فواز حداد
بعد مجزرة حماة شباط عام١٩٨٢، برر الرئيس الأب خراب مدينة، وقتل نحو 25000 من الأهالي بطريقة وحشية، إنما كان لوأد الفتنة، وتنظيف البلد من الإرهابيين الإسلاميين، كي يعيش ملايين السوريين بسلام واطمئنان. بعدها، لم يعرف السوريون السلام ولا الاطمئنان، ساد جو من الهلع والرعب.
استباحت الأجهزة الأمنية البلاد؛ كل من يشتبه به يعتقل ويتعرض إلى التعذيب، ربما حتى الموت، أو الإعدام شنقًا، أو يمضي سنوات طويلة في السجون قد لا تقل أحيانًا عن عشرين عاماً. جاء بعده الرئيس الوريث، وكانت الكارثة أكبر بما لا يقاس، لا أقل من قتل مليون سوري ذهبوا ضحايا حرب النظام على الشعب، التبرير نفسه؛ تنظيف سوريا من الإرهابيين، وبلغت الذروة في تهجير نحو سبعة ملايين بذريعة العمل على مجتمع منسجم، أي مجتمع من لون واحد، هذا إذا كان للخضوع والخنوع لون موحد.
تتعلل الأفكار التي يحملها الطغاة عن الإبادة بأنها لحماية المجتمع وتوفير الأمان، ما يسوغ قتلهم مهما بلغت هذه التصرفات من الهمجية، فإنقاذ الملايين يبرر مقتل الآلاف. لو افترضنا أن ما يُدّعى قابلًا للنقاش، فإنه يطرح سؤالًا أخلاقيًا لا مفر منه:
هل يجوز التضحية ببعض الأفراد في سبيل المجموع؟
هذا السؤال طرحه الروائي الروسي دوستويفسكي قبل أكثر من مئة وخمسين عامًا في روايته “الأخوة كارامازوف”، وفيها يطلب إيفان كارامازوف من أخيه إليوشا تخيل أن لديه القوة لخلق عالم يتمتع فيه الناس بالسلام والسعادة إلى نهاية الحياة، لكن لبلوغ ذلك يجب أن تعذب حتى الموت طفلًا صغيرًا.
.”هل ستفعل ذلك؟” يسأله إيفان
.”لا”. يجيب إليوشا بوضوح قاطع
إذ لا شيء يبرر تعذيب طفل، هذا كل ما يمكن أن يقال، إذ لا قيمة لأي عائد أو مردود من ورائه، عدا أنه غير مبرر، إنه أمر لا يمكن المساومة عليه، ولو كان فيه إنقاذ البشرية جمعاء من الموت والعذاب والدمار.
الكاتب الذي اقتدى بإليوشا كان الكاتب الفرنسي البير كامو، عبر عن موقفه بوضوح أيضًا:
“لن أكون مرة أخرى مع أحد أولئك الذين يتصايحون للقتل، مهما كانت صفتهم” يقصد حزبيين شيوعيين أو رفاقاً يساريين أو واقعيين، وربما مثاليين أيضًا. ولم يؤيد أي تبرير، رسمي أو شكلي للعنف خاصة الذي تمارسه الدولة.
اتخذ الفيلسوف جان بول سارتر الموقف نفسه، وتبنى هذا الرأي فلسفيًا، وإن من جانب آخر، اعتبر أن الفرق من الناحية الرياضية، يبقى حسابيًا، مع هذا يجب النظر إلى أن كل فرد هو كون لا نهائي، ولا يمكن مقارنة لانهاية بلانهاية أخرى. وفي الحالتين كارثة فقدان الحياة غير قابلة للحساب بالمعنى الحرفي.
فيما بعد، تحت تأثير الضغوط من الرفاق الشيوعيين واليساريين، انصرف سارتر عن هذا الرأي، وقرر أن المرء يستطيع، بل يجب عليه إجراء عملية موازنة بين طرفين بطريقة عادلة، يستحيل ألا تميل الكفة بين الكثرة والواحد إذ لا يتساويان. داحضًا دوستويفسكي وكامو، ونحا باللائمة على إليوشا، وأن موقفه لم يكن سوى تملص من هذا الواجب، مهما بلغ من الإنسانية، لكنها غير مقنعة، وتوصل إلى أن رفض القيام بعملية حسابية غير واقعية ولا عقلانية، بالتالي يمكن التضحية برضيع مقابل ملايين الأطفال، عدا ذلك ليس سوى أنانية.
بعد سنوات، في خمسينيات القرن العشرين، وانكشاف جرائم الستالينية، سيتراجع سارتر عن هذا الرأي الصادم كي يتخلص من وخز الضمير.
هذا الرأي عن جواز التضحية بحياة البشر، لم يكن رأي سارتر وحده، كان قد استمده من حجة عتيقة يتذرع بها الحالمون الشيوعيون، الذين أرسلوا الملايين إلى القبور والمنافي، من أجل مجتمع مثالي، وظل ساريًا حتى أيامنا هذه من دون شيوعية، ولا إيديولوجيات مغلقة، ولمجرد أوهام الوراثة التي تبيح التذرع بحجج تبرر التعذيب في السجون والقتل والإعدامات.. كان من أشدها توحشًا، الكلام الهمجي عن المجتمع المنسجم، وذلك بقتل وتشريد وتهجير وتجويع وتركيع الملايين من البشر.. هذا ما يحدث في سورية، يرتكبه رئيس وبطانة منحطة وموالون ومخابراتيون وشبيحة وميليشيات مذهبية ولصوص وأوغاد.
ليست الأنظمة الدكتاتورية الرثة، بصدد الإجابة عن سؤال غير وارد عن تعذيب طفل، ولا الجواب عن تساؤل يطول قتل وتعذيب أطفال وشيوخ ورجال ونساء وشباب، والقتل دونما رحمة، وإنما في أن تكون الحجج أسوأ من القتل نفسه.
المصدر: تلفزيون سوريا