ساطع نور الدين
كأنها البدايات الاولى.كأن التاريخ يعيد نفسه، ويستعيد وقائع ومواقف من مطلع القرن الماضي: الشعب الفلسطيني ينتفض على إمتداد أرضه الكاملة، النافية لقرار التقسيم، والحركة الصهيونية تستخدم مختلف أنواع الاسلحة التي تملكها من أجل ان تسود.
الجانبان يتذكران تلك الحقبة بالذات، العشرينات والثلاثينات التي شهدت التكوين الاول للهوية الوطنية الفلسطينية، والتأسيس الاول للكيان اليهودي، بدءاً من في مدن الساحل الفلسطيني التي شهدت الموجات الاولى من الهجرة اليهودية، والتظاهرات والرصاصات الاولى التي يطلقها من المقاومة الشعبية الفلسطينية في يافا، وحيفا، وعكا، واللد، والرملة، وتل ابيب..وفي غزة، التي كان لها على الدوام هامش متميز في الحراك الشعبي الفلسطيني، ثم في التفلت من القبضة الصهيونية.
موازين القوى هي نفسها، لم تتغير ولم تتبدل: جاء الصهاينة، مدججين بالسلاح المتطور، الذي كانت له الكلمة الفصل في إعلان الدولة عندما إنضمت الى المستوطنين الاوائل كتائب يهودية كاملة التسليح والتجهيز من فرق الحرب العالمية الثانية، فأخمدت الثورة الفلسطينية الاولى، وهزمت بسهولة فائقة الجيوش العربية مجتمعة، وجسدت المزاعم الصهيونية بالحصول على أرض بلا شعب..
الايام الراهنة، تكتب فصلاً جديداً من ذلك التاريخ المتصل: الفلسطيني لم يغادر، ولم يستسلم، ولن يسلم. وهو ما زال متشبثاً، كشعب واحد، أو على الأقل كوعي موحد، بأرضه الممتدة من البحر الى النهر، يقاوم ويقاتل. والاسرائيلي الذي حقق ما بدا له أنها معجزة، بات مضطراً مرة أخرى الى حمل السلاح والهجوم على الاحياء والمنازل الفلطسينية إينما وجدت، والتلويح بالاعلام والسكاكين والعصي.كأنه عاد الى سيرته الاولى، عصابات ومليشيات مسلحة، سابقة لوجود الدولة والجيش والمؤسسة، تخوض حرب شوارع فعلية، مع “جيران” كانوا شركاء في الهوية، ولو من الدرجة الثانية، فباتوا العدو الذي يكمن لهم على مفارق الطرق ويتحدى إقامتهم الممتدة أكثر من قرن على الارض الفلسطينية.
في تلك الدولة، كان الشرخ موجوداً على الدوام بين “المجتمعين” اليهودي والعربي. المعركة الحالية ساهمت فقط في تظهيره وفي تعميقه الى حد لم يسبق له مثيل منذ الانزال الصهيوني الاول على الساحل الفلسطيني.. وهو سيؤدي حتما الى صراع جديد على الهوية، وعلى الفرز السكاني، وربما أيضا على التهجير، بل وحتى مراجعة قرار التقسيم نفسه.
لكن نهاية ذلك الصراع، لن تكرر الماضي حرفياً. في البدء، حققت المعركة الراهنة حتى الآن إنجازاً إستراتيجياً مهماً: هي أوقفت، أو ربما عطلت واحدة من أشرس الحملات الاسرائيلية الاميركية التي كانت تستهدف إنكار صلة الشعب الفلسطيني بأرضه، تمهيداً لإنكار وجود ذلك الشعب بحد ذاته، على نحو ما كان يطمح الثنائي دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو في السنوات الاربع الماضية.
ربما تنتهي المواجهة الحالية الى إنتكاسة عسكرية وأمنية فلسطينية، لكن البرهان على أن الشعب الفلسطيني ما زال موجوداً على أرضه، من البحر الى النهر، والعطف ( أو حتى الشفقة) الذي يناله من الشعوب العربية والاجنبية كافة، بما فيها الشعب الاميركي نفسه، والذي أحيا من جديد، ولو بشكل خجول، أفكار التسوية التي بدا أنها دُفنت أيام ترامب، لا سيما منها حل الدولتين..لا بد ان يبعث بشكل أو بآخر عملية سياسية ما، تبنى مرة أخرى، ليس فقط على وجود الشعب الفلسطيني، بل على تصميمه وإرادته وإستعداده الدائم للفداء، مهما كانت موازين القوى مختلة لصالح اليهود، ومهما كانت مظاهر الخذلان العربي جارحة ومدمرة.
المعركة الراهنة هي إستعادة حرفية لمعارك مطلع القرن الماضي. هذا ما يتفق عليه الفلسطينيون والاسرائيليون في هذه الايام الصعبة. وهم يقاتلون اليوم على هذا الاساس، كأنهم يستكملون ما فاتهم، ويصفون حسابات الماضي التي لم تحسم، ولن تحسم.. إلا بإعتراف اليهود أنهم ليسوا على أرض بلا شعب، وبإعتراف الفلسطينيين أن قضيتهم بحاجة الى تحديث كامل، يشمل جميع رموزها وأدواتها.
لعل المعركة الراهنة هي مؤشر على بدء عملية التحديث تلك.
المصدر: المدن