محمد السعيد
تتواصل الاستعدادات على قدم وساق في ساحة “تيانانمن”، أكبر ميادين العاصمة الصينية، استعدادا لإحياء الذكرى الثانية والعشرين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. تُذيع مكبرات الصوت موسيقى و”مارشات” عسكرية، بينما يؤدي الجنود والطلاب تدريباتهم النهائية استعدادا للعرض، في حين تتوافد السيارات الفارهة السوداء على البناية الكبرى المخصَّصة لمجلس نواب الشعب، حاملة قادة البلاد والحزب الشيوعي الحاضرين بأكملهم، كعادتهم في مثل هذه المناسبة، باستثناء شخص واحد فقط يفتقده الجميع اليوم، “لين بياو” وزير الدفاع، الذي كان نائبا للزعيم الصيني التاريخي “ماو تسي تونغ”، وخليفته المعلن، والرجل الثاني في البلاد.
قبل ذلك بأيام قليلة، وتحديدا في 12 سبتمبر/أيلول 1971، أقلعت (1) طائرة من طراز “ترايدنت” من مطار “بيداهي”، على بُعد نحو 240 كم شرق العاصمة بكين، قاطعة الحدود مع منغوليا، قبل أن تسقط فجأة لتتحطَّم تماما، ولتعثر فرق الإنقاذ، بين حطام الطائرة، على بقايا بذلات عسكرية ووثائق ممزقة وأسلحة وجثث مُتفحِّمة. بعدها سرعان ما أُعلِن عن مصرع “لين بياو”، وعدد من أفراد عائلته ومساعديه، في عملية لا تزال أحد أكبر الألغاز في عالم التصفيات السياسية في التاريخ.
تكشَّفت الأمور تِباعا بعض الشيء عبر معلومات سُرِّبت على مدار السنوات التالية، كان “لين بياو” قد فشل للتو في تنفيذ خطة انقلاب عسكري للاستيلاء على السلطة واغتيال “ماو” إثر خلافات بين الرجلين، على إثر اتخاذ “ماو” قرار التقارب مع الولايات المتحدة، بينما كان “بياو” يرغب في تقارب أكبر مع السوفييت. وبعد الفشل اتخذ قراره بالفرار إلى موسكو، قبل أن تتحطَّم طائرته في ظروف غامضة.
منذ بدايات تأسيس الجيش الأحمر عام 1927، بعد انتفاضة “نانتشانغ” (2)، تأكَّدت تبعية الجيش للحزب الشيوعي بوصفه ركيزة أساسية للحكم الجديد في الصين. وعلى مدار العقود التالية، لم يُمثِّل الجيش الأحمر خطرا كبيرا يُهدِّد قادة الحزب، بسبب الولاء الأيديولوجي الصارم الذي فُرِض داخل صفوفه، حتى إنه لعب لفترات طويلة دور ذراع التطهير التي استخدمها الحزب للتخلُّص من منافسيه السياسيين، إلى درجة أن “ماو” استخدم “لين بياو” نفسه للتخلُّص من خليفته “ليوتشاوشي” الذي كان يشغل منصب الرئيس، ومؤيديه، قبل أن يجمد “ماو” منصب رئيس الجمهورية أربع سنوات كاملة، ويصعد “بياو” خليفة له، نائبا أوحد لرئيس الحزب الشيوعي الصيني.
أدخل (3) “بياو” إصلاحات عسكرية كبيرة على تسليح الجيش الصيني وتدريبه، ما مهَّد طريقه للتدرُّج في صفوف الحزب الحاكم، قبل أن يسعى للانقلاب على “ماو”. لذا فإن تجربة “بياو” أورثت مخاوف لدى القادة الحزبيين من أن جيشا أكثر احترافية يعني بالضرورة الخروج عن سيطرة الحزب، أو محاولة فرض سياسات بعينها على أجندته. وفي الشهور والسنوات التالية، شنَّ “ماو” ورفاقه حملة تطهير واسعة في صفوف الجيش الصيني، استهدفت تصفية القادة والضباط القريبين من “بياو”، بهدف استعادة زمام الأمور داخل الجيش.
اكتشف “ماو” آنذاك أنه يعاني من القوة المتزايدة للقادة العسكريين المحليين، وإمكانات الصراع بينهم أو مواجهة السلطات المركزية، لذا عقد اجتماعا مع رئيس الأركان الجديد، ليُشير على “ماو” باستبدال جميع القادة وكبار الضباط في المناطق العسكرية الثمانية. استجاب ماو للنصيحة بالفعل عبر تعيين قادة جدد، ولم يسمح لأيٍّ منهم باستقدام موظفين موالين لهم إلا في وظائف الخدمات مثل السكرتارية والطهي والحراسة.
أفرزت التكتيكات الجديدة نتاجا جيدا، فعلى مدار العقود التالية لم تحدث أي اضطرابات أو تمرُّدات عسكرية إقليمية، حتى مع مرور البلاد بفترات مضطربة مثل وفاة “ماو” عام 1976، أو حتى حادث “تيانانمن” عام 1989. وبدا أن القيادة الصينية نجحت في تقويض التهديدات المُحتمَلة من طرف المؤسسة العسكرية، من خلال إجراء تعديلات مُتفرِّقة واسعة النطاق على النخبة العسكرية العليا على مر السنين، وهو ما يجد الرئيس “تشي جين بينغ” اليوم نفسه مضطرا لفعله من جديد، على نطاق واسع، وبطريقة تشبه ما فعله “ماو” تقريبا، ولكن لأسباب مختلفة جذريا.
لا شيء يمكن أن يُطلعنا على عمق الفجوة بين نظرة الصين ونظرة الغرب إلى الحرب من مقارنة خاطفة بين كتابات المُنظِّر الحربي الأبرز لكلا المعسكرين، رغم وجود فجوة زمنية بينهما تمتد عبر أكثر من ألفَيْ عام. بالنسبة إلى “كارل فون كلاسفيتز” (1780-1831)، الخبير العسكري البروسي، فإن “هناك العديد من الطرق لتحقيق الأهداف، ولكن بالنسبة للأهداف السياسية تبقى الوسيلة الوحيدة هي القتال، حيث يخضع كل شيء لقوة السلاح”. أما “صن تزو” (551-496 ق.م)، المُنظِّر العسكري الأشهر في تاريخ الصين، فيرى أن “خوض مئة حرب، حتى لو انتصرت فيها جميعا، ليس بالقرار الحكيم، ولكن الحكمة تكمن دوما في كسر مقاومة العدو دون قتال”. لا عجب إذن أن مفاهيم مثل “شنزان”، التي تعني “الحذر من الحرب”، هيمنت لقرون طويلة على التفكير العسكري الصيني، وأورثت البلاد نظرة دفاعية في المقام الأول في التعامل مع الأمور العسكرية.
إضافة إلى ذلك، ونتيجة المساحة الشاسعة للأراضي الصينية، فإن الصين أولت الكثير من الاهتمام لقواتها البرية، وأهملت إلى حدٍّ كبير القوة البحرية، إلى درجة دفعت “هيجل” إلى أن يصف البحر بالنسبة للصين على أنه مجرد “نهاية لحدود اليابسة”. لم تكن إستراتيجية الصين العسكرية عبر معظم تاريخها أكثر من تنويعات على خطة ثابتة، تشكيل جيش بري قوي وهائل العدد يُمكِّنها من التصدي لغزو قوة مُتفوِّقة عسكريا مثل المغول أو الهان أو حتى الاتحاد السوفيتي. ومع هيمنة الاقتصاد الزراعي على الصين زادت أهمية مسألة الحفاظ على الأراضي، وهو ما عنى (4) أن الإمبراطورية الكبرى سوف تواصل إدارة ظهرها إلى البحر.
ولكن هذه النظرة تغيَّرت (5) خلال العشرين عاما الأخيرة، مع النشاط الاقتصادي الصيني وتوسُّع المصالح الاقتصادية لبكين في آسيا وأفريقيا، وارتباط النمو الاقتصادي للبلاد بأمن الطاقة، وضمان حرية الملاحة في الممرات البحرية وعلى الأخص بحر الصين الجنوبي والشرقي، حيث عمدت الصين خلال العقدين الماضيين إلى تأسيس ترسانة بحرية قوية، تستهدف فيها أسطولا يزيد عدده على 340 سفينة بحلول عام 2020 يضم حاملتَيْ طائرات (6)، وتعزيز قدرات الدفاع الصاروخي الخاصة بها، إضافة إلى تطوير قواتها الجوية.
وصل الرئيس “تشي” إلى السلطة في خضم هذه الفورة من التسليح العسكري الصيني. وسرعان ما أدرك أنه رغم ضخامة الجيش الصيني، والطفرة التي يُحقِّقها على مستوى التسليح، فإنه تحوَّل إلى منظمة راكدة يرتع فيها الفساد، والأهم أن هيكله الإداري والقيادي متعدد الطبقات، والمفتقر إلى التلاحم اللازم بين مختلف الأسلحة والوحدات، صار مع الوقت أبعد ما يكون عن مواكبة التحديات، وأكثر تخلُّفا عن معايير خوض الحروب الحديثة.
كان الجيش الصيني لا يزال مُشكَّلا على نمط الجيوش السوفيتية السائد خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وبدا أنه يواجه الأزمة نفسها التي واجهها الجيش الأميركي خلال حقبة الحرب الباردة، مع ظهور الجيل الجديد من الحرب الذي يعتمد اعتمادا كبيرا على القدرة على تنسيق العمليات المشتركة، وهي أزمة يساهم تسليط الضوء عليها في شرح موقف “تشي”.
وجد الجيش الأميركي، آنذاك، أن من الصعب للغاية التنسيق بين الجيش، أي القوات البرية، والقوات البحرية والجوية عند التخطيط أو إجراء العمليات، أو الحصول على العتاد، على الرغم من أن الأفرع الثلاثة الرئيسة للجيش، القوات البرية والبحرية والجوية، دُمِجت تحت سلطة وزارة دفاع منذ عام 1947، وذلك بسبب استمرار المنافسات الحادة بين مختلف الخدمات التي عرقلت أداء الجيش، لدرجة أن القائد الأكثر شهرة للقوات الجوية الأميركية، الجنرال “كورتيس ليماي”، نُسِب إليه قوله: “السوفييت هم خصمنا، أما عدونا فهي البحرية”.
الأسوأ من ذلك، أن فروع الخدمة القوية (في الجيش) اغتصبت كثيرا من السلطة التنفيذية للقيادة الميدانية، فكان من الشائع أن يجد القائد العام القوات قد انتقلت إلى مناطق مسؤوليتها أو خارجها بناء على طلب من مقر الخدمة في واشنطن، وأحيانا حتى بدون علم القائد العام للمنطقة. وساهم هذا القصور في خطوط القيادة في الفشل الكارثي لعدة عمليات عسكرية، على رأسها عملية “مخلب النسر”، وهي محاولة عام 1980 لإنقاذ الرهائن الأميركيين في إيران، بسبب عدم التنسيق الفعال بين الجيش والقوات البحرية.
دفعت هذه المشكلة الكونغرس إلى صياغة تشريع لإعادة تنظيم الجيش الأميركي مطلع الثمانينيات، وهو القانون الذي أُطلق عليه قانون “جولدووتر نيكولز”، بهدف بإصلاح سلسلة القيادة التنفيذية للجيش. قلَّل القانون من صلاحيات الخدمات للتركيز على أعمال التدريب والتطوير، كما عزَّز سلطة وزير الدفاع على كل فروع الجيش، وهو ما ظهرت نتائجه سريعا في صورة أداء قيادي مميز تنسيقيا خلال حرب الخليج وما بعدها. ورغم أن حديثنا لا يدور عن الجيش الأميركي، فإن التحديث الهيكلي الذي يقوده “تشي” اليوم في الجيش الأحمر الشيوعي هو للمفارقة أشبه ما يكون بالتحديث الذي خاضه الجيش الأميركي قبل أربعة عقود، وهو في جوهره، كما أسلفنا، انتقال من النمط السوفيتي للجيوش التي تُركِّز على القوات البرية إلى نمط أقرب لطريقة عمل الجيوش الغربية التي تُركِّز أكثر على التكامل بين الوحدات وتحسين أداء العمليات المشتركة.
كانت مشكلات الجيش الصيني (7) كما لحظها “تشي” تدور حول عدة أمور: أولها نظام القيادة غير الفعال “متعدد الطبقات” الناجم عن ضعف سيطرة اللجنة العسكرية المركزية، وهي القيادة العسكرية المزدوجة في كلٍّ من الحكومة والحزب الشيوعي والمسؤولة عن الإشراف على الجيش والمُشكَّلة من 11 شخصا ويرأسها “تشي” نفسه؛ ضعف سيطرتها على أقسام الجيش الأربعة “الموظفين والشؤون السياسية واللوجستيات والأسلحة”، حيث يقتصر دورها على وضع الإستراتيجية العامة، في حين تعاني العمليات التشغيلية من تداعيات الانقسام طويل الأمد (8) بين القوات المقاتلة “المُشتبِكة مع العدو”، والعمليات الأخرى “اللوجستيات والنقل وما إلى ذلك”.
أما ثاني هذه المشكلات، وربما أكثرها وضوحا، فتَمثَّلت في السيطرة (9) المطلقة للقوات البرية على أقسام الجيش الأربعة، حيث لم تكن تُستدعَى الوحدات الأخرى، أي القوات البحرية والجوية، إلا في أوقات الحرب التي تخضع فيها كاملة لإشراف القوات البرية، وهي قوات لا تمتلك مقرا خاصا ولكنها تستخدم مقرات الأقسام الأربعة بوصفها مقرات خاصة بحكم الواقع. ثم هناك ضعف قدرات الجيش الصيني على القيام بالعمليات المشتركة التي تتطلَّب مشاركة الوحدات البحرية أو الجوية مع القوات البرية، بحكم الثقافة العسكرية طويلة الأمد التي تُهمِّش من دور هذه الوحدات، وأخيرا هذا التضخُّم الهيكلي في صفوف الجيش، ووصوله إلى عدد 2.3 مليون شخص، يتركَّز معظمهم في الوحدات البرية، في حين تعاني أسلحة الجو والبحر والصواريخ من نقص العمالة وبالتالي القدرات.
بناء على هذا التشخيص، شرع “تشي” عام 2015 في تنفيذ خطته للإصلاح الهيكلي، خطة أعلن عنها خلال الاجتماع الثامن عشر للجنة المركزية للحزب الشيوعي في عام 2013، وتضمَّنت العديد من الإجراءات، بدأت بتحديد المسؤولية عن الجيش حصرا بوصفه أحد اختصاصات اللجنة العسكرية المركزية، التي كُلِّفت بإدارة الخدمات العسكرية ومسارح العمليات مباشرة، بدلا من ممارسة دورها القيادي من خلال الإدارات الأربعة السابقة، التي دُمِجت مع 11 وكالة أخرى تحت القيادة المباشرة للجنة المركزية، وباتت هذه الهيئات الـ15 في الوقت الراهن تقف جميعا على المستوى نفسه من النفوذ، على الأقل من الناحية النظرية.
من بين هذه الوكالات الـ15، تتولَّى ثلاث وكالات، “لجنة التفتيش التأديبية” و”لجنة السياسة” والقانون و”مكتب إدارة مراجعة الحسابات”، مسؤولية الإشراف العسكري وأنشطة مكافحة الفساد، وجميعها لجان مشتركة بين الحزب والجيش لضمان سيطرة الحزب. شملت التغييرات أيضا تقليص الهيمنة الكاملة للقوات البرية، عبر إنشاء مقر خاص لها أسوة بالقوات البحرية والجوية، لتتحوَّل المقرات السابقة للجيش إلى مراكز عمليات مشتركة تخضع لإشراف اللجنة العسكرية المركزية وقيادة الجيش. ورغم أن كبار ضباط القوات البرية لا يزالون يسيطرون على مواقع القيادة في هذه الوكالات، فمن المُرجَّح أن تُختَار قيادات من الوحدات الأخرى في أعقاب انعقاد المؤتمر التاسع عشر للحزب المقرر عقده في سبتمبر/أيلول من العام الحالي.
لم تقتصر الأمور على ذلك فحسب، إذ قام “تشي” أيضا بترقية فِرَق المدفعية الثانية “الصواريخ”، التي كانت خاضعة لقيادة القوات البرية، إلى خدمة خاصة مستقلة توازي أفرع الجيش الثلاثة، وأُسندت إليها إدارة إمبراطورية الدفاع الصاروخي المتوسِّعة في البلاد، بما يشمل الصواريخ التقليدية والنووية. كما استُحدِثت قوة الدعم الإستراتيجي التي تم ترقيتها مباشرة إلى مستوى خدمة أو سلاح كامل، على قدم المساواة مع الأفرع الأربعة، وتتولَّى الوحدة الجديدة مهام الحرب الإلكترونية وحروب الفضاء. وزِيدَ تمويل هذه العمليات بنسبة 30%، وأسوة بالولايات المتحدة قُلِّصت أدوار أسلحة الخدمات لتتولَّى فقط مهام التدريب والتطوير.
على مستوى التوزيع الميداني للجيش، تم التخلِّي عن التقسيم القديم للبلاد إلى سبع مناطق، لصالح تقسيم جديد (10) أكثر مركزية يضم خمس مناطق فقط: “شمالية وجنوبية ومركزية وشرقية وغربية”، مع خطة لتخفيض عدد الجيش ليصل إلى مليونين فقط بحلول عام 2020. وقد خضع الجيش الصيني لموجات (11) تقليص متتالية منذ الثمانينيات، خُفِّضت خلالها أعداد الجيش ثلاث مرات: مليون شخص في عام 1985، و500 ألف في عام 1997، و200 ألف في عام 2003. في حين تستهدف الخطة الجديدة تسريح 300 ألف جندي وضابط، مع اتجاه لإلغاء ألوية بأكملها من القوات البرية وتقليص أعداد الكثير من الألوية الأخرى، وإعادة هيكلة 84 وحدة من أجل تقليص تكلفتها وتحسين قدرتها على القيام بالعمليات المشتركة. كما يُخطِّط (12) “تشي” أيضا لتغيير اتجاهات التجنيد العسكري، بما يشمل قبول عدد أقل من الطلاب بنسبة 24% في برامج الدراسة المتعلقة بالقوات البرية في المدارس العسكرية، وهو ما حدث بالفعل في عام 2016 مقارنة بعام 2015. في حين سيزيد الطلاب الدارسون للطيران والصواريخ والبرامج البحرية بنسبة 14%، بينما سينمو عدد طلاب البرامج العسكرية الفضائية والرادارات والطائرات بدون طيار بنسبة 16%.
رغم أن الفضل الأكبر في خطة التطوير العسكري يعود إلى “تشي”، فإنه لا يمكننا فصل هذه الجهود عن سياقها التاريخي القريب، حيث أشارت المسودة الدفاعية الصينية الصادرة عام 2008، التي تُحدِّد لهجة التوجُّهات العسكرية الصينية مستقبلا، إلى رغبة بكين في المشاركة بفاعلية فيما عرفته بأنه “العمليات العسكرية غير الحرب”، التي تشمل الاستجابة للكوارث، والبحث والإنقاذ، وعمليات مكافحة القرصنة، والعمليات الطبية. كانت هذه هي أوراق “الدبلوماسية الخضراء” العسكرية، التي عزت الصين فاعلية الانتشار العالمي الأميركي إليها، وقد بدأت الصين بالفعل خطوات نحو تأسيس انتشار مماثل، ففي عام 2007، أطلقت البحرية الصينية سفينة طبية عملاقة جائلة، رغم أن الصين لم يكن لها آنذاك أي وجود بحري خارجي.
صارت هذه الرؤية أكثر وضوحا في الورقة الدفاعية الصادرة عام 2015 في عهد “تشي” (13)، التي نصَّت على أن الهدف النهائي هو تحويل دور الجيش بالكامل، وإعادة توجيه أفرعه وتوسيع دوره بما يشمل حماية المصالح الصينية في الخارج، وحدَّدت الورقة هذه المصالح في “الطاقة والموارد، وخطوط الاتصالات البحرية الإستراتيجية، والأصول الخارجية”. كان ذلك يعني تحوُّلا جذريا من نموذج الصين المتمركزة حول نفسها، الملتزمة بعدم التدخُّل، نحو سياسة تتماشى مع سياسة القوى العالمية المستخدمة لنفوذها العسكري في الخارج بوصفه أداة فعالة لتأكيد نفوذها الشامل، خاصة مع تزايد أنشطة الإرهاب والقرصنة التي تُهدِّد المصالح المتوسِّعة للصين.
في ديسمبر/كانون الأول عام 2016، أُقِرَّ قانون الإرهاب لأول مرة في الصين، مُفسِحا المجال أمام بكين للمشاركة في عمليات مكافحة الإرهاب في الخارج، بموافقة مجلس الدولة، أي مجلس الوزراء واللجنة العسكرية المركزية. ومَثَّلت هذه التعديلات اللائحية، جنبا إلى جنب مع التعديلات الهيكلية السابق الإشارة إليها، أساسا لجيش صيني أكثر تدخُّلا، وأكثر التزاما أيضا تجاه نمط العمليات المشتركة المرتكزة على كل الأفرع، والمنخرطة في الأنشطة العابرة للحدود أكثر من تركيزها على قضايا الأمن والدفاع الداخلي.
أعاد “تشي” تصميم الجيش الصيني بما يتفق أيضا مع خطته الضخمة المعروفة باسم “الحزام والطريق”، التي تتطلَّب ترتيبات أمنية كافية لتأمين التجارة الصينية خلال مواقع الاضطرابات المعروفة مثل أفغانستان وغرب باكستان. ويأتي تركيز “تشي” على الحصول على حاملات طائرات بهدف تأمين الطرق البحرية الرئيسية التي تقع تحت الحزام والطريق، ضمن إطار هذه الخطة أيضا، ولكنّ إنفاذَ تحوُّلٍ بهذا الحجم لا يمكن اعتباره أمرا هينا على الإطلاق. وهو توجُّه يُهدِّد (14) بإغضاب جيران الصين ورفاقها الدوليين، ويخاطر بتحوُّل صورتها بوصفها “شريكا سلميا” للدول المتورطة في النزاعات.
منذ عهد “دنغ شياو بينغ” أواخر الثمانينيات، حرصت الصين على طمأنة العالم حول سلمية طموحاتها الاقتصادية، وامتناعها عن التدخُّل العسكري المباشر، على الرغم من نشاطها في بيع الأسلحة، ولكن هذه المحرمات تتآكل باطّراد، حيث شاركت الصين أولا في عمليات الأمم المتحدة لمكافحة القرصنة، وهي اليوم تقوم بدور أكثر جدية في بحار جنوب وشرق الصين. وقد وفَّرت هذه التدخُّلات الإقليمية، بدورها، حافزا للدول المجاورة، مثل اليابان، لموازنة نشاط بكين، لكن مخاطر الخطة تتجاوز ذلك بكثير، وصولا إلى أمور تتعلَّق بالداخل الصيني نفسه، تُعيد إلى الأذهان ذكريات “ماو” من جديد.
رسَّخت تجربة “لين بياو” مخاوف متوارثة، لدى قادة الحزب الشيوعي، من أن جيشا حديثا أكثر كفاءة يعني فرصة أكبر للخروج عن سيطرة الحزب. لذا، ففي الوقت الذي يشرع فيه “تشي” في خططه الموسَّعة لتحديث الجيش، فإنه يحرص على تطبيق وصفة “ماو” القديمة نفسها لتعزيز السيطرة: الإطاحة بالنخبة الحالية للجيش، وتصعيد نخبة جديدة موالية له في صفوفه.
منذ بداية خطة التحديث، أطاح (15) “تشي” بـ52 قيادة عسكرية على الأقل من كبار قادة الجيش الصيني بتهم تتعلَّق بالفساد، ضمن عملية إعادة تشكيل واسعة النطاق للمناطق والإدارات والخدمات. ولكن الخطوة الأكبر التي قام بها “تشي” حقا هي إقدامه على إزالة كلٍّ من “جو بوكسيونغ” و”شو كايهو”، النائبين السابقين لرئيس اللجنة العسكرية المركزية.
سيطر “جو بوكسيونغ” و”شو كايهو” على الجيش الصيني لمدة عقد من الزمان، في الفترة بين عامَيْ 2002-2012، وكانت الترقيات بين كبار ضباط الجيش تخضع لموافقة الرجلين. وقوَّض الرجلان بشدة سلطة القيادة المدنية خلال إدارتَيْ “هو جين تاو” و”ون جيا باو”. بدأ الأمر مع مقابلة تلفزيونية علنية في مارس/آذار 2015، كشف خلالها ثلاثة جنرالات سابقين أن “شو كايهو” طلب 20 مليون يوان، نحو 3.25 مليون دولار، مقابل بيع منصب قائد منطقة عسكرية، أما “بوكسيونغ” فإنه اتُّهم هو الآخر باختلاس مخصصات الصناديق العسكرية الصينية. لم يُضِع “تشي” فرصة الإطاحة بالرجلين، أو ربما هندسها بنفسه، وتزامنا معها، قام بحركة تنقُّلات واسعة، واستبدل 57 شخصا من أصل 91 من كبار قادة الوحدات والأسلحة في الجيش منذ عام 2012، بنسبة تغييرات هائلة تقترب من ثلثي شريحة القيادة العليا.
لا يزال يواجه “تشي” تحدي الاحتجاجات المتواصلة لمجتمع قدامى المحاربين الذين يتمتع بنفوذ متزايد في الصين، خاصة أن خطة تشي تضمن تسريح 300 ألف عضو جديد للانضمام إلى هذا المجتمع النافذ
بالإضافة إلى ذلك، ألغى “تشي”، بموجب مرسوم رئاسي أصدره المكتب السياسي للحزب في يونيو/حزيران 2015، جميع الاستثناءات لنظام التقاعد على أساس السن للضباط العسكريين، الذي يبدأ من سن 30 عاما للجنود و45 عاما لقيادات الأفواج و50 عاما لقيادات الفِرَق، وصولا إلى سن 65 عاما لقيادات الوحدات والمناطق و72 عاما لأعضاء اللجنة المركزية. وتَسبَّب هذا التطبيق الصارم في إحالة عسكريين كبار للتقاعد، من بينهم المفوّض السياسي السابق لسلاح الجو “تيان زيو سي”، والمفوّض السياسي السابق للبحرية “ليو شياو جيانغ”، والمفوّض السياسي السابق للمدفعية الثانية “تشانغ هييانغ”، وغيرهم. ولم يقتصر المرسوم على التشديد على إنفاذ حدود السن وحسب، ولكنه أعطى اللجنة العسكرية بقيادة “تشي” صلاحية إقالة القادة غير القادرين على العمل أو غير المؤهلين أو غير النشطين نتيجة لقضايا صحية أو لأسباب أخرى، ما أفسح الطريق أمام الرئيس الصيني لإزاحة عدد من القادة الآخرين باستخدام حزمة أسباب متنوعة ومرنة.
ولكن إذا كان “تشي” قد نجح حتى الآن في تعزيز (16) قبضته وقبضة الحزب على الجيش، فإنه لا يزال يواجه تحدي الاحتجاجات المتواصلة (17) لمجتمع قدامى المحاربين الذين يتمتعون بنفوذ متزايد في الصين، خاصة أن خطة “تشي” تضمن تسريح 300 ألف عضو جديد للانضمام إلى هذا المجتمع النافذ، مع ما يتطلبه ذلك من توفير عدد موازٍ من فرص العمل، أو ما يوازيه من المعاشات التقاعدية والخدمات، وهي الأمور التي لا يكف قدامى العسكريين عن الشكوى من نقصها. لكنّ المحاربين القدامى، مع قدرتهم على إثارة الخلاف، لم يُمثِّلوا في أي وقت “تحديا” لحكم الحزب، خاصة مع امتلاك النظام الصيني العديد من السبل لتحجيم الاحتجاجات، ومع كون “تشي” أثبت أنه لا يمانع من اعتقال مَن يقودون هذه الاحتجاجات أيًّا كانت هوياتهم “بأعصاب باردة”.
يبدو واضحا أن “تشي” يرغب في جمع المزايا من كل شيء، ففي الوقت الذي يتجه فيه لتأسيس جيش على النمط الغربي لحماية المصالح المتوسِّعة لبلاده وتعزيز خطته الكبرى “الحزام والطريق”، فإنه يستفيد أيضا من النمط اللينيني السوفيتي للعلاقات المدنية العسكرية، نمط يُبقي الجيش تحت سيطرة الحزب وسيطرة “تشي” الشخصية (17)، وهو نمط أثبت فاعليته في الصين حتى خلال الأزمات الكبرى مثل أزمة ساحة “تيانانمن” عام 1989. ولكن شبح تجربة “ماو” من غير المُرجَّح أن يفارق، في أي وقت قريب، خيال “تشي”، الذي أثبت أن، بينما يقود جهدا غير مسبوق لتحديث جيش الصين، السيطرة المُحكَمة سوف تبقى، دائما وأبدا، هدفه الأول.
—————————————————————————–
المصادر
NEW BOOK SAYS MAO ORDERED LIN BIAO KILLED
Nanchang uprising
البحوث / لين بياو
heng chinese military culture
China: The Power of Military Organization
Predictions – PLAN ships in service by 2030
For the Chinese Military, a Modern Command System
Reforming the armed forces Command and lack of control
WALK, DON’T RUN: CHINESE MILITARY REFORMS IN 2017
Xi’s new model army
China Reduces and Restructures Army
People’s Liberation Army Reforms and Their Ramifications
China: The Dilemma of International Intervention
Promoting “young guards”: The recent high turnover in the PLA leadership (Part II: Expansion and escalation)
Promoting “Young Guards”: The Recent High Turnover in the PLA Leadership (Part I: Purges and Reshuffles)
In China, the People’s Army Is Still the Party’s Army
Hundreds of Chinese military veterans stage fresh protests over pensions
المصدر: الجزيرة