مهاجمة القواعد الأميركية واقتلاعها بعد اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني مطلع عام 2020 في العراق.
يطرح هذا الأمر “لبنانية “حزب الله” ضمن الجماعات اللبنانية السياسية والطائفية المنقسمة. الواقع أن الكثير من الاتهامات وجهت إلى الحزب، بعدما خرج إلى تنفيذ أجندات والتغطية على ارتكابات النظام السوري في لبنان وسوريا. هذه “اللبنانية”، حين كان شعار المقاومة حقيقياً للتحرير في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. والامر أن “اللبنانية” كانت ترتبط مباشرة بكسر الإحتلال الإسرائيلي الذي كان يحجز أي إمكان لإعادة صوغ البنية اللبنانية مجدداً على قاعدة التطوير. الكلام هنا ينطبق على ما قبل العام 2000 أي قبل تحرير الجنوب اللبناني، فالمقاومة كانت تحظى برضى لبناني عام، وباحتضان سياسي وطائفي بصرف النظر عن الانقسامات التي كانت سائدة والتي غطتها الوصاية السورية وساهمت في تهشيم البنى والنسيج الاجتماعيين اللبنانيين، إذ غطت “اللبنانية” البعد المذهبي الذي انتمت إليه المقاومة بعنوانها الشيعي أي “حزب الله” فدعمت الطائفة السنية “المقاومة” كأولوية، ولم تظهر أي خلاف، إلى أن انتهى الأمر مع التحرير الناجز عام 2000 .
الأمور اختلفت إذاً، وبدأنا نشهد مساراً مختلفاً. سار “حزب الله” على هدي مرجعيته الإيرانية، وفي الوقت نفسه تمسك بشعاراته وخطابه السياسيين وبنودهما السابقة، لتتحول وظيفة سلاحه إلى الداخل وإلى المجال الإقليمي من خارج الساحة التي شكلت في السابق منزله في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وعلى هذا انتقل الوضع اللبناني إلى مسار جديد بات “حزب الله” مقرراً فيه بفائض قوته لمشاريع تدرج في الحسابات الإيرانية وقبلها السورية، فتفرقت المذاهب اللبنانية وبات الصراع السني الشيعي في أوجه، فيما تحول خطاب “حزب الله” الى جمهوره المذهبي وعصبياته وتقوقع في بيئته، وإن كان عمل كثيراً على اختراق البيئات الطائفية والمذهبية اللبنانية الأخرى.
“حزب الله” لم يعد حزباً محلياً أو لبنانيا بالمعنى الضيق الداخلي، وهو ليس مستقلاً عن مرجعيته الإيرانية. هو حوّل المقاومة إلى كتلة تحمل مصالح أهلية ومذهبية. الإشكالية أن المرجعية الإيرانية سياسياً ودينياً جعلت من لبنانية المقاومة عنواناً هشاً، فأبعدت المصالح العربية اللبنانية وبات لبنان لا يستطيع أن يتنفس من رئته العربية. وعلى هذا قد يكون “حزب الله” أخذ لبنان إلى حدود أخرى تحت عنوان المقاومة، ولا مجال للبنان أن يبقى إلا بالعودة إلى حاضنته العربية قبل أن يعيد بناء تركيبته وإنقاذ بنيته من الإنهيار الكامل. أما الجماعات اللبنانية الأخرى، فلها مشاريعها لكنها عاجزة عن مجاراة هذا الفائض من القوة عند “حزب الله” برعاية مرجعيته الإيرانية.
المصدر: النهار العربي