محمد سعيد سلام
لا يوجد خطأ في التسمية كما يتبادر إلى ذهن بعضهم، فإذ أطلق أصحابها عليها الجبهة الوطنية الديمقراطية ” جود ” فإن ذلك لا يغير من دورها المشابه للتقدمية الأولى شيئا مع اختلاف المخدومين، ولقد كانت أحزاب الجبهة الأولى قبيل أن يعتلي الديكتاتور المجرم سدة الحكم في سورية أحزابا تنتمي للشعب السوري أو هكذا حرصت، وتريد صناعة تغيير لصالح المواطنين عبر أيدولوجيات مختلفة بطرق ديمقراطية أو قريبة لها، إلا أنها شطرت أقساما وفق البنية النظرية السياسية وانتماءاتها الايدلوجية نفسها، فبعضها أيدت الديكتاتور المجرم الأب وانحازت له وكانت جزءا من المصفقين، وبعضها لوحق فسجن أو اغتيل أو هجر، وحافظت بعض الأحزاب على كينونتها دون أن تنشطر، وشكلت رافعة للعصابة طيلة أربعين عاما باستثناء أفراد منها نالهم ما نال اقسام أحزاب أخرى؛ فلا يحتج بالوطنية لمجرد الانتماء أو التموضع بمكان دون معرفة التفاصيل والحيثيات .
وعند إيراد هذه التفاصيل والحيثيات للبناء عليها والاستفادة منها والاعتبار بها لمزيد من الدقة السياسية، فإن شريحة معينة ممن يتعاطون الشأن العام سرعان ما تبرز لتواجه هذه الدقة السياسية وتنسبها إلى فكرة المؤامرة أو التخوين، ويتقمصون دور الواعظ الأخلاقي مطالبين بضرورة الكف عن التخوين والبحث عن المشتركات والدعوة إلى التجميع بوعي انتهازي من بعضهم، وبجهل سياسي من آخرين؛ أو يلبسون رداء العقلاء الحكماء فيحيلون كل هذه الحوارات والأفكار إلى ذهنية المؤامرة فمن غير المقبول عندهم إيراد السؤال البسيط العميق القائل: ما الذي يدفع العصابة المجرمة إلى الحفاظ على معارضة عتيدة، لها تاريخ طويل في النضال لتبقى مقيمة في دمشق وتسافر من مطارها، في حين تنكل بشاب لم يتجاوز عقده الثاني بطريقة متوحشة لمجرد أن هتف ببعض الشعارات الوطنية في إحدى الساحات السورية ؟
ومرفوض سؤال آخر، هل حقيقة أن هذه معارضة شكلية للعصابة الآن أم أنها محمية من أحد المحتلين لهدف ما. لا تصح هذه الأسئلة وأمثالها، والتسليم للنسق التفاعلي سيد الموقف!
فهل يحق للطرف المتهم بعقلية المؤامرة والتخوين أن يصف متهميه بالخضوع والخنوع ؟
لقد تقاسم معسكرا أصدقاء الشعب السوري واعداءه هياكل المعارضة، وتم تنقيتها رويدا رويدا من الثورة التي تريد التغيير السياسي لتصبح هذه الهياكل المشغلة من قبل المعسكرين جاهزة للحفاظ على بنية العصابة، ومن هنا كان القرار الأممي 2254 الذي هيأ لصيغة الرياض وأنتجها، فحوت الائتلاف وهيئة التنسيق – رأس الجبهة الوطنية الثانية – ومنصة موسكو ومنصة القاهرة والفصائل ومستقلين منسجمين مع من سبق، فلا جدوى سياسية في عملية المفاضلة بين هؤلاء بحجة تموضعهم داخل سورية أو خارجها، فقد ضمهم هيكل واحد، كما ضمتهم اللجنة الدستورية، أو بسواها من الحجج؛ وإن متابعة تصريحاتهم المتبادلة في الأيام القليلة الماضية يؤكد التناغم الكبير فيما بينهم، ويعبر عن توجهاتهم الواحدة تقريبا .
وليس مجرد الوجود في سورية سمة لصالح الثورة سياسيا أو ضدها، وكذلك مجرد الوجود خارجها، واطياف المعارضة أولاء منساقون وراء المحتلين، بعضهم أو كلهم، ويستقوون بهم، والمحتلون أنفسهم – الأصدقاء والأعداء – حافظوا على العصابة سياسيا وعسكريا وحافظوا على هؤلاء بآن معا.
وأورد هذه المعادلة السياسية الواضحة لأدنى متابع، تحريا للدقة السياسية، ولمعرفة توازناتها القائمة على الأرض، للبحث عن تموقع وطني خارج أطر هؤلاء، وسيقابل هذا التوصيف الواقعي بأنه منسجم مع فكرة المؤامرة والتخوين للهروب من استحقاقاته، أو سيعارض بأنه خارج الواقعية السياسية لتبرير النفعية والانتهازية، لكنه – وهو المراد والأهم – سيلفت نظر المهتمين فيزيدهم إصرارا على الخط السياسي السيادي بعيدا عن المشغلين وأزلامهم، كما سيلفت نظر العارفين فيوضح لهم المسارات القائمة.
ومن يريد الاتكاء على البيانات والتصريحات، ويحكم من خلالها على أصحابها بعيدا عن السلوكيات والعلاقات السياسية، فليعد إلى سلسلة بيان رقم ” 1 ” من العسكر والانقلابيين في كل تاريخ الدولة الوطنية؛ وليعد إلى وثائق المحتلين حديثا وقديما فماذا سيجد في تلك البيانات والتصريحات والوثائق غير الكلام المعسول حول الحرية والديمقراطية والرفاه؟!
وبقليل من التحليل السياسي دون كثيره المستند إلى إشارات قريبة، فضلا عن المتوسطة العائدة إلى بداية الثورة العظيمة، فإنه يمكن إثارة الاستفسار المفصلي التالي: لماذا ظهرت الجبهة الوطنية الديمقراطية ” التقدمية الثانية ” الآن ؟
منذ بداية الاحتلال الروسي المباشر لسورية، وما مارسه من توحش، وما ارتكبه من إجرام ضد تقدم الثورة الملحوظ الذي كسر الحرس الثوري الإيراني، بعد أن كسر ميليشياته، والعصابة الحاكمة قبلهما؛ تجري تحركات سياسية إقليمية برعاية دولية لإنتاج صيغة سياسية التفافية على الثورة وإرادتها دون أي نجاح يذكر لهذه التحركات، ما عمق أزمة الإقليمي والدولي، وصعب الصيغة السياسية عليهم، وإن الشهور الأخيرة أكدت ارتفاع منسوب الضغط الثوري على الإقليمي والدولي، خصوصا ما برز في الذكرى العاشرة للثورة، وتبدو أغلب الكرازايات السورية أو جميعها المدعومة من قبل الأجهزة الإعلامية والمخابراتية والمراكز البحثية صغيرة جدا أمام المشهد السياسي السوري المرتقب؛ وقد ظهر جليا مدى خواء طرح هذه الكرازايات، ولم تكن موفقة ولا مقنعة في ظهورها الإعلامي، وبدت مهزوزة على نحو لافت، أما الهياكل المصنعة فهي فاقدة للشرعية كما العصابة الحاكمة، ولا تستند المحاولات الجديدة الداعية إلى مؤتمرات وهمية، أو مجالس عسكرية، أو أحزاب، إلى رؤية سياسية عميقة تعبر عن إرادة الثورة بقوة، لذلك لم تستطع أن تحقق القبول المطلوب لما ظهر من ضعف حواضنها بعكس ما يتوهمه ثلة.
وإن ” الجبهة التقدمية الثانية ” التي تعتبر خطوة تتويجية ومكملة لما سبق بمستوى ما، والمحاصرة في المبنى تنتظر الشرطة السورية لتخرجها منه لن تكون أوفر حظا من هؤلاء، بل إنها أقل إقناعا للسوريين، فماذا ستقول المخيمات إذا سمعت أن العصابة تحاصر بعض معارضيها بأحد مباني دمشق ؟! هل تخلت عن التدمير الهمجي الذي لم يبق ولم يذر ؟! هل ستعتمد أسلوب حصار المباني فقط ؟! وماذا سيقول الشرفاء المهجرون المصرون على ثورة الحرية والكرامة والعدالة الذين هجرتهم وحشية العصابة المجرمة ؟! هل هي نفسها التي تحاصر الجبهة الوطنية الديمقراطية – التقدمية الثانية – وماذا ستقول الحرائر المغتصبات الطاهرات عن جهاز الشرطة الذي سيأتي – حسب إحدى صوتيات أحد المؤتمرين – ليفك الحصار؟! هل هذا الجهاز هو عينه الذي يعمل في ظل منظومة الأجهزة المخابراتية السورية التي لم تترك جريمة أو دناءة إلا فعلتها بالسوريين عبر نصف قرن من الزمن ؟!
إنها الرواية والمشهد الذي حرك المعارضين المماثلين، ولهذا لا بد من تثبيت أن الثورة ليست من المعارضة، وأنها ضد العصابة الحاكمة، وتختلف كليا عنهما .
وإن المعارض الحقيقي هو من سينتمي إلى الثورة، وعلى أساسها سيمارس دوره السياسي، لا من خلال حزبه السابق، وإن أية معارضة للعصابة تستقوي بأحد المحتلين فإنها لا تختلف عن العصابة في ارتهانها، ولن تكون قادرة على تحقيق الانتقال السياسي الذي ينشده السوريون، فلماذا يطالبون الثورة بدعمهم أو بالسكوت عنهم .
سيبادر أحدهم بالقول: هل مهمتنا النقد وحسب؟ بالتأكيد لا، دون التقليل من قيمته التوضيحية وأثره المستقبلي، وليست مهمتنا أيضا التصفيق والانسياق وراء كل صورة أو خطوة دون تفكيك عناصرها، ودون معرفة حوافها، فيبين الخلل والختل وأصحابهما.
ولا بد من جر جميع الأشخاص الذين يؤمنون بالذات السورية المستقلة، ويحرصون على بنائها رغم الصعوبات الجمة مهما قل عددهم، وحصر المحتلين وأدواتهم السورية في خانة مغايرة ومنع الاختلاط وتمييع الأجواء السياسية.
المصدر: رسالة بوست