سعد كيوان
قد لا تبدو عشرة أعوام من عمر ثورة الشعب السوري التواق إلى الحرية شيئاً، أو غير كافية، مقارنة بما عاناه نحو خمسين سنة من قهر واستبداد وظلم نظام أثبت، يوماً بعد يوم، أنه السباق في ممارسة أبشع أنواع القمع والإجرام ووسائل القتل ضد شعبه، من استعمال السلاح الكيميائي إلى القصف بالبراميل المتفجرة وبمدافع الدبابات. فضلاً عن تشريد مئات ألوف لا بل ملايين السوريين، بالإضافة إلى الأسرى في سجون تدمر وصيدنايا وغيرهما، أين منها معسكر غوانتانمو، وصولاً إلى المجازر والمقابر الجماعية… إنها جرائم ضد الإنسانية حوّلت شعباً إلى حقل تجارب واختبار للتفنن في أساليب التعذيب والفظاعة في القمع والسحق التي يجيدها نظام الملالي في إيران، ولقّنها جيداً لربيبه بشار الأسد، ولنا في “أرشيف صور قيصر” (أكثر من خمسين ألفاً) خير دليل على ذلك! نظام أب وابن وحزب هو آلة استبداد جهنمية تمكّنت من تدجين (وتطويع) فئات وشرائح من المجتمع السوري التي لم يتح لها نظام الحزب الواحد والحاكم المستبد الأوحد مجرد التعرف على معنى الحرية، لأنها نشأت وتربت على “النظام المرصوص وتمجيد القائد والحزب” كل صباح في المدارس والجامعات والحضانات والفرق الرياضية والكشفية، وفي المؤسسات والدوائر الرسمية والحكومية، ما يتشارك في هذا كله مع كل أنظمة الحكم القومية العربية الاستبدادية. لذلك، بات يعضها يفكّر بطريقة النظام ويتصرّف مثله. وهي اليوم، ومن موقعها المعارض، تقاتله، وتريد أن تسقطه مستعملة النهج نفسه والأساليب نفسها. ولا عجب إن تحولت بعض شرائحها إلى أرض خصبة للحركات الاستئصالية، أمثال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وأخواته، وفي خدمة النظام نفسه. وربما شعار “ليسقط النظام ولتسقط المعارضة” الذي رفع في لحظة ما في بلدة كفرنبل، الواقعة على طريق حلب – اللاذقية، وعرفت بـ”أيقونة الثورة”، يعبر أصدق تعبير عن مأساة الشعب السوري.
للمعارضة السورية ما لها وما عليها، من إخفاقات وتشتت وشرذمة وارتهان للخارج، بعد أن فرض عليها بشار الأسد العسكرة، فقد رفعت الحركات والتنظيمات السياسية والمسلحة شعار إسقاط النظام بدون أفق ولا استراتيجية واضحة، ولا خطة عمل مشتركة، ولا إطار سياسي تمثيلي موحد وجامع، فيما انتهى بعضها إلى برامج وتوجهات إسلامية أصولية تسعى إلى استبدال قمع النظام واستبداده باستبداد أشد وطأة وأكثر همجية وظلامية، تمارسه اليوم في المناطق التي تسيطر عليها، والتي يغذّيها ممولوها ورعاتها الإقليميون.
غير أن النظام، وبفضل ثورة السوريين الأحرار، بات اليوم مجرد دمية في يد رعاته الخارجيين، وتحديداً روسيا التي خاضت غمار أول وأعقد تدخل عسكري في الخارج منذ تدخل الاتحاد السوفييتي السابق في أفغانستان سنة 1979، لإنقاذ النظام الأفغاني الصديق وبسط نفوذه في آسيا. تماماً كما يحاول أن يفعل اليوم الرئيس فلاديمير بوتين من أجل استعادة موطئ قدم روسيا في الشرق الأوسط، بعد أن تم إخراجها من ليبيا عام 2011 على إثر ثورة الليبيين على نظام معمر القذافي. ولكن موسكو تدخّلت لإنقاذ نظام الأسد المنهار في سبتمبر/ أيلول عام 2015، بعد أن كان قد سبقها الى ذلك نظام إيران الذي دفع مليشياته متعدّدة الأجناس والأعراق، تتقدّمها مليشيا حزب الله اللبناني، ثم تركيا وإسرائيل الحاضرة دائماً، بالإضافة إلى الولايات المتحدة، التي تحافظ على وجود عسكري لها في شمال شرق سورية لمراقبة المعبر الاستراتيجي الذي تحاول إيران أن تشقه وترسّخه من طهران إلى بيروت عبر الحدود العراقية – السورية. ومع ذلك، سلمت واشنطن لموسكو بدورها ونفوذها وتموضعها الاستراتيجي في سورية، غير أن بوتين لا يريد أن يغرق في أوحال سورية كما غرق ليونيد بريجنيف في أوحال أفغانستان. ولكن سورية اليوم هي مجموعة دويلات سورية تتقاسمها خمسة جيوش، إيران وتركيا وإسرائيل (لها السيادة في الجو) وأميركا وروسيا، موزعة التمركز والنفوذ، على الرغم من أن القرار الفصل يبقى لروسيا، إلا أن هذا لا يمكن أن يُرضي بوتين الذي يتحمل العبء الأكبر، والذي أدرك جيداً بعد أكثر من خمس سنوات على تدخله العسكري باهظ الثمن بشرياً وعسكرياً ومالياً وأمنياً أن الإمساك بسورية، بوصفها مفتاحاً جيوستراتيجياً في المنطقة، لا يمكن أن يتم إذا لم تقم سلطة ذات مصداقية في دمشق، تطلق ورشة الإعمار الباهظة، وتمهد لعودة ملايين النازحين السوريين إلى ديارهم كما ينص عليه قرار مجلس الأمن 2254. ولا يمكن أن يضطلع بهذه الورشة سوى أميركا والدول الأوروبية ودول الخليج، وشرط هذه الدول هو أقله خروج إيران ومليشياتها من سورية. وهذا هو عنوان المرحلة المقبلة من الصراع وحسابات النفوذ في سورية وعليها، وعلى الصعيد الإقليمي. وقد توصلت موسكو إلى هذا الاستنتاج بعد محاولات دؤوبة خلال السنوات الماضية، للالتفاف على هذا الواقع، عبر إيجاد إطارات بديلة من نوع مؤتمرات أستانة ثم سوتشي، وبدائل أخرى على الأرض لم يكتب لها النجاح، فهي تسيطر ولا تسيطر، لا في الشمال ولا في الجنوب. وحتى في دمشق، اضطرت إلى الضغط على الأسد وحصر نفوذه عملياً في محيط دمشق، واختراق الجيش والأجهزة، ثم إنشاء فرقة خاصة، هي الفرقة الخامسة التي تخضع كلياً لأوامر الضباط الروس من أجل وضع حد للنفوذ الإيراني، المتغلغل ليس فقط عسكرياً، وإنما يعمل على اختراق النسيج الاجتماعي، بالإضافة إلى سعيه الحثيث إلى نشر التشيع بين شرائح معينة بغرض تقويض الأرض من تحت أقدام روسيا.
وأمام موسكو اليوم خريطة تقاسم مناطق نفوذ جغرافي وسياسي على امتداد العمق السوري، تريد أن تُحكم إمساكها بها. وهي تعتبر أن حصة النظام هي عملياً من حصتها، لأن الأسد لولاها لكان اليوم في خبر كان، وتريد بالتالي أن ترسمل ما تدفعه منذ أكثر من خمس سنوات. أما إيران ومليشياتها فهي موجودة في معظم مناطق النظام، في الجنوب والشرق والوسط، إلا أنها لم تفلح في وقف اندفاعة فصائل المعارضة إلى داخل دمشق، فأرسلت جنرالها قاسم سليماني، الذي اغتاله دونالد ترامب، في بداية عام 2020، إلى موسكو طالباً تدخل بوتين لإنقاذ الأسد. ثم تركيا التي تسيطر على الشمال الغربي، وتسعى إلى التمدد في إدلب، إما عسكرياً أو بالتحايل على روسيا ومحاولة ابتزازها عبر استمالة بعض فصائل الشمال وتسليحها. فيما اختارت أميركا التمركز في أهم منطقة في الشمال الشرق الغني بالنفط، وتقوم بدعم وتسليح قوات سورية الديمقراطية (قسد)، وربما تعترف بالشمال كياناً خاصاً للأكراد. ومن موقعها، تراقب إيران ومليشياتها عبر الحدود العراقية – السورية، ومن قاعدة التنف العسكرية في الجنوب الشرقي.
من هذا المنطلق، كانت الجولة التي قام بها أخيراً وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إلى دول الخليج، والتي سمع منها بشكل واضح أن لا إمكانية لتعويم النظام، ولا مشاركة في تمويل إعادة الإعمار والاستقرار إذا لم تخرج إيران ومليشياتها من سورية، كما أن إسرائيل لن تسمح بوجود عسكري لإيران في سورية، وإقامة قواعد أو الاقتراب من هضبة الجولان، تماماً كما هو موقف الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي. وكان أول الغيث، فور عودة لافروف، أن وجّه دعوة إلى وفد من حزب الله لزيارة موسكو، جاءت بمثابة استدعاء، إذ كان الاستقبال بارداً جداً، ولم يدم اللقاء معه أكثر من عشرين دقيقة، أبلغهم خلاله أن على حزب الله أن ينسحب من سورية في أقرب وقت. وقد انعكست هذه الخطوة بشكل فوري على الداخل اللبناني، إذ قلب حزب الله الذي كان داعماً لخيار سعد الحريري على رأس حكومة اختصاصيين من غير الحزبيين الطاولة، وضغط باتجاه العودة إلى حكومة سياسيين، مهدّداً باللجوء إلى “خطوات غير قانونية وغير دستورية” كما جاء على لسان أمينه العام حسن نصر الله. توجّس حزب الله من التوجه الروسي يدفعه إلى التحصن في الداخل، وإحكام قبضته على أي حكومة جديدة ستشكل في لبنان.
هل ستشهد المرحلة المقبلة في سورية ضغطاً إضافياً على إيران وأذرعها؟ أكثر من مؤشّر يدل على أن طهران غير مرتاحة للتحرّك الروسي، وقد اختارت، على ما يبدو، التصعيد في اليمن والعراق ولبنان، بانتظار أن تتبلور نيات إدارة جو بايدن، الذي يبدو هو الآخر حائراً بين التصعيد والعودة إلى الاتفاق النووي. ولكن المؤكد أن سورية أصبحت عبئاً حتى على محتليها!
المصدر: العربي الجديد