حازم نهار
أُقيمت البطولة الرابعة لكأس العالم لكرة القدم في عام 1950 بالبرازيل، وكانت الأولى منذ عام 1938، بعد انقطاع دام 12 عامًا بسبب أهوال الحرب العالمية الثانية، فقد أُقيمت آخر بطولة في عام 1938 بفرنسا. كان الشعب البرازيلي متأهبًا جدًا، وتوقّع الجميع فوز البرازيل باللقب نظرًا إلى ضعف الفرق الأوروبية بعد الحرب.
كان هناك أمل حقيقي بأن البرازيل ستترك بصمة مميزة على هذا الحدث الكبير، وتتحرر من أسر ماضيها المتخم بالفشل والإخفاقات. بالغ البرازيليون في الاحتفال باللقب، ظنًا منهم أنه صار في حوزتهم، وزُيِّنت شوارع المدينة، وطبعت بلدية ريو دي جانيرو 22 ميدالية ذهبية بأسماء لاعبي المنتخب الوطني، وخاطب عمدة ريو دي جانيرو البرازيليين بأبطال العالم قبيل المباراة النهائية، وظلت الصحافة العالمية تكرِّر أن البرازيل ستكتسح أوروغواي، وتفوز باللقب، خصوصًا أن البرازيل فازت قبل عام على أوروغواي بنتيجة. (5-1)
شهدت المباراة الأخيرة في البطولة بين البرازيل والأوروغواي حضورًا حاشدًا في ملعب (ماراكانا) في 16 تموز/ يوليو 1950، فقد وصل عدد الحاضرين إلى نحو 200 ألف مشجِّع، في مباراة كان يكفي التعادل فيها لتتوج البرازيل باللقب، بينما طالب مدرب منتخب أوروغواي لاعبيه بالدفاع وإهمال الاستماع إلى الجمهور في المدرجات نهائيًا.
لكن الحلم البرازيلي انقلب إلى كابوس بسبب خطأ من الحارس البرازيلي، باربوزا، وخسرت البرازيل المباراة واللقب، وتُوِّجت أوروغواي بطلة كأس العالم مرة ثانية، وبكى البرازيليون وغرقوا في دموعهم، وساد الصمت في الشوارع، وكانت مأساة برازيلية كبرى. على الرغم من أنه لم يكن هناك تلفاز آنذاك، وأن المباراة لم يشاهدها سوى جمهور الملعب، إلا أن البرازيليين كانوا يدورون حول المذياع، ينصتون ويعلقون على مجريات المباراة. وأُطلق على حادثة (الماراكانا) هذه اسم (ماراكانازو)، ومنذ تلك المباراة أعلن الاتحاد البرازيلي لكرة القدم تغيير لباس الفريق من الأبيض الذي جلب الشؤم، إلى اللونين الأزرق والأصفر.
تحوّلت هذه المباراة إلى عقدة بالنسبة إلى حارس المرمى البرازيلي طوال حياته، فقد عاقب نفسه بالسجن في منزله إلى أن توفي بعد 50 عامًا، وفي ذلك قال “أقسى عقوبة للمجرمين في البرازيل هي السجن 30 عامًا، وأنا أعاقب نفسي بالسجن مدى الحياة”. الغريب أن باربوزا كان أفضل حارس في البطولة، وكان مثلًا أعلى للبرازيليين. بينما بيليه الذي كان مجرد طفل آنذاك، عندما رأى والده يبكي بالقرب من المذياع، سأله: لماذا تبكي يا والدي؟، فأجاب الأب: خسرنا كأس العالم، فردّ بيليه: عندما أكبر سأحرز كأس العالم من أجلك.
يمثِّل عام 1950 عام الإخفاق القومي الذريع، عام تحطّم أرواح ومعنويات البرازيليين، وفقدانهم الثقة بأنفسهم. وقد ابتدع الكاتب والمسرحي والروائي البرازيلي آنذاك، نيلسون رودريغوس، مصطلحًا جديدًا للتعبير عن الحالة البرازيلية بعد الهزيمة، وهو مصطلح “عقدة مونغريل”، في إشارة منه إلى خواء البرازيل وذبولها وهامشيتها وتلاشيها، مشيدًا بقدرات وعظمة الآخرين “الآخرون رائعون، ونحن بلا قيمة”. يشير اسم مونغريل إلى كلاب الشوارع، وكأن رودريغوس أراد القول إن فشل البرازيليين الدائم قد شكل عندهم عقدة يمكن أن تحوّلهم إلى أمة من كلاب مونغريل.
كلب مونغريل هو كلب مختلط، هجين، يُطلق عليه أيضًا اسم كلب تربية عشوائية أو الكلب الضال المنبوذ، معاكس لمصطلح الكلب الأصيل، وعادة ما تستخدم التسمية هذه بطريقة ازدرائية؛ كلب بطيء التعلم، يواجه مالكوه صعوباتٍ في إدارته وتدريبه مقارنة بالأصيل، ويعامل كلب مونغريل الغرباء بشيء من عدم الثقة، ليس لديه غرائز ثابتة نسبيًا، كما هو الحال في الكلاب الأصيلة، لذا يصعب التنبؤ بالسمات التي سيرثها جرو مونغريل من والديه، بينما يمكن التنبؤ بأي جرو من كلب أصيل، وغالبًا ما تكون كلاب مونغريل الصغيرة عدوانية تجاه الأطفال والحيوانات الأخرى، على الرغم من أنها تتميز بقدرتها على التحمل وبعاداتها الغذائية البسيطة بحكم تعوّدها احتمال صعوبات الحياة في الشوارع.
بعد ثماني سنوات، تواجه البرازيل السويد في نهائي كأس العالم 1958. تقدمت السويد في بداية المباراة بهدف ضد البرازيل، لكن بيليه (17 سنة) أبدع وقتها، وسجّل هدف التعادل. فازت البرازيل في المباراة على السويد بنتيجة (5/2)، وسجل بيليه هدفًا ثانيًا في المباراة برأسه. كان حلمًا قد تحقّق، وكان شيئًا مذهلًا حقًا.
لم ينم بيليه وقتها. لم ينم البرازيليون. كانوا يقفزون ويرقصون ويهلِّلون، استقبلوا فريقهم، احتفلوا بالنصر، ورحبوا بعودة لاعبيهم المذهلين. ظهر بيليه بوصفه الرجل الذي بدأ بحل عقدة مونغريل البرازيلية. جعل البرازيليين يحبون أنفسهم مجدَّدًا؛ هذا ليس أمرًا بسيطًا أو عابرًا. أصبح بيليه رمزًا وطنيًا برازيليًا، للبيض والسود والمختلطين منهم على حد سواء، وتحوّل إلى رمزٍ لتحرّر البرازيل، وإلى صورة ملهمة لهم؛ فتى أسود فقير، يرغب الجميع في أن يكون مثله. عندما يُسأل أي برازيلي من أين أنت؟ ويجيب: من البرازيل، فيردّ عليه السائل: آه أنت من البرازيل، من بلد بيليه! نعم، جعل بيليه البرازيليين يقولون بفخر إنهم برازيليون.
كانت مرحلة أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات مرحلة مميزة جدًا في تاريخ البرازيل، فقد ظهر بيليه في لحظة ظهور البرازيل كدولة حديثة؛ دولة وثقت بنفسها ونجحت، وبيليه هو بطل الرواية الذي لم يعد لاعب كرة قدم فحسب، بل أصبح مؤسسة وطنية. كرة القدم هي ما أبرزت هوية البرازيليين للعالم. ما أنتجه البرازيليون في الواقع هو ما حدَّد هويتهم، وليس اجترار الماضي. كانت تلك أوقاتًا سعيدة بالنسبة إلى البرازيليين، لكنها انتهت في عام 1964 عندما تلاشت المساحة الديمقراطية بفعل الانقلاب العسكري.
ما حدث في سورية، خلال العقد الماضي، يشير إلى فشلنا وهزيمتنا بوضوح، دولةً ومجتمعًا ونخبًا. لكن الفشل والهزيمة ليسا قدرًا محتومًا كما يروّج كثيرون ممن باعوا الوهم ومارسوا التضليل سابقًا، جهلًا أو قصدًا، وها هم ينشرون حتمية الفشل اليوم. لا شك في أن الفشل حتميٌ بوجود صنّاع الأوهام أولئك، وحتميٌ في ظل استمرار العقلية التجريبية، والاستعراضية، والشعبوية، والهزيلة، والانتهازية، وقصيرة النفس، لكنه ليس ملازمًا أبديًا للسوريين.
فشلت الدولة السورية، وتحوّلت من دولة ضعيفة إلى دولة رخوة، ومن ثمّ إلى دولة فاشلة. وفشلت النخب السياسية الثقافية في بلورة رأي عام سوري وبناء أوليات فضاء وطني عمومي. وفشلت التشكيلات والقوى السياسية في تصوراتها وتحليلاتها ومراهناتها وممارساتها. إنه شكل من أشكال الفشل العام الذي طال كل شيء، وفشلنا جميعنا في أن نكون رقمًا في معادلة تقرير مصير بلدنا ومصيرنا. كل فشل بشري في الواقع يشير إلى هزيمة نمط من التفكير والأداء؛ فإن كان بعض الفشل سببه نصف قرن من الاستبداد، فبعضه الآخر سببه حكمًا الثقافة السائدة وأنماط التفكير المهيمنة.
في مراحل الهزيمة والفشل تذهب نخب سياسية فكرية واسعة إلى الماضي لاستحضاره وإعادة إنتاجه، ولتصدِّره لنا بوصفه هوية. أصلًا سؤال الهوية لا يظهر بحدّة وكثافة إلا عندما تكون الهزيمة شديدة وطاحنة، ليصبح السؤال نفسه، سؤال الهوية، بالضرورة مأزومًا ودالًا على أزمة في الواقع؛ واقع مأزوم وتفكير مأزوم يدعمان بعضهما بعضًا، ويدخلاننا في أزمة دوارة ومستمرة. مجدَّدًا، الهوية أمامنا وليست خلفنا. الهوية ما ننتجه، نحن أبناء الحاضر، في الواقع، ماديًا وروحيًا ومعنويًا. عندما ننتج تأخذ هويتنا في التبلور تلقائيًا، مستوعبةً ومحتضنةً الماضي بدلًا من التهامه لنا. حديث الهويات هو حديث الكسالى وسلالات مونغريل الهائمة على وجهها.
من المهم ألا يتحول فشلنا إلى عقدة مونغريل تلازمنا، فنتوقع الفشل قبل أن نبدأ، حتى بتنا نخاف أن نفكر في أن نبدأ، لاعتقادنا أن الفشل حتمي. الفشل والنجاح ليسا حتميين، هما فعلان بشريان يرتبطان بالبشر وإرادتهم وثقافتهم من جهة، وبالأحوال الموضوعية من جهة أخرى. نقد وعينا وثقافتنا، ورؤية أنفسنا في المرآة، ودراسة الواقع الموضوعي والحدود التي يسمح بها، مقدِّمات أساسية لوضع رؤى جديدة وخطط وبرامج ومبادرات ممكنة التطبيق. النجاحات الصغيرة مهمة، بل أكثر أهمية من طرح المشاريع الكبيرة التي تقفز مسافات ضوئية في الهواء بعيدًا من الواقع، والفاشلة سلفًا. السؤال هو كيف نغادر الفشل؟ جواب السؤال يبدأ من التفكير في الجذور؛ الفكر وأنماط الثقافة السائدة.
المصدر: المدن